في عام 1959 ظهر خبر في الصحف المصرية يفيد بوفاة عالم الآثار المصري “زكريا غنيم” إثر واقعة انتحار حيث ألقى بنفسه في مياه النهر الخالد بمنطقة “منيل الروضة”، وذلك على الرغم من أن الشخص نفسه قد ملئت أخباره الصحف في مصر والعالم التي تحدثت عن كشفه العظيم الذى فاق كل التوقعات.
كيف انتهت حياة ذلك العالم بتلك الطريقة المأساوية؟ وما هو كشفه الذى ترددت أصدائه في العالم أجمع؟
هذا ما سنعرفه في السطور التالية
من هو زكريا غنيم؟
هو عالم الآثار المصري المولود باسم محمد زكريا غنيم في عام 1905 في تلك الفترة من تاريخ مصر والتي كانت دراسة الآثار والتنقيب عنها حكراً على الأجانب حتى قام عالم الآثار الجليل سليم حسن بكسر تلك القاعدة ومن ثم بدأ نشاط البعثات المصرية للتنقيب عن الآثار ومشاركة المصريين بدور أكبر في البعثات الأخرى.
كان زكريا غنيم من الجيل الأصغر من سليم حسن وقد تتلمذ على يداه وعمل معه عام 1927 وكان زكريا غنيم وقتها في بدايات حياته المهنية.
في فترة ما قبل الحرب عمل زكريا غنيم في منطقة آثار “سقارة” ومع أحداث الحرب قام بالسفر إلى الأقصر ليعمل في منطقة آثار ذراع أبو النجا ليحقق العديد من الاكتشافات والنجاحات هناك ولكن الحدث الأكبر في حياته كان ينتظره مع العودة للعمل بـ سقارة مرة أخرى.
من هو الملك خوفو باني الهرم الأكبر؟
الهرم المدفون
مع عودة زكريا غنيم للعمل في سقارة كانت أعمال الحفائر والدراسة على أوجها بقيادة الفرنسي جان فيليب لوير، واختار زكريا غنيم قطاع آخر من منطقة سقارة ليعمل به مع علاقة طيبة مع الفرنسي.
ومع حلول عام 1954 تصدر اسم زكريا غنيم جميع الصحف المحلية والعالمية واقترن اسمه بكشف مذهل لهرم مدفون وملك نساه التاريخ.
اكتشف زكريا غنيم أحد أغرب الكشوف الأثرية في التاريخ، حيث كان كشفه عبارة عن هرم مدفون لملك مصري يدعى “سخم غت”، هذا الهرم الذى لم يكتمل بناؤه أبدا وتركه المصريون القدماء حتى ابتلعته رمال الصحراء.
في منطقة “سقارة” يعد أشهر الآثار هو الهرم المدرج الذى يعود لعصر الملك “زوسر”، والذى يعد مثالاً نادرا في العمارة المصرية، ولكن زكريا غنيم اكتشف بقايا هرم مدرج آخر يخص الملك “سخم خت” والذى يرجح أنه كان خليفة الملك “زوسر” على عرش مصر.
أسرار بناء الأهرامات «غرق التابوت ومهندس الهرم الأكبر وأقدم مومياء»
مع تولي أي ملك مصري للعرش فإن أول مشروعاته يكون بناء المقبرة الملكية الخاصة بالملك، وهو ما يتضح أن “سخم خت” قام به بالفعل، ويبدو أيضًا أن وفاته المفاجئة أو حتى تغيير مكان الدفن كان سبباً في ترك فريق العمل للمشروع.
عثر زكريا غنيم على بقايا درجتان من الهرم المدرج للملك وبعض بقايا الأبنية المحيطة بالهرم، حيث لم تكن أهرامات مصر مجرد أبنية قائمة بذاتها ولكنها جزء من مجموعة معمارية تسمى “المجموعة الهرمية”، وقد عثر زكريا غنيم على بقايا المجموعة المعمارية لـ سخم غت غير مكتملة أيضا.
كنز مدفون
كان وضع الاكتشاف فوق الأرض غير مبشر ولكنه مهم لأنه انتشل الملك “سخم غت” من غياهب النسيان وأعطانا معلومات عن فترة حكمه، ولكن ما كان ينتظر “زكريا غنيم” تحت الأرض أفضل بكثير.
مع استكمال الحفائر والعمل في الأبنية تحت الهرم والتي خصصت للدفن، يعثر زكريا غنيم على مجموعة من الأنفاق التي تحتوى على العديد من المقتنيات والأواني الفخارية بأعداد كبيرة ( وهو نفس ما عثروا عليه بداخل هرم الملك زوسر)، ولكن هذه المرة عثر “زكريا غنيم” على كنز من الحلي الذهبية ذات صنعة بديعة تشهد على تقدم مصري واضح ومبهر في تلك الفترة، وتم حفظ تلك الكنوز بالمتحف المصري حيث لا تزال معروضة حتى يومنا هذا.
التابوت الذى شهد فتحه جمال عبد الناصر لأول مرة
مع وصول زكريا غنيم لغرفة الدفن الملكية وجد نفسه أمام تابوت مصنوع من الألباستر ( الرخام)، والمفاجأة أن ذلك التابوت لم يكن مثل التوابيت المعتادة التي تكون مغلقة بغطاء حجري من الأعلى ولكن هذا التابوت كان يفتح من الجانب بمزلاج كان مغلقا بمزلاج، وهذا المزلاج كان مغلقا ومختوماً أيضا، مما يرجح أنه قد عثر على دفنه سليمة لم تمس، ولربما كانت مومياء الملك بالداخل.
وعلى الرغم من حدوث ذلك في أوج توابع ثورة 1952 إلا أن زكريا غنيم كان له نصيب من الشهرة والصيت الذائع عالمياً في تلك الفترة مما رفع اسم وسمعة الأثريون المصريون إلى عنان السماء في تلك الفترة وهو ما أثار حفيظة بل وغيرة الأجانب الذين كانوا يسيطرون تماما منذ عقود طويلة على أعمال الحفر والتنقيب في مصر.
على الرغم من ذلك حضر جمال عبد الناصر بنفسه مع كوادر الثورة ليشهدوا لحظة فتح زكريا غنيم لتابوت سخم غت، وكان ذلك الحدث هو أهم لحظات زكريا غنيم على الإطلاق، حيث أظهرت تلك اللفتة تكريم وتقدير رجال الثورة لكشفه الهام.
أمام الحضور ومع سطوع فلاش الكاميرات بدأ زكريا غنيم في فتح التابوت، يمر الوقت ببطء والجميع يتوقع كشف مذهل، حتى يزاح المزلاج بالكامل وتنكشف محتويات التابوت، ليجد الجميع مفاجأة مدهشة في انتظارهم.
التابوت خال تماما من أي مومياوات أو حتى إشارات لإتمام عملية الدفن به!.
على الرغم من تلك المفاجأة فذلك لم يقلل من أهمية كشف زكريا غنيم الذى احتفت به جميع المحافل العلمية ونشر كتابا عن كشفه بعنوان “الهرم المدفون” ومؤلفات أخرى عن أعماله وكشفه بمنطقة آثار سقارة ليكتب اسمه بأحرف من نور في تاريخ علم الآثار.
نهاية مؤلمة
مع أصداء كشف زكريا غنيم، سافر للخارج لإلقاء المحاضرات ونشر اكتشافه في المحافل العلمية، ومع عودته من الولايات المتحدة كان يتم التجهيز لترقيته وكان ذلك يعنى جرد المخازن الأثرية التي يشرف عليها ليتم الإعلان عن قطع مفقودة.
مع هذا الإعلان توجهت أصابع الاتهام لزكريا غنيم باعتبار تلك القطع هي عهدته الشخصية.
يبدو أن الإحباط والضغط النفسي الذى عاناه زكريا غنيم في أواخر أيامه كان له بالغ الأثر على نفسيته وروحه الطيبة التي لم تحتمل كل هذا الضغط، ليتم العثور على جثته عام 1959 في نهر النيل، بعد انتشار أخبار تفيد بانتحاره من منطقة “منيل الروضة”.
تمر الأيام وفى خلال وقت قصير يعلن “فيليب لاور” عالم الآثار الفرنسي العظيم وصديق زكريا غنيم براءته بعدما عثر بنفسه على القطع التي تم إتهام زكريا غنيم بفقدها. ولكن بعد فوات الأوان واكتمال سطور تلك المأساة.
وبناء عليه فإن وفاة زكريا غنيم شكك الكثيرون في كونها انتحارا بل أنها جريمة متكاملة الأركان بسبب الغيرة والحقد الشديد من نجاح مصري في تحقيق هذا الكشف الهام.
يبدو أن روح النيل “حعبى” كان أكثر رحمة بروح زكريا غنيم المرهفة فتلقفه في حنو بالغ بداخل النهر العظيم لعله يشهد إنصافا في مماته بعدما تعرض له من ظلم في حياته.
ومع اكتمال سطور تلك المأساة تحول “زكريا غنيم” لأيقونة مصرية وحكاية روح متعبة ستحلق إلى الأبد في سماء مصر، يتمنى من بنى وطنه ألا ينسوه ولا ينسوا ما حققه للمصريين ولمصر من إنجازات.
((إنه من الصعب علي أن أصف هذه اللحظات. خليط من الرهبة والفضول والشك. شعرت أن للهرم شخصية، وأن هذه الشخصية كانت مجسدة في الملك ذاته الذي بني من أجله الهرم ولا تزال أصداء أنفاسه تتردد بيننا)).”