الملك رمسيس الثاني هو واحد من أعظم الملوك البنائين في تاريخ مصر علي الإطلاق وتأتي إنجازاته منطقية لتاريخ طويل من الإنشاءات الإعجازية للملوك الذين سبقوه وعلي رأسهم الملك “سنفرو” أبو الأهرامات الذي شيد أربعة أهرامات في عصره.
كان لرمسيس طموحاً هائلاً منذ كان أميراً في قصر والده وقد صاغه حتي أصبح ملكاً فكان أول ما فعل هو البدء في مشاريع موسعة لبناء الآثار المصرية وكانت إحدي وجهاته هي النوبة السفلي القديمة والتي شيد فيها سبعة معابد منفرداً وهم معبدى أبو سمبل الكبير والصغير, جرف حسين, بيت الوالي, الدر, وادي السبوع, أكشا، سنتعرف عليها في هذا المقال
النوبة القديمة
يختلف مصطلح النوبة قديماً عما هو متعارف عليه حديثاً, فمصطلح النوبة حالياً يمكن أن يشير في مصر لدي البعض إلى سكان أسوان وما يليها جنوباًحتي السودان إلا أن في العصور المصرية القديمة كان التقسيم مختلفاً نوعاً ما.
في العصور المصرية القديمة إنقسمت النوبة إلي قسمين رئيسيين وهما النوبة السفلي والتي كان من اسمائها “تا سيتي” أرض القوس نظراً لبراعة رماة الأسهم القادمين منها الذين عملوا كمرتزقة رماة للأسهم في الجيش المصري وتمتد النوبة السفلي من أسوان وحتي وادي حلفا والنوبة السفلي شهدت أقدم التجمعات الحضارية في تلك المنطقة والتي زحف سكانها في عصور مختلفة جنوباً حتي تشكل عرق آخر وهو الجزء المتبقي من النوبة والذي يقع في السودان حالياً وكان يطلق عليه النوبة العليا والتي كان من ضمن أشهر ممالكها هو “مملكة كوش”, أما كلمة “نوبة” فهى مشتقة من كلمة “نوب” المصرية القديمة وتعني الذهب لأنها كان مصدر رئيسي للذهب في مصر القديمة.
في عصر الإمبراطورية المصرية والدولة الحديثة كانت النوبة تقع ضمن الممتلكات المصرية وقد قام ملوك تلك الفترة بتعيين قائد مصري حمل لقب “إبن الملك في كوش” وهو بمثابة نائب الملك لشئون إفريقيا, وقد شملت مهام تلك الوظيفة الإشراف علي كافة أعمال الملك بالنوبة ومن ضمنها الإنشاءات والآثار والمعابد, وقد كان أشهر نواب الملك في كوش في عصر رمسيس الثاني هم “إيوني”, “ستاو” , وحقا نخت وآمون إم إبت.
وقد كان للنوبة وضعاً خاصاً في العصور المصرية القديمة وكانت علاقتهم مع المصريين ما بين شد وجذب فمنصب نائب الملك في كوش كان من اهم مهامه هو حفظ الأمن بتلك المناطق, ومنذ عصور مبكرة إستن ملوك مصر القديمة سنة بناء المعابد بتلك المنطقة لضمان فرض السيطرة المصرية هناك ولا مثال علي ذلك أبلغ من منشآت الملك “سنوسرت الثالث” وقلاعه وحصونه الحدودية , وكذلك الملك أمنحتب الثالث الذي صدر في النوبة فكرة الملك المصري الخارق للطبيعة الذي يبدو كإله أمام هؤلاء في جزء من سياسة فرض السيطرة والنفوذ المصري وقد إتبع بقية الملوك سياسة أمنحتب الثالث في تلك المنطقة ولم يكن رمسيس باستثناء عن ذلك.
معابد أبو سمبل: المعبد الكبير
وهو المعبد الذي قام رمسيس بتشييده في منطقة أبو سمبل حالياً والتي كانت تعرف في العصر القديمة بمنطقة “إبشك” وقد بني رمسيس المعبد الكبير في جبل يدعي “محا” بنفس المنطقة.
كرس رمسيس المعبد للإله “رع حور آختي” سيد مدينة عين شمس, في ربط واضح ما بين الظواهر الشمسية المرتبطة بالمعبد من تعامد الشمس وبين الإله “رع” رب شمس النهار.
واجهة معبد أبو سمبل يمكننا أن نعتبرها صورة عائلية كبيرة لرمسيس الثاني وعائلته فجميع أفراد الأسرة حاضرون سواء في جداريات أو حتي تماثيل مصاحبة لتماثيل الواجهة الأربعة الهائلين الذين تقابلهم فور وصولك لمدخل المعبد, وحول المدخل والواجهة نجد مجموعة من اللوحات التي شيدها حتي موظفين من عصر رمسيس وأشهر تلك اللوحات هي لوحة زواج الملك رمسيس الثاني من الأميرة الحيثية وكذلك اللوحة التي صنعها الموظف “حقا نخت” نائب الملك في إفريقيا والتي عرفنا منه تاريخ تقربي لوفاة الملكة “نفرتاري” زوجة رمسيس الثاني.
بداخل المعبد تتعدد الصالات والتي قام رمسيس بتقسيمها بشكل جيد فالمناظر الجنوبية يظهر علي رأسها الإله “آمون” إله طيبة, والشمالية الإله “رع حور آختي” إله عين شمس , أى أن المعبد قد راعي تقسيم الشمال والجنوب حتي في مناظره, وقد إحتوت مناظر صالات أبو سمبل علي مناظر متعددة لرمسيس وهو يقوم بالطقوس وتقديم القرابين, وقد أخبرتنا العديد من تلك المناظر علي التعديلات التي قام بها رمسيس الثاني علي التصميم الأصلي فنجد أن مناظر الثواليث الإلهية قد تم تغييرها في بعض الأحيان لتضم رمسيس الثاني معهم!.
وينتهي المعبد بغرقة قدس الأقداس والتي تحتوي علي تماثيل الآلهة الثلاثة الكبار “آمون, رع, بتاح” وبينهم الملك رمسيس الثاني نفسه, ومناظر قدس الأقداس تخبرنا عما كان يدور بذلك المكان فتظهر المركب المقدسة للإله في مناظر قدس الأقداس كما ان قاعدة تلك المركب لا تزال موجودة بقدس الأقداس حتي يومنا هذا.
معبد نفرتاري
وهو المعبد الصغير الواقع شمال معبد أبو سمبل الكبير والذي كرسه الملك “رمسيس الثاني” لزوجته “نفرتاري” ومعها الإلهة “حتحور سيدة منطقة إبشك” القديمة, وقد أهداه رمسيس لها مدوناً علي الواجهة ” تشرق الشمس من أجلها” في لفتة مبهرة تعكس مدي حب رمسيس لنفرتاري.
الغريب في الأمر أن الأدلة الأثرية تخبرنا أن العمل لربما بدأ في المعبد الصغير أولا ثم تلاه المعبد الكبير , ومن الدلائل التي أخبرتنا علي هذا التعديل أن تماثيل واجهة المعبد الصغير قد حملت أسماءً مركبة تم تقسيمها فيما معبد في المعبد الكبير, فعلي سبيل المثال نجد أن تمثالاً فيهم يدعي “حقا تاوى رع إن حكاوو” ويعني : حاكم الأرضين شمس الحكام, بينما في المعبد الكبير يحمل تمثالان من الوجهة أسماء “حكا تاوي”, “رع إن حكاوو”.
بداخل المعبد الصغير نجد “نفرتاري” تلك الجميلة الرقيقة فى مناظر متعدة إما بصحبة زوجها رمسيس الثاني وإما منفردة في حضرة الآلهة المتعددة, وقدس أقداس ذلك المعبد كان مكرساً للإلهة حتحور وهو ما أخبرتنا به مناظر تلك الغرفة وكذلك بقايا تمثال البقيرة المقدسة بداخلها.
معبد جرف حسين
وهو معبد صغير كان يقع علي بعد 90 كم من جنوب أسوان حالياً وهو كعادة معابد رمسيس في النوبة كان منقوراً في الصخر بالكامل.
قام رمسيس بتشييد هذا المعبد وتكريسه للإله “بتاح” سيد مدينة منف وأحد الآلهة الكبار في مصر القديمة مع الإله “بتاح تا تنن” والإلهة “حتحور” ليكونوا ثالوث ذلك المعبد, من الأمور المثيرة للإعجاب في ذلك المعبد أن تخطيطه يشابه تخطيط معبد أبو سمبل الكبير تحديداً في التماثيل الواقفة الموجودة بالصالة الأولي.
مع بناء السد العالي كان معبد “جرف حسين” من أقرب المعابد إلي المياه والمهددة بالغرق لذلك تم تقطيع أجزائه مثل بقية معابد النوبة ولكن تلك الاجزاء تم وضعها علي جزيرة كلابشة ولم يتم إعادة تشييد المعبد مثلما حدث في أبو سمبل.
مع حلول عام 2001 قام المجلس الأعلي للآثار بعمل خطة لتطوير منطقة كلابشة وهنا عاد إسم “جرف حسين” ليتردد مرة أخري ولكن العاملين بالآثار وقتها وجدوا ان الرمال قد إبتلعت البلوكان الحجرية المقطوعة للمعبد وعددها 250 بلوك حجري, وبالفعل قاموا بإزاحة الرمال عنها وإعادة تنصيب المتبقي من المعبد علي جزيرة كلابشة وفي مايو من عام 2002 بدأت عملية إعادة تركيب أجزاء معبد “جرف حسين” والتي نجحت وبأيدي مصرية خالصة بعد أربعون عاماً من النسيان.
معبد بيت الوالي
وهو أقدم معابد رمسيس بالنوبة علي الإطلاق, وهو مكرس للآلهة “آمون رع, خنوم, عنقت” وكان موقع الأصلي 55كم جنوب أسوان ويقع حالياً علي جزيرة كلابشة بعد نقله أثناء إنقاذ آثار النوبة، وقد أطلق عليه إسم بيت الوالي نسبة إلى ناسك مسيحي سكن ذلك المعبد كعادة المسيحية في تلك العصور من سكني المعابد النوبية.
لهذا المعبد بعض التفاصيل الإستثنائية باعتباره أول معابد رمسيس في النوبة فنجد ان لقب تتويج رمسيس الذي جاء مراراً وتكرارً علي جداريات ذلك المعبد هو “وسر ماعت رع” مما وضع علماء الآثار في حيرة, فرمسيس لقب تتويجه بالكامل هو “وسر ماعت رع ستب إن رع” وذلك يعني أن ذلك المعبد لربما بدأ العمل فيه في عصر سيتي الذي لا توجد له جداريات بالمعبد علي الإطلاق فلكها لرمسيس وبذلك يكون رمسيس قد شيد معبداً لنفسه في حياة والده أو ان ذلك المعبد يعود لسنوات حكم رمسيس الأولي الثلاث والتي إستمر يستخدم فيها لقب “وسر ماعت رع”.
لم تظهر معركة قادش بالطبع علي جدران ذلك المعبد لأنها وقعت بعد تشييده ولكنه إحتوي علي العديد من المناظر الحربية وضرب الأعداء من النوبيين القدامي وظهر مصاحباً لرمسيس والداه “آمون حر خبش أف” إبنه البكري من نفرتاري وكذلك إبنه الأنجب علي الإطلاق “خع إم واست”.
ومن أشهر مناظر ذلك المعبد هو المنظر الذي قام المتحف البريطاني بعمل نموذج له من الجص يمثل إحدي حملات رمسيس علي النوبة ويعرض حالياً بالمتحف البريطاني.
وقد أخبرنا ذلك المعبد عن خطط رمسيس الشديدة التدين منذ سنوات حكمه الاولي فنجد ان رمسيس وضع نفسه في نيشات الحائط مرة بين الإله “خنوم” وزوجته “عنقت” ومرة أخري بين الإلهة “إيزيس” والإله “حورس سيد منطقة بوهن” أى أن رمسيس أعتبر نفسه العضو الثالث في الثواليث المقدسة قبل أن تتطور الفكرة في معبد أبو سمبل كما رأينا من قبل.
معبد الدر
وهو أحد المعابد التي تم نقلها في مرحلة متأخرة من إنقاذ آثار النوبة فقد تمت عملية النقل في عام 1965, , والمعبد مثل أبو سمبل مكرس للإله “رع حر آختي” سيد مدينة عين شمس وتاسوعها ومعه آمون وبتاح, وقد شيد هذا المعبد في نفس فترة تشييد معبد أبو سمبل فجاء مطابقاً له في التصميم والرسالة بإستثناء التماثيل العملاقة في الواجهة, فنجد ان تقسيم المناظر بين آمون ورع حور آختي جنوباً وشمالاً مثل أبو سمبل, كذلك ظهر رمسيس بين الثواليث المقدسة وأيضا يحمل المركب المقدسة بنفسه مصاحباً للكهنة.
معبد وادي السبوع
أطلق علي هذا المعبد إسم وادي السبوع نظرا لتماثيل أبو الهول الجالسة علي جانبي مدخل المعبد مما جعل سكان المنطقة يطلقوا عليه “وادي السبوع” ( وادي السباع), وهو مثل أغلب معابد رمسيس في النوبة مكرس للإله “رع حر آختي ومعه آمون وبتاح”, وقد قام رمسيس في هذا المعبد بداية من المدخل بطريقة مختلفة لإيصال رسالاته فنجد أن تماثيل أبو الهول الشمالية تحتوي علي مناظر لأسري أسيويين مقيدين, بينما الجنوبية أسري نوبيين قدامي في إشارة للشمال والجنوب, وقد تميز أحد تماثيل أبو الهول بتصميم فريد غاية في الندرة فبدلاً من أى يكون ذو رأس آدمي نجد انه برأس صقر في هيئة نادرة لم يفعلها سوي رمسيس.
ينقسم المعبد إلى صرح أول في مقدمته اربعة تماثيل متبق منهم تمثال واحد, ومن ثم يقودنا ذلك الصرح إلي فناء علي جانبه خمسة أعمدة تمثل رمسيس في هيئة الإله أوزير, ثم صالة أعمدة مكونة من 12 عمود في أربعة صفوف, يلي كل هذا الصالة الأمامية ثم قدس الأقداس في النهاية.
أما قدس الأقداس في ذلك المعبد فنجد أنه قد تحول إلي هيكل مسيحي تم طمس الإله “آمون” به ووضع القديس بيتر مكانه في مقصورة قدس الأقداس.
معبد أكشا
وهو المعبد الوحيد الذي يقع حالياً خارج الحدود المصرية وقد تم إنقاذه مع بقية آثار النوبة وتشييد المتبقي منه بالمتحف القومي السوداني بالعاصمة الخرطوم, وقد قام بإنقاذه علماء آثار من جامعة “غانا” في عام 1963.