الملك “إخناتون” هو بلا شك واحد من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل والخيال طوال تاريخ الإنسانية وليس تاريخ مصر القديم فقط، فهو في نظر البعض شخصية دينية تاريخية، وفي نظر البعض الآخر فيلسوفا عظيما قام بخطوة جريئة لم يسبقه إليها أحد فى التاريخ عندما دعا إلى عبادة إله واحد، والقائمة تطول لتشمل حتى خرافات وأساطير ارتبطت بهذا الملك المصرى الأيقونة.
من هو إخناتون؟
فى عصر تاريخي يطلق عليه علم الآثار الدولة الحديثة وهي التي تشكلت على يد الملك أحمس الأكبر قاهر الهكسوس مؤسس الأسرة الـ 18 المصرية، تنبه ملوك مصر إلى حقيقة أن العالم من حولهم تغير وأن بلادهم ليست في مأمن من هجمات الأعداء من كل الجهات خاصة الجانب الآسيوي، لذلك ركز هؤلاء الملوك كثير من جهودهم على الشق الخارجى سواء كان سياسا أم حربيا لضمان عدم تكرار مآساة احتلال الهكسوس لمصر مرة أخرى.
آمون إله الإمبراطورية
كانت أصول عائلة الملك “أحمس” ترجع إلى مدينة واست (طيبة – الأقصر حاليا)، ومع نجاح هذه الأسرة الباسلة في طرد الهكسوس من مصر أصبح الإله المحلي لمدينة طيبة وهو “آمون” (اسمه يعني الخفي) هو الإله الأكبر شأنا في الدولة المصرية، وتم دمجه مع الإله المصرى العتيد “رع” سيد مدينة “أون” القديمة (عين شمس حاليا)، ليصبح الإله الرسمي للدولة المصرية التي تحولت إلى إمبراطورية في عصر خلفاء الملك أحمس خاصة الملك تحتمس الثالث الذي كان أول إمبراطور مصري في التاريخ.
لم يقلل نفوذ الإله “آمون” من مكانة الإله “رع” في مدينة “عين شمس” ولا الإله “بتاح” فى مدينة “منف”، وكان لكهنوت هذا الإلهان قدرا عظيما في جميع أنحاء مصر ولكنه ليس بقدر الكهنوت الآموني في طيبة، الذي تحول إلى كهنوت الإله الإمبراطوري لمصر.
لم يكن الكهنة المصريين رجال دين فقط ولكنهم كانوا أيضا رجال علم ودنيا، يشغلون وظائف في الحياة المدينة بجانب وظائفهم ككهنة، كما أنه كان تحت تصرفهم الكثير من الموارد المخصصة للآلهة.
ظروف نشاة إخناتون
في نهاية الأسرة الثامنة عشر بلغت الإمبراطورية المصرية أقصى اتساع لها في عصر الملك “أمنحتب الثالث” الذي لم يكن ملكا تقليديا بجميع الأحوال، فمنذ بداية حكمه نجده تزوج فتاة من عامة الشعب تدعى “تي” ولم يكتفِ بذلك بل قام بترقيتها لمرتبة “الزوجة الملكية العظمى”، ما يعنى أنها ستكون أم ولي العهد وملك مصر القادم.
بلغت مصر فى عصر أمنحتب الثالث من الثراء والغنى ما لم تبلغه في أي عصر سابق أو تالي له، فرعايا الدول الأجنبية يجلبون الهدايا والعطايا باستمرار، والبعثات الدبلوماسية لا تتوقف من وإلى مصر، والأهم من ذلك أن ولاء الإمارات الآسيوية التي تقع تحت نطاق مُلك مصر يغدق عليها الملك الذهب بكميات مهولة لضمان ولائها باستمرار.
في هذه الظروف أنجب “أمنحتب الثالث” والملكة “تي” العديد من الأبناء كان أهمهم على الإطلاق أمير يدعى تحتمس وهو أكبر أبناء الملك والذي من المقرر له أن يكون ملك مصر القادم، بينما كان لهما ابن آخر يدعى أمنحتب (مثل والده) أصغر سنا تم إرساله إلى الشمال ليتلقى تربية ملكية جديرة بأمير من القصر الملكي، وهنالك سيتشرب أمنحتب الشاب العقيدة اللاهوتية للإله رع ويتأثر بها.
كان للأمير “تحتمس” شأنا عظيما فقد أصبح فى شبابه كبير كهنة الإله “بتاح” في مدنية “منف” وهي المدينة التي كانت مصنعا للملوك – إن جاز التعبير – طوال تاريخ مصر.
لكن فجأة وبدون أي مقدمات، يتوفى الأمير – ولي العهد – تحتمس ويصبح مكانه شاغرا فلا يجد والداه مفر سوى من استدعاء الأمير أمنحتب ليتم تجهيزه ليكون ملك مصر القادم.
بينما يتم تخليد الأمير تحتمس بأغرب وسيلة ممكنة حيث تم العثور على مومياء قطته الأليفة والتي كانت تدعى “تا مياو” (القطة) والتي لا يزال تابوتها موجودا في المتحف المصري الآن، والمفارقة أن هذا التابوت قد عرفنا من خلاله أن الأمير تحتمس كان بالفعل ولي عهد الملك أمنحتب الثالث حيث كانت نقوش التابوت تقول وبوضوح إنه أكبر أبناء الملك.
الأمير أمنحتب.. الملك أمنحتب
مع استدعاء الأمير “أمنحتب” إلى طيبة، لم تتغير خطط المستقبل كثيرا فما كان مقدر لأخيه الأكبر الراجل أصبح الآن مصير الأمير “أمنحتب”، والذي سيكون إمبراطور مصر القادم خلفا لأبيه.
فى البداية تشرب “أمنحتب” أصول الملكية في فترة حكم مشتركة مع أبيه دامت على الأقل آخر 8 سنوات من عمر أبيه، حتى كانت وفاة “أمنحتب الثالث”، والذي نعاه العالم القديم وليس مصر فقط، واستمرت برقيات التعازي تصل إلى القصر الملكى لمدة طويلة جدا من أنحاء الإمراطورية.
أمنحتب الرابع إمبراطورا
مع تولى الأمير “أمنحتب” عرش مصر منفردا كانت أمامه العديد من العقبات والمسؤليات باعتباره ليس ملك مصر فقط ولكنه إمبراطور العالم القديم الذى يملك من المستعمرات والحلفاء ما لا يمكن إحصاؤه، تم تتويجه تحت لقب “نفر خبرو رع، وع إن رع” ومعناه: الكامل لتجليات الإله رع، الواحد من الإله رع، بينما اسمه الشخصى أصبح “إمن حتب – نتر حقا واست”، ومعناه: أمنحتب – الإله حاكم واست (الأقصر)، وعرفته كتب التاريخ لاحقا باسم “أمنحتب الرابع”.
كما هو واضح فإن لقب تتويج “أمنحتب” كان ملفتا للنظر فهو يشير وبوضح للإله “رع” فى زمن كان لآمون السيطرة التامة والعرفان بالجميل في كل ما تفعله الإمبراطورية المصرية.
وتزامن تولى “أمنحتب الرابع” السلطة مع ظهور دور واضح لزوجته الملكية العظيمة (الزوجية الرئيسية) “نفرتيتي” والتي لطالما أثير الجدل حولها وحول أصولها على طول الخط.
وكذلك أمه الملكة “تي” التي ظلت تمارس دورها كالملكة الأم حتى بعد وفاة زوجها، وكان لها تأثيرا كبيرا في قصر ابنها لتعطيه من خبراتها في إدارة شئون البلاد.
وبدأ “أمنحتب الرابع” فترة حكمه كإمبراطور مصري تقليدي، فنجده يكمل ما بدأه أبيه من مباني، بينما تم تصويره في هيئة تقليدية في مقابر الموظفين المعاصرين لفترة حكمة المبكرة.
الطريق إلى أفق آتون
على الرغم من البدايات التقليدية لفترة حكم “أمنحتب الرابع” إلا أن ذلك لم يخلو من لمحات استثنائية تمثلت في إقامته – ولأول مرة – معبدا صغيرا للإله آتون بداخل مجمع معابد الكرنك وهو أكبر مجمع معابد في العالم وأكثر الأماكن قدسية في مصر وقتها، كما أنه أمر ببناء مقاصير (أماكن صغيرة للعبادة) للإله آتون في أماكن كثيرة بطول البلاد وعرضها.
وفي العام الثالث من فترة حكمه سيحتفل بعيد “سد” (عيد تجديد الشباب) والذي سيقدم القرابين فيه للإله “آتون” في خضم تلك الاحتفالات.
حتى كان العام الخامس من حكم “أمنحتب الرابع” والذي تغير فيه كل شيء وكانت بداية ذلك التغيير أنه غير اسمه ليكون “آخ إن إتن” ومعناه النافع لإتن (آتون) ويقرر بداية جديدة فى مكان جديد أطلق عليه “آخت إتن” (أفق آتون).
ماهى الأسباب التى أدت لذلك؟ ومن هو آتون حقيقة؟ ولم كان هذا التغيير الجذرى؟ هذا ما سنعرفه في مقال مقبل.