دوّن المصريون القدماء تفاصيل حياتهم بدقة على جدران المقابر، والمعابد وحتى فى الوثائق التى وصلت لنا من مصر القديمة من أوراق البردى، وفيما تركوا لنا كان هناك من الغرائب التى حار العلماء فى تفسيرها.

من أغرب المناظر التى ظهرت على جدران المقابر المصرية كانت مناظر “تزغيط” الضباع، وهنا أردنا استخدام اللغة العامية المصرية في لفظ “تزغيط” وتعني باللغة العربية الفصحى ” تسمين”، وهذا لا يستخدم إلا مع الحيوانات الأليفة كالبط والأوز، والديك الرومي.

تزغيط الضباع من مقبرة "مرى روكا".
تزغيط الضباع من مقبرة “مرى روكا”.

ظهرت تلك المناظر فى مقابر عديدة بمنطقة سقارة أشهرهم المنظر المصور فى مصطبة (مقبرة) الوزير “مرى روكا” والتى يظهر فيها المنظر محتفظ بألوانه كاملة، وكذلك مصطبة الوزير المعاصر له “كاجمنى” والمصطبتان تعودان لفترة زمنية واحدة وهى عصر الملك “تتى” من الأسرة السادسة حوالى 2323-2291 ق.م، والمنظران مكرران بنفس التفاصيل وبدقة مدهشة فى المقبرتين حيث يظهر عمالا يقتادون الضباع ليتم تقييدها سواء بالحبال أو حتى عن طريق أحد العمال بينما زميله يطعم الضبع عن طريق وضع يده بداخل فمه فى مشهد يمثل عملية (التزغيط) الشهيرة.

هل يمثل المنظر بالفعل تسمين “تزغيط” الضباع؟

فوق هذا المشهد كتب المصرى القديمة “وشا حثت” وهى جملة باللغة المصرية القديمة تنقسم إلى قسمين: الأول “وشا” وتعنى إطعام، والثانية “حثت” وتعنى الضبع (وهى كلمة لا تشير سوى للضباع فى مصر القديمة وليس أى حيوان آخر)، أي أن المصرى القديم أشار إلى أن هذه العملية هي (تزغيط) بلا شك.

حار العلماء كثيرا فى تفسير هذا المنظر والغرض منه، إذ أنه ظهر على نطاق ضيق جدا، وخرجت عدة تساؤلات أهمها: لم قام المصريون القدماء بتزغيط الضباع؟ هل أكلوا لحم الضباع أم كان مجرد قرابين؟ ما هو نوع الضباع التى يتم تزغيطها؟

فى البداية خرجت بعض التفسيرات تقول أن هذه المناظر ليست لتزغيط الضباع ولكن هذا الرأى حسمه المصرى القديم عندما أرفق مع المنظر جملة (إطعام الضبع).

جدير بالذكر أن المنظر يمثل جزءًا من منظر أكبر يمثل ما يشبه العيادة البيطرية لحيوانات متعددة وليس الضبع فقط، أى ان المنظر ككل يمثل الاهتمام بالعديد من الحيوانات كانت الضباع من بينها.

ما هى انواع الضباع؟ وأى منهم مصور فى منظر التزغيط؟

تنقسم عائلة الضباع إلى أربعة أنواع وهى ( الضبع المنقط، الضبع البني، الضبع المخطط، ذئب الأرض) وارتبط بمصر نوعان منهما وهما: الضبع المخطط، ذئب الأرض.

أنواع الضباع الأربعة.
أنواع الضباع الأربعة.

هذان النوعان تحديدا ليسا بنفس شراسة الضبع المنقط الشهير فى القارة الأفريقية والذى تتبادر صورته في ذهن المرأ عندما تأتى سيرة الضباع، فالضبع المخطط مثلا هو حيوان قمام لا يهاجم إلا فى ظروف خاصة جدا بينما ذئب الأرض هو حيوان ليلى خجول يندر اختلاطه بالإنسان.

ذئب الأرض.
ذئب الأرض.

وذهب العديد من العلماء إلى أن المنظر المصور هو للضبع المخطط بينما رأى البعض الآخر أنه لذئب الأرض بدون وجود دليل حاسم على كلاهما، وإن كان الضبع المخطط مرشح بقوة أكثر لأنه ليس بندرة ذئب الأرض ولا خجله فى الاختلاط بالبشر.

الضبع المخطط.
الضبع المخطط.

ولكن هذا لم يفسر السؤال الأهم وهو:

هل أكل المصريون القدماء لحم الضباع؟

منذ عصور طويلة وحتى الآن اشتهرت بعض المجتمعات بأكل لحم الضباع، ومتداول وبكثرة على موقع يوتيوب العديد من الفيديوهات لبعض المجتمعات البدوية فى شبه الجزيرة العربية يصطادون الضباع وياكلونها، لكن ماذا عن المصريين القدماء؟

تزغيط الضباع من مقبرتى "مرى روكا" و"كاجمنى".
تزغيط الضباع من مقبرتى “مرى روكا” و”كاجمنى”.

حتى الآن لا يوجد دليل على أكل المصريين القدماء لـ لحم الضباع وإن كانت هناك معلومة هامة تركها لنا المصرى القديم.

على موائد القرابين كان المصرى القديم يصور القرابين التى تترك للمتوفى سواء كانت من طعام وشراب أو حتى قرابين سائلة أو محروقة بانواع مختلفة، وظهرت كلمة “حثت” (الضبع) كأحد القرابين فى مناسبات نادرة، وحيث أن ليس كل ما يوضع على موائد القرابين يؤكل لربما كان الضبع مجرد نوع من أنواع القرابين المحروقة أو حتى الطقسية ولا يعنى بالضرورة أنه طعام، ومع عدم وجود أدلة مادية تدعم فرضية الأكل فإن فرضية القربان هى الأقرب ما لم يظهر دليل ينفيها.

وفى جميع الأحوال فهذا المنظر الفريد يمثل أحد الغرائب التي تركها لنا المصري القديم كتفصيلة بسيطة في حياته أثارت تساؤلات عديدة ومدهشة في عصرنا الحالي.