عادت الحضارة المصرية لتتصدر العناوين بوكالات الأنباء وحول العالم مع عملية نقل 22 مومياء ملكية و17 تابوتاً من المتحف المصرى بالتحرير إلى متحف الحضارة بالفسطاط، هذه المومياوات التي ترقد بالمتحف المصري في التحرير منذ أكثر من مائة عام ولكن كيف وصلت إلى المتحف المصري في المقام الأول؟
جاءت تلك المومياوات من مكتشفات أثرية عديدة منفصلة حتى أو مجمعة، ففيها ما تم العثور عليه في مقابر منفردة ومنها ما تم العثور عليه فيما أطلق عليه خبايا الآثار، وقد كان أشهر تلك الخبايا : خبيئة الدير البحري.
خبيئة الدير البحري
بداية من العام 1871 بدأت قطع أثرية ملكية فريدة في الظهور في متاحف أوروبا مما لقت انتباه “اوجوست مارييت” باشا الذى كان أميناً للمتحف المصري ورئيس مصلحة الآثار المصرية في القاهرة، كان مارييت يعلم أن تلك الآثار قد خرجت من الأقصر بشكل ما ولكنه لم يمتلك الأدوات الكافية التي تمكنه من التحقق من ذلك بسهولة في زمن كانت الآثار المصرية فيه عرضه للنهب والسلب وحلم كل مغامر أو سائح يأتي إلى أرض مصر.
وقد قام مارييت بتحرياته التي أثمرت عن ثلاثة أسماء، الشقيقان أحمد ومحمد عبد الرسول وشخص يدعى مصطفى أغا والذى كان قنصلاً للعديد من الدول الأوروبية وجميعهم مقيمون بالأقصر.
كانت مهنة قناصل الدول الأجنبية بداية من عصر محمد على باشا لا تعدو كونها مهنة للإثراء السريع فجميعهم يعملون مقاولين للآثار من الباطن ويسهلون عملية نهب وسرقة الآثار المصرية لمن يدفع أكثر وقد كان أشهر القناصل شراسة في نهب الآثار هما قنصلي إيطاليا وإنجلترا في عصر محمد على باشا وهم هنري سولت وبرناردينو دورفيتى اللذان نهبا من آثار مصر ما لا يمكن إحصاؤه.
عودة إلى مارييت تشاء الأقدار بحلول عام 1881 أن يتوفى ويحل محله جاستون ماسبيرو وهو فرنسي آخر والذى كان على موعد مع كشف أعظم أسرار الحضارة المصرية القديمة.
تحكى السجلات الرسمية والصحف وحتى مذكرات ماسبيرو أنه تم استجواب الأخوين عبد الرسول، بل وتم احتجاز أحدهما وتعذيبه بمعرفة داوود باشا في مديرية قنا ولكن لم يسفر ذلك عن شيء بعدما شهد أعيان قرية القرية التي يسكن بها الأخوان بطهارة يدهما، ولكن السر انكشف مع ذهاب محمد عبد الرسول إلى المديرية للإبلاغ عن كنز عثروا عليه في وادى الملوك بعدما نشب الخلاف بين أفراد الأسرة على توزيع الأنصبة.
العنزة التي كشفت السر
روت جريدة الأهرام منذ 136 عام القصة فذكرت أن الأخوين كانوا يرعان أغنامهما في الوادي ومن ثم شردت إحداهما حتى وقعت بداخل بئر في نقطة عالية بجوار جبل الدير البحري، فذهب أحد الاخوين ورائها ليجد الحفرة أمامه وصوت العنزة بالأسفل، سرعان ما أتى الأخوان بحبل ونزلا إلى أسفل الحفرة ليجدوا مجموعة من التوابيت مزينة بالكوبرا الملكية والتي تدل على أنها توابيت لملوك، وكذلك بعض المقتنيات من أثاث جنائزي ومتاع وحتى أواني وأوعية.
ومع اعتراف محمد عبد الرسول تم الإرسال في طلب جاستون ماسبيرو الذى ذهب إلى الأقصر بصحبة أحمد كمال باشا مترجم المتحف المصري والذى سيصبح أول رواد علم الآثار المصرية من المصريين، وتوجها بصحبة محمد عبد الرسول إلى موقع الخبيئة، ومع نزولهما إلى الحفرة أيقن الاثنان أن هذا هو أهم كشف أثرى في التاريخ على الإطلاق!
ترجع أهمية ذلك الكشف أن مقابر وادى الملوك كلها كانت قد تم نهبها في عصور قديمة، وكانت المعرفة بملوك مصر القديمة وقتها مقتصرة على النصوص التي تركوها وكذلك الآثار، ولكن أن تقف أمام أجساد هذه الملوك وجهاً لوجه! فهذا شيء لم يكن في أحلام ماسبيرو ولا أحمد كمال.
الكهنة والخبيئة
احتوت الخبيئة على مومياوات ملكية قام الكهنة المصريون بتخبئتها في تلك المقبرة في محاولة أخيرة لإنقاذ ملوكهم العظماء بعد نهب جميع مقابر وادى الملوك، وقد نجح ما فعلوه لتعثر عليها مصلحة الآثار في عام 1881.
مع نهاية الفترة التاريخية المعروفة باسم الأسرة العشرين والتي كان جميع ملوكها يحملون اسم رمسيس وهى الأسرة التي عرفت باسم أسرة الرعامسة كانت مقابر وادى الملوك في تلك الفترة يتم تأمينها عن طريق دوريات حراسة من محاربين نوبيين يطلق عليهم “مدجاى”.
وقد قام الملوك بتعيين دوريات حراسة على الوادي بعدما انكشف سره وعرف الجميع أن هناك عشرات المقابر الملكية منقورة بصخور الوادي والتي كانت مطمعاً للصوص والباحثين عن الكنوز في العصور القديمة.
وقد انتشرت ظاهرة سرقات المقابر في أواخر الاسرة العشرين على وجه التحديد وهو ما ما أطلق عليه: برديات سرقات المقابر، وهى برديات تحمل تحقيقات قام بها المصريون القدماء مع لصوص مقابر حقيقيين قاموا بانتهاك حرمة الملوك المتوفيين وسرقة كنوزهم.
ومع نهاية الأسرة جاء ما يسمى “عام الضبع” وهو العام الذى يعتقد فيه أن جميع مقابر وادى الملوك قد تم نهبها أثنائه، وهو العام الذى شهد الكثير من الفوضى والإضرابات الداخلية بل وحتى الاشتباكات الأهلية التي كانت أشبه بحرب داخلية.
وذلك مع ضعف النفوذ الملكية وتصاعد النفوذ الكهنوتى، وقد انتهت فصول ذلك الصراع بانقسام مصر إلى مملكة شمالية وأخرى جنوبية يجلس على عرشها ملكين مختلفين وفى أغلب الأحيان كلاهما من الكهنة.
على الرغم من سوء الأوضاع في تلك الفترة إلا أن فكرة حفظ التراث القديم كانت في ذهن هؤلاء الكهنة الذين قاموا بالفعل باستخراج مومياوات الملوك من مقابرهم على مراحل دونوها في تقارير على التوابيت، أعطوا تابوتا لأى مومياء جردت من تابوتها، قاموا بإعادة لف لفائف الكتان للمومياوات التي انكشفت لفائها ومن ثم أعادوا دفنها في المقبرة التي تقع في نقطة عالية بجوار معبد الدير البحري والتي عرفت باسم DB 320 ويشير أول حرفين منها إلى “الدير البحري” يليها رقم المقبرة نفسها.
احتوت تلك الخبيئة على مومياوات لملوك أشهرها: رمسيس الثانى, سيتى الأول, سقنن رع, أحمس الأكبر وغيرهم من ملوك وملكات وحتى أمراء وأفراد العائلات الملكية، ولأول مرة في التاريخ على الإطلاق كان العالم مع موعد الكشف عن وجوه هؤلاء الملوك.
شادي عبد السلام: المومياء
لم يوجد أروع مما صوره شادي عبد السلام في فيلم المومياء عن تلك القصة، على الرغم من اختلاف أحداثه عن الواقع بعض الشيء إلا أن ما قام به في ذلك العمل حفر اسمه إلى الأبد في تاريخ السينما العالمية، فقد قام بعمل نماذج طبق الأصل من التوابيت والمقتنيات، وكانت معظم مشاهد الفيلم عبارة عن لوحات فنية متقنة الصنع تعبر عن بيئة وثقافة مدينة الأقصر وقتها وكذلك الديكورات والإكسسوارات التي طابقت الواقع بشكل مذهل، وكان أهم مشاهد ذلك الفيلم هو نقل الرفاص النهري لمومياوات الملوك متجهة إلى متحف القاهرة.
نقل شادي عبد السلام ذلك المشهد من مذكرات ماسبيرو نفسه الذى قرر هو وأحمد كمال نقل المومياوات بأقصى سرعة خوفاً من مهاجمة الأهالي لهم، وقد ذكر ماسبيرو أن فور تحرك الرفاص في نهر النيل أخذ النساء في اللطم والعويل بينما أطلق الرجال الأعيرة النارية على شرف ملوكهم القدماء.