في الثاني عشر من يناير من كل عام يحتفل الامازيغ في شمال إفريقيا برأس السنة الأمازيغية وقد كان ذلك الإحتفال الغرض منه المحافظة علي الهوية الامازيغية لتلك الإثنية المنتشرة بدول شمال إفريقيا علي رأسها الجزائر والمغرب ، الطابع الرسمي لذلك الإحتفال يتعلق فقط بالهوية الأمازيغية التي تحاول أن تجد لنفسها مكاناً وسط الثقافة العربية بعدما كانوا هم السكان الأصليين للبلاد وهي محاولة محمودة للتعبير عن الثقافات المختلفة بين أبناء الشعب الواحد، إلا انه ومع كل عام وبداية الإحتفال برأس السنة الأمازيغية تخرج الأصوات التي تحاول ربط ذلك الإحتفال بالحضارة المصرية فنجد من يذكر منهم أن أصل ذلك التقويم هو إنتصار ملك أمازيغي يدعي ششنق علي الملك رمسيس الثالث وفى رواية أخري رمسيس الثاني, ويذهب البعض منهم إلى أن الحضارة المصرية مقتبسة من الأمازيغ كعادة الكثير من الشعوب التي تحاول أن تقتبس من الحضارة المصرية لتدعيم ماضي لهم حتي وإن لم يكن هناك تأصيلاً تاريخياً لتلك الأمور, ففي بعض الأحيان تكون الدعايا هي الغرض والتي لا تتوازي في معظم الأحيان مع معلومات صحيحة.
وإنه لمن الإنصاف أن نذكر أن تلك الأصوات لا تتخذ في الغالي طابعاً رسمياً أو موقفاً حكومياً لتلك الدول والشعوب، إلا أن كثرة ترديد تلك الخرافات علي المدي البعيد قد يؤدي لإثارة لغط كبير في المستقبل وترويج تلك المغالطات والخرافات بإعتبارها حقائق, في هذا المقال سنحاول إستقصاء تلك المزاعم لنعلم إن كانت صحيحة أم لا.
من هم الأمازيغ؟
هي مجموعة إثنية منتشرة في دول الجزائر والمغرب وليبيا بشكل مكثف وعلي نطاق أقل في دول مثل موريتانيا ومالي والنيجر كما يوجد مجموعات مشابهة لهم في دول مثل بوركينا فاسو وواحة سيوة بمصر, ويبلغ عددهم الأكبر الذي يمكن أن يصل إلى عشرون مليوناً في المغرب, وما يقارب ثلاثة عشر مليوناً في الجزائر حتي تصل إلى اقليات صغيرة في دول عديدة من بينها مصر التي يبلغ تعداد من لهم أصول امازيغية فيها بحوالى ثلاثة وعشرون ألفا متركزين في واحة سيوة , علي ان تلك الأرقام الواردة معظمها غير رسمى ناتجة عن مؤسسات غير رسمية أو تطوعية او غير هادفة للربح أو حتي لها أهداف دينية للحصر والتعداد وعلي رأسها ما نشره مجلس الهجرة واللاجئين الكندي في عام 2000 متناولاً قضية -بربر- أمازيغ المغرب.
الأمازيغ هم أيضاً المجموعة الإثنية التي عرفت في النصوص القديمة بإسم “البربر” Berbers والمشتقة من الكلمة اليونانية Barbaria والتي تعني أرض البربر, إلا أنهم حالياً يطلقون علي أنفسهم إسم الأمازيغ وهو المسمي الذي يعتقد أنه مرتبط بالكلمة التي ذكرت في النصوص المصرية القديمة وهي “مشوش” لتشير لبعض القبائل التي سكنت الصحراء الليبية, ومن ثم اليونانية ذكر مؤرخين مثل هكاتيوس كلمة مازيس, وهيرودوت ماكسيس ومن ثم في اللاتنيةي نجد كلمة ماسلي وماساسيلي , علي أن تعدد القبائل التي سكنت تلك المناطق من الأرض يجعل من الصعب تحديد وبدقة أصل التسمية بشكل قاطع ومحدد.
الأصول القديمة للامازيغ في مصر؟
مع ذلك الربط الذي يحاول بعض الأمازيغ تحقيقه لإيجاد أصول لهم في مصر القديمة فإن أبسط ما يمكن أن نفعله هو تتبع خيوط تلك القصة عبر التاريخ المصري القديم نفسه, فلم تكن مصر بمعزل عن العالم أو عن جيرانها القدماء, ولكن عملية البحث تواجهها بعض العراقيل أولها: أن الثبات التاريخي والحضاري لمصر مكننا من تتبع فصول وأحداث الحضارة المصرية القديمة عبر آلاف من الأعوام وهو ما لم يتحقق مع من حولها من جيران, فنجد أن جميع الأعراق القديمة قد تغير أماكن سكناها وأسمائها حتي طبقاً للمصري القديم, فالنوبة القديمة علي سبيل المثال تحتلف جغرافيا بل وعرقياً عما يصفه الناس اليوم بالنوبة فقد أعطاهم المصري القديم العديد من المسميات علي مر العصور بل وفرق بينهم ولم يعتبرهم من جنس واحد, ونفس الأمر يسري علي الحدود الشمالية الشرقية بداية من صحراء سيناء, والأمر نفسه بطبيعة الحال في الغرب حيث صحراء مصر الغربية وشرق ليبيا حالياً, فقد عرفت أجناساً بمسميات عدة سكنت تلك المناطق, ومنها: التحنو, التمحو, المشوشو, الليبو, وغيرهم.
وإذا كان الأمازيغ – بل وحتي بعض المصريون المعاصرون- يعتبرون أن سكان واحة الواحات المصرية أمازيغاً وليسوا مصريين فهذا إفتراض من الصعب تأكيده بشكل تام وكامل, فتلك المناطق مما نعرفه من الأدلة الأثرية كان يسكنها متمصرون ولهم جبانة – جبل الموتي- تعود لعصر الأسرة 26 المصرية مما يشير لأنهم إتبعوا الديانة والعادات المصرية القديمة وكان يحكمهم موظف مصري حمل لقب “حاكم الواحات” بل أن كلمة واحات هي كلمة مصرية قديمة تنطق مثلما تنطق الآن, وكذلك واحة سيوة كان لها إسماً مصرياً قديماً وهو “شالي”, أى أن الثقافة المصرية قد وصلت إلي هناك مثلما هو الحال في المناطق الحدودية المصرية جميعاً.
وإختلاط هؤلاء القوم بجيرانهم الأقرب علي الحدود الليبية جعل عاداتهم وحتي لهجاتهم ولغاتهم المحلية أقرب لليبيا من مصر مثلما هو الحال مع النوبة الأقرب ثقافياً للسودان هي الأخري مما يجعل من الصعب الإعتماد علي التشابه الحالي وضرورة العودة للوراء بالزمن لمحاولة فهم وتفنيد تلك التشابهات, وحتي الآن فلن أنفي أو أقر شىء بعينه ولكني فقط سأحاول أن استعرض المقدمات التاريخية التي أدت بنا إلى هذه المعطيات الحديثة التي لا يمكن فهمها بما هو ظاهر من الأمور فقط.
التحنو و(صلاية الليبيين)
كانت علاقة المصريين بتلك المجموعات الإثنية والقبائل ذات تاريخ ممتد وبالغ القدم وذلك لقدم تاريخ مصر نفسها وقدم التوثيق الذي تركه المصريين طوال عصورهم التاريخية, ومن أقدم الوثائق لدينا ما يسمي “صلاية الليبين” (تعرف أيضاُ بإسم صلاية الغنائم الليبية, صلاية الحصار, صلاية المدينة), وهي صلاية لطحن الكحل مصنوعة من حجر الشست موجودة بالمتحف المصري تحت رقم JE27434 , الصلاية مهشمة للغاية ولم يتبق الكثير من نقوشها علي الجانبين, ففي أحد الجوانب نجد أقدام لبعض الأشخاص, أسفلهم ما يشبه بسبعة مدن حصينة كتب أسمائها بداخلها بالعلامات الهيروغليفية بينما أعلي تلك النقط الحصينة نجد رموز حيوانية مثل صقر, أسد, عقرب تمسك العلامة الهيروغليفية المسماة “مر” وتطبق علي أعلي تلك المدن وقد إختلف علماء الآثار علي تفسير ذلك المنظر فمنهم من يعتقد أن ذلك المنظر يمثل تدمير تلك المدن أو النقط الحصينة وأن تلك الحيوانات الممثلة بالأعلي هي رمزية لذلك التدمير أو أسر تلك المدن, بينما ذهب البعض الآخر إلى ان ذلك المشهد يمثل تأسيس لتلك المدن وليس تدميرها.
علي أية حال فالأمر يزداد إثارة مع تفحص الجانب الآخر من الصلاية والذي يمثل أربعة صفوف , الأعلي منها يظهر صف من الثيران البالغة القوة يليه صف من الحمير ثم صف من الكباش واخيراً بستان من أشجار الزيتون بجواره علامة هيروغليفية بالغة الأهمية تنطق “تحنو”, وهي عبارة عن عصا بومرانج علي شكل بيضاوي ,وكانت تلك الكلمة التي تشير لغرب الدلتا وقتها.
وقد سميت الصلاية بصلاية الليبيين نظراً لان ذلك الإسم “تحنو” قد ظهر لاحقاً في التاريخ المصري ليشير لأجناس سكنت ليبيا القديمة, أى أن مراد القول أن تلك الأجناس قد خرجت من مصر لتسكن الجزء الغربي من الصحراء وليس العكس, حيث أن تلك الصلاية تعود لفترة حضارة نقادة الثالثة 3200- 3000 ق.م والتي ينتمي لها الملك “مينا” موحد القطرين.
فمن الواضح – وأغلب الظن – أن منشا تلك القبائل كان غرب الدلتا في مصر ومن ثم إتجه الكثير منهم غرباً حتي الواحات الغربية وكذلك الصحراء الليبية أي انهم ذي أصول مصرية بدأت معهم قصة إستيطان ذلك الجزء من القارة الإفريقية, ووما يدعم ذلك أيضاً تكرار مناظر مشابهة في صلايات أخري تعود لذلك العصر منها صلاية الصيادين والتي تصور مناظر لصيد الحيوانات يستخدم فيها البومرانج علي رؤؤسهم ما يشبه الريشتان وهي السمة التي ستميز الأجناس التي ستسكن الصحراء الغربية وليبيا قديماً.
الليبو (ليبيا)
في عصر الدولة الحديثة ظهر مصطلح مهم أشار به المصريون لقبائل سكنت ليبيا قديماً والذين أطلق عليهم المري القديم “ربو”, “لبو”, “ليبو”, وقد ظهر ذلك المصطلح بكثافة في عصر الأسرة التاسعة عشر والملك رمسيس الثاني علي وجه التحديد, وقد كانت تلك التسمية هي أصل إسم ليبيا فيما بعد.
وقد كان لهؤلاء القوم باعاً في حرب ضروس حدثت بينهم وبين الملك “مرنبتاح” حاولوا فيها إحتلال مصر نفسها وسنتطرق لتلك المعركة فيما بعد.
المشوش
المشوش هو أحد المسميات التي أطلقها المصري القديم علي قبائل سكنت شرق ليبيا حالياً, وقد إختصر المري القديم ذلك المسمي أحيانا مكتفيا بان يطلق علي هؤلاء القوم “ما” بدلاً من مشوش, وقد ظهر ذلك المصطلح في عصر الدولة الحديثة والأسرة الثامنة عشر المصرية في عصر الملك أمنحتب الثالث, وقد ذكرت نصوص تلك العصر أيضاً مصطلحات مثل تحنو, ليبو بجانب المشوش لوصف تلك التجمعات القبلية في ليبيا باختلاف القبائل.
ليبو وتحنو ومشوش؟
مع تعدد المسميات كعادة المصري القديم حتي لسكان منطقة جغرافية واحدة يمكننا أن نستنتج الآتي , وهو أن تلك المناطق كان يسكنها قبائل دائمة الترحال تغير بهم الحال بمرور الزمن مع ثبات الخط الحضاري المصري فببساطة ما حدث أن المصري القديم سجل لنا ما رآه وما عاصره, فمن الواضح أن أقدم المسميات التي ظهرت هي “تحنو” والتي من المرجح أنها استخدمت في بادىء الأمر للإشارة لسكان غرب الدلتا ومن ثم إنتقل هذا المسمي لوصف سكان المناطق الحدودية المصرية المشتركة مع شرق ليبيا, وبمرور الزمن تعددت القبائل والمسميات فظهرت مسميات أخري مثل “مشوش” وليبو” وغيرهم, وهو ما حدث بالضبط في النوبة القديمة التي بدأت مظاهرها الحضارية في النوبة السفلي المسماة قديماً “تا سيتي”, ومع الضغط والتمدد المصري جنوباً إتجه هؤلاء الأقوام أكثر إلى الجنوب فظهرت حضارات النوبة العليا وظهر مسمي “كوش” الحديث جداً مقارنة ب “تا سيتي”, كذلك فإن التاريخ المصري نفسه يثبت بعض المسميات حتي باختلاف الأعراق فعلي سبيل المثال كان فرقة الحراسة الخاصة بوادي الملولك تسمي “مدجاي” والتي كان قوامها في البداية من أجناس نوبية ولكن بمرور الوقت نجد أن مصريين قد خدموا في تلك الفرقة وفي بعض الأحيان كانوا هم القوام الرئيسي لها ولكنها إحتفظت بنفس الإسم “مدجاي”, أى ان المسمي نفسه كان ثابتاً حتي مع إختلاف العرق نفسه, وهو ما يعود بنا إلى نقطة البداية فبمن يمكننا ربط أمازيغ اليوم؟ بالليبو أم التحنو أم التمحو أم المشوش؟
هذا هو ما سنحاول الإجابة عنه في المقال القديم لنعرف اكثر علاقة هؤلاء الأقوام مجتمعين بمصر علي مدار عصورها التاريخية.