يسود العالم الإفتراضي ومواقع التواصل الإجتماعي شبه إجماع علي مقولة قالها الإمبراطور المصري القديم “تحتمس الثالث” :نحن الأمة التي صنعت الأخلاق, ويتعامل البعض من منطلق حب الحضارة المصرية علي ان هذه المقولة حقيقة بشكل لا يقبل الشك باعتبار الأخلاق والحضارة التي وصل إليها المصريين القدماء, إلا أنه للأسف فتلك المقولة من تأليف كاتبها – غير معروف- ولم يقلها الملك تحتمس الثالث ولم ترد علي لسانه او في أى اثر مصري, وعلي الرغم من ذلك فإنها صحيحة بشكل قاطع لما وصل إليه المصريين القدماء, ليس من المهم ترديد الشعارات ولا المقولات المفبركة ولكن الأهم هو معرفة لماذا كان المصريون القدماء هم فعلا من صنعوا الاخلاق.
الدين مصدر للأخلاق؟
علي الرغم من ترابط مفهوم الدين والأخلاق وتشابكه حتي في المعتقدات الحالية إلا أن الإثنين مفهومين مختلفين بشكل كبير, فيمكننا أن نعرف الدين على أنه مجموعن من املعتقدات والممارسات التي تنظم سلوك الإنسان تجاه عالم المقدسات والآلهة,وهي منبع لوصف دور الإنسان ومكانه في هذا العالم, أما الأخلاف قهي القواعد والممارسات التي تنظم سلوك أفراد المجتمع تجاه بعضهم البعض وكذلك تجاه آلهتهم, فالأخلاق تنشأ لحل المشاكل الناجمة عن التنافس المجتمعي سواء كان بين أفراد ومجتمعات والذين في النهاية يعملون سوياً لتسوية خلافاتهم ونزاعاتهم التي خلقتها حياتهم المشتركة.
مصدر الأخلاق في مصر القديمة؟
إختص المصري القديم آلهته بالقيم الأخلاقية التي إنعكست علي البشر, فكانت الآلهة أصحاب اليد المحسنة والأعمال الخيرة وعلر رأسهم الإله “اوزير” الذي أحبه المصريين وبجلوه لآلاف الأعوام بل أنه كان أشهر إله عبد علي الأرض في فترة ما, وقد كان عالم الآلهة في مصر القديمة متشعباً ومعقداً لدرجة وجود جوانب وأوجه عدة لتلك الآلهة, فعلي سبيل المثال فإن الإله “ست” يشتهر بأنه إله الشر في مصر القديمة إلا ان ذلك منافياً تماماً للواقع ولما رآه المصري القديم, فالإله ست يمثل الجانب الفوضوي من النفس البشرية بتقلباتها ومزاجها الغير ثابت وفي نهاية الأمر رآه المصريون القدماء كإله عتيد من أبناء إله الأرض “جب” فلا عجب إذن أن كان “ست” هو حامي مركب الإله “رع” في رحلته ضد المخاطر ليشرق على بنو البشر, وكان ست هو الذي يصد الثعبان “عبب” والذي كان يمثل قوي الشر والظلام في مصر القديمة, كذلك فإن المصري القديم رأي “ست” هو المعادل للكوني للنظام, فالنظام لن يوجد سوي بوجود الفوضي والعكس صحيح, فكان غاية ما يطمح المصري القديم إليه هو وجود تناغم ما بين عالم البشر والآلهة والكون كله.
كذلك فإن لبعض آلهة المصريين جوانب متقلبة كالبشر تماماً, وهو ما نراه في اسطورة هلاك البشرية عندما غضب الإله رع من سخرية النوبيين منه لتقدمه في السن فأرسل عينه المدمرة “حتحور” التي إتخذت هيئة الإلهة “سخمت” واعملت القتل والتذبيح في البشر.
إلا ان محور عقيدة وأخلاق المصري القديم إستند بشكل مختزل علي رحلة إنتصار النور علي الظلمات والتي كان يمثلها الإله رع في رحلته اليومية للإشراق والغروب, ولكن كيف إنعكست كل تلك المفاهيم علي الأخلاق في مصر القديمة؟
الأخلاق والمجتمع
يمكننا أن نلخص الأمر ببساطة وهو أن الدين كانت ركيزته الأولي هي الآلهة, والأخلاق كانت ركيزتها الأولي هي الإنسان نفسه, وبالإنسجام بينهما تتاح الفرص للمجتمع باكمله بأفراده باختلاف قوتهم وضعفهم, فعلي سبيل المثال ركز المصري القديم في عدة نصوص علي أن الإله قد خلق البشر متساويين لذلك فعند حدوث عدم مساواة فذلك يكون إنتهاك الإنسان لإرادة الأخلاق نفسها, ومثالاً علي ذلك فإننا نجد متناً من متون التوابيت يلخص تلك العلاقة بشكل عبقري.
يقول الإله الخالق :خلقت كل واحد مثل اخيه ,وحرمت ان يقترفوا (الإسفت وتعنى : الذنوب / المعصية/الفوضى)ولكن قلوبهم خالفت ما قلتهإن العالم المنبثق من الاله الاول لم يكن يحتاج الى دولةولكن اصبحت الدولة هى الوسيلة الوحيدة التى يمكن تحقيق العدالة والتضامن والانسجام فى العالم ,بعد الانشقاق الذى سببه القلب البشرى صاحب التمرد الاول.
القانون في مصر القديمة
من المدهش عدم وجود قوانين مكتوبة من مصر القديمة باستثناء بعض الحالات القليلة وعلي رأسها تشريعات الملك “حور محب” والتي نقلها للعربية د.باهور لبيب وعلق عليها د.صوفي أبو طالب في السبعينيات.
ولكن دعنا من تشريعات حور محب لبعض الوقت الآن, ولنعود للحقيقة الغريبة التي تقول بعدم وجود قوانين مكتوبة أو دستور للمصريين القدماء ينظم أمور الدولة وشئون التعامل مع المواطنين, علي الرغم من عدم وجود قانون مكتوب بالفعل في مصر القديمة إلا اننا يمكننا أن نستخلص بعض الأعراف – بمثابة قوانين- التي تحكم المجتمع المصري القديم وذلك من خلال النصوص الدينية , والتعاليم التي تركها الحكماء المصريون القدماء منذ أقدم العصور, وكذلك نصوص كتاب الموتي – الخروج في النهار- والتي تتضمن الإعترافات التي ينكرها المتوفي عن نفسه لينال الخلود في العالم الآخر.
اذا كنت حاكما بین الناس , فاستمع بھدوء الى شكواھملا تمنع شاكیا من أن یكمل حدیثهو یفصح عما بداخلهو اعلم أن المرء حین یكون فى كرب ,فان الافصاح و المكاشفة تغسل قلبهلیس كل ما یطالب به الشاكى یمكن أن یتحقق ,و لكن حسن الاستماع لشكوى الناس یریح قلوبھم.الحكيم المصري:بتاح حتب
– لا ينبغي محاباة الامراء والموظفين ولا ينبغى استعباد كائنا عندما يأتى شاكيا من مصر العليا والسفلى .– من واجبك العمل على أن يتم كل شيء طبقا للقانون.– أن يحصل كل على حقه . أن ما يحبه الإله هو أن يتحقق العدل علي الارض.– انظر إلى من تعرفه كما تنظر إلى من لا تعرفه .لا ترد شاكيا قبل أن تستمع إلى قوله .من نصوص السيرة الذاتية للوزير رخ-مى رع
والفارق الزمني بين “بتاح حتب” ورخ-مى رع” يوضح إستمرار النظام القضائي في مصر القديمة وإرتباطه بما يمكننا أن نطلق عليه القانون المصري في تحديد الخطأ من الصواب. بل أن النصوص المصرية القديمة تركت لنا ما هو أبعد من ذلك فنجد الكاتب المصري آني والذي لم يشغل منصباً قضائياً ينصح بالرفق بالزوجة وعدم شكواها في المحاكم – المحالس القضائية وقتها- وهو ما يوحي بوجود حتي محالس قضائية لفض حتي النزاعات الأسرية.
ولكن يتبق السؤال لماذا لم تكن هناك قوانين مكتوبة في مصر القديمة؟
كما ذكرنا فإن أخلاق البشر التي تنظم تعاملاتهم سوياً كانت مستمدة من عالم الآلهة والذي كان له وقعاً مذهلاً في النفس المصرية القديمة, فالمصريون كانوا بالغي التدين شديدو التدين مدققون فيما يتعلق بدينهم, لذلك لإنتقلت لهم تلك المعرفة الأخلاقية كخبرات متراكمة جيلاً بعد الآخر, وقد وصف المصري القديم كل ما هو جيد وطيب بأنه متسق مع الماعت, بينما كل قبيح وشرير كان يطلق عليه “إسفت” وهو ما يعني ذنب أو معصية, ولربما يستغرب البعض من مثل هذا القول أو الاستنتاج, إلا انه بالقياس فلا نجد نصوصاًُ أو دليل يشرح كيفية زراعة المصري القديم لأرضه وتفاصيل تلك العملية فقد عرفها هي الأخري بالسليقة وبالخبرات المتراكمة.
لماذا إحتاج حور محب لسن تشريعات؟
إذا كان ما سبق قد تناول – بشكل مختصر- عدم وجود قوانين مكتوبة في مصر القديمة, فلم إحتاج الملك “حورمحب” لسن تشريعاته الشهيرة التي عرفت بتشريعات حور محب؟
والحقيقة أن إجابة هذا السؤال تتعلق بالظرف الزمني نفسه, فقد تولي الملك “حور محب” عرش مصر في بداية القرن الرابع عشر قبل الميلاد, في أعقاب نهاية فترة العمارنة, والتي إنتهت بنهاية خكم إخناتون ومن ثم خلفاؤه علي العرش من أسرته والمرتبطين به حتي كان تولي قائد الجيش “حور محب” زمام الأمور بعد فوضي عارمة كانت سطور نهاية حكم الملك “آى”, وقد وجد “حور محب” البلاد في حالة مزرية سيئة, فالنهب والسلب منتشر في البلاد, بل أن القائمين علي تطبيق القانون هم من ينهبون الخيرات حتي جنود الجيش أنفسهم والذي كان هو قائده.
وقد كانت تشريعات حورمحب تهدف إلى استعادة توازن الدولة المصرية والتعافي من فترة الفوي والقضاء علي الفساد لإستعادة النظام والنهوض بالأمة المصرية في تلك الفترة العصيبة.
نصت تشريعات حور محب علي العديد من النقاط كان أهمها ما يلي:
- معاقبة الإداريين الذي يضهطون الفقراء ويزيدون عليهم في الضرائب وكانت العقوبة تتراوح ما بين جدع الأنف والنفي إلى قلعة ثارو “تقع بسينا”.
-
معاملة الفلاح بحسن النية دوماً وإعفاؤه من الضرائب المفروضة عليه إذا سرقت أو ماتت ماشيته بشرط إثباته لذلك.
- معاقبة سارق الجلود برد أضعاف ما سرق وجرحه في حمس مواضع من جسده
-
زيادة مخصصات الإداريين والقادة وإستقبالهم في القصر الملكي وتخصيص مكافئات لهم من جيب الملك شخصياً
-
تعيين وزيرين واحد للشمال وآخر للجنوب, وتجريم تلقيهم للرشوة
- المساواة في العقاب بين العسكريين والمدنيين
- معاقبة من يسرق من مخصصات المعابد برد ما سرق حتي مائة ضعف مع جدع أنفه ونفيه
-
معاقبة كل قاضي يتهاون في تنفيذ القانون ويحكم بالباطل بعقوبات تصل للإعدام
-
تأكيد الحقوق العامة والحرمات كالطريق والمسكن, وتحديد مهمة الموظف والإداري كخادم للشعب وليس وصياً أو متجبرا عليه.
وبعد أن عرفنا تلك الصفحات المضيئة من تاريخ الأخلاق والقانون المصري يتبق لنا معرفة ما هي الماعت؟ وكيف عرفنا قيماً أخلاقية من الموتي في مصر القديمة؟ .. ولهذا حديث آخر.