طريق الإله أو طريق المواكب الذي نطلق عليه إصطلاحا ً الآن إسم طريق أبو الهول أو طريق الكباش والذي كان مرتبطاً بعيد مصري قديم ومهم جدا وهو عيد الأوبت.
كان عيد الأوبت أضخم إحتفالات المصريين السنوية في عصر الإمبراطورية المصرية وكان مرتبكاً بمعابد الكرنك ومعبد الأقصر, وإرتبطت طقوس ومغزي العيد بالإله آمون الإله المصري الإمبراطوري.
سنحاول سوياً معرفة لماذا إحتفل المصري القديم بعيد الأوبت ورمزية ومعني هذا الإحتفال, ولفهم الموضوع لا بد أن نري الأمور بمنظور المصري القديم وهو ما سيجعلنا نسافر عبر المكان لمدينة الأقصر أو واست القديمة وعبر الزمن لزمن سحيق وهو الزمن الذي ظهر فيه الإله آمون علي أرض مصر.
آمون: من إله الأقصر إلى إله الإمبراطورية
وهو الإله المحلي لمدينة الأقصر والذي تحول للإله الإمبراطوري بعدما دان له بالفضل الملك أحمس قاهر الهكسوس فصى نصره وتحرير مصر, كلمة آمون تنطق باللغة المصرية القديمة إمن وتعني الخفي, وقد ظهر آمون في هيئات كثيرة منها هيئة بشرية يرتدي تاج له ريشتان طويلتان وفي بعض الأحيان كان التاج يزينه قرص الشمس وهنا يأخذ آمون صفات الإله رع أحد الآلهة الأزلية في مصر ليأخذ منه السلطان والأزلية,كذلك نجد ان آمون يأخذ صفات الإله مين رب الخصوبة والفحولة, وبداخل معبد الكرنك يتحول الإله آمون ل “مين آمون” , كذلك فقد ظهي الإله آمون في هيئات أخري ومنها كبش ذو قرنين ملتويين وفي بعض الأحيان بجسد بشري ورأس كبش.
كانت زوجة الإله آمون هي الإلهة موت وإسمها معناه “أم” فهي في معتقد القدماء أم كونية , أما إبنهما فهو الإله “خونسو” رب القمر والمسافرين وكان ثلاثتهم يشكلون الثالوث المقدس لمدينة طيبة أو واست القديمة.
الإله الخفي
في الفكر الفلسفى الديني لمدينة الأقصر القديمة كان هناك تصور عن الإله آمون باعتباره القوى الخفية المحركة لكل شيء, ففي البدء أوجد الخالق نفسه في هيئة ثعبان وكان إله أزلي خفي لا يستطيع أحد أن يراه, أبعد من السماء وأعمق من العالم السفلي كما ذكرت النصوص.
وهذا الإله كان إسمه إمن ولقبه كم آتف ومعناه المتم الذي أتم زمانه او أتم عمله وبعد زمن قدره هذا الإله لنفسه إختار لنفسه مكاناً بعيداً لستقر فيه إلي الأبد وخلق خليفة له وهو كيان آخر يدعي إمن إير تا “آمون خالق الأرض” بما فيها ومن عليها وإستقر في مينة طيبة لدهر من الزمان وبعدها لحق بسلفه كم آتف في المكان الخفي وهو كهف سحيق موقعه أسفل معبد هابو الذي بناه الملك رمسيس الثالث.
وقبل خلوده للسكون أوجد إير تا كياناً آخر وهو آمون “نسو نترو” أو آمون ” نب نسوت تاوى” ملك الآهلة , رب عروش الأرضين وكان مستقره هو معبد الكرنك مقر جميع العروش ومن هناك في الأقصر حكم آمون الكون وولي نيابة عنه ملوك مصر الذين أصبحوا أبناءً للإله آمون ومن ثم تجسيد هذا الإله نفسه.
وبما أن آمون نسو نترو قد إختار طيبة كمقر للحكم فيمكننا أن نستوعب إسم مجمع معابد الكرنك الذي أطلق عليه المصريون القدماء “إبت سوت” ومعناه الحرم المقدس, كذلك أطلقوا عليه بر آمون وتعني بيت وضيعة آمون فهو المكان الذي يحتوي عيل ممتلكات هذا الإله ومنه يحكم فهو مقر حكمه.
وإن كان الكرنك بهذه الأهمية فما هو دور معبد الأقصر؟
الأقصر : أرض أزلية مقدسة
إذا كان بناء معبد الأقصر قد بدأ في عصر الملك أمنحتب الثالث من الأسرة الثامنة عشر فغن تاريخ الأقصر يعود لزمن أقدم من ذلك بكثير, فأرض معبد الأقصر مقدسة منذ بداية الدولة الوسطي وقد أسفرت اعمال حفائر عن أسماء لملوك شيدوا في المنطقة وهم الملك امنمحات الأول من الاسرة الثانية عشر وكذلك الملك سوبك حتب الثاني من الأسرة الثالثة عشر.كذلك نجد أن الملك احمس قاهر الهكسوس له نص مؤرخ بالعام الثاني والعشرون من حكمه من محاجر المعصرة في طرة يقول فيه إنه تم إعادة إفتتاح المحجر بعد توقفه لبناء عدد من المعابد وكان منهم معبد في منطقة إبت رسيت مكرس للإله آمون وإسم هذا المعبد إمن إم إبت رسيت.
وفي فترة الحكم المشتركة للملكة حتشبسوت وإبن أخيها الإمبراطور تحتمس الثالث فنجد انهم أقاموا ستة مقاصير لإستراحة المراكب المقدسة وكذلك مقصورة لإستراحة تماثيل ثالوث طيبة آمون وموت وخونسو, وموجودة الىن بفناء الملك رمسيس الثاني بمعبد الأقصر وقد قام رمسيس بترميم هذه المقاصير وكتب نصاً يقول فيه بوضوح أنه قام بترميم هذا الأثر من أجل ابيه آمون, ويعكس هذا النص وبوضوح نفي الفرية التي تتهم رمسيس بأنه كان يسرق آثار الملوك الذين سبقوه يوكتب إسمه عليها في حين أن الواقع أن أمر ترميم الآثار له أبعاد وظروف خاصة ومعينة بعيدة تماما ً عن تفسير سرقة الأثار المنافي للحقيقة.
بعد الشروع في تشييد معبد الأقصر في عصر أمنحتب الثالث نجد أن العمل توقف في عصر إبنه إخناتون والذي كان يعادي الإله ىمون شخصياً وتم إستكمال أعمال البناء في عصر الملك توت عنخ آمون الذي إتخذ لقب حقا أون شماع ومعناه حاكم هليوبوليس الجنوبية وهى مدينة طيبة, ومن بعد الملك توت نجد آثارا في الأقصر لحور محب , سيتى الأول , رمسيس الثاني وحتي الإسكندر الأكبر.
لقد وجد آمون طيبة ” عين رع” مثل تل أزلي , قد برز من بداية الوجود ومنذ أن خلقت تلك الأرض
من نصوص رمسيس الثاني بمعبد الأقصر
معبد الأقصر: الحرم الجنوبي
مع إستيعابنا لفلسفة الخلق في مدينة الأقصر وكذلك فلسفة كيان الإله آمون يمكننا أن نفسر إسم معبد الأقصر والذي أطلق عليه القدماء إسم “إبت رسيت” ومعناه الحرم الجنوبي, وقد تم ترجمة هذه التسمية قديما “الحريم الجنوبي” باعتباره مقراً للحريم ولكن الواقع يقول بأن المعبد حرم إلهي وليس مجرد مقر لحريم الإله.
معبد الأقصر بلا شك يجسد أرض مصر, فنجد ان المعبد يبدأ بأرضية مستوية وكلما مضينا بداخل المعبد نجد ان الأرضية ترتفع تدريجياً بإتجاه الجنوب, وإذا ذكرنا ذلك بشيء فهو أرض ومصر ومسار نيلها وفيضانه الذي يجري من الجنوب للشمال,
مع الوصول إلى آخر نقطة في المعبد وهي قدس الأقداس الذي يمثل آخر نقطة في مصر العليا وصعيد مصر, نجد أن قدس الأقداس نفسه يظهر من بعيد وكأنه مبني علي أرض مرتفعة وهو بلا شك تجسيد لقمة التل الأزلي الذي نشا منه الكون
شيد من أجل “آمون” معبداً فوق الأرض الحقيقية , حيث منطقة أول حدث “الخلق الأزلي” وموقع العطايا والعبادات وسماع شكاوي الآلهة والناس , لقد شيد هذا المعبد من أجله إبن رع رمسيس محبوب آمون.
من نصوص رمسيس الثاني بمعبد الأقصر
ومما يدلل علي ذلك أيضا هو ممر أعمدة معبد الأقصر الذي يمر من الجنوب للشمال في تمثيل لشريط ومجري نهر النيل, وقد تم تصوير مناظر عيد الأوبت في هذا المكان , أما الأعمدة نفسها فنجد انها تمثل نباتات بردي بزهور متفتحة وكأنها علي ضفتي نهي النيل الخالد أو الإترو عا كما اطلق عليه المصريين القدماء “النهر العظيم”, ومحور معبد الأقصر نفسه جنوب شمال وهو إمتداد مصر ومجري نيلها.
معبد الأقصر هو الحرم المقدس الذي ظهر عليه الإله آمون بنفسه, ونظراً لإرتباط الإله مين بالخلق فنجد أن الإله آمون يظهر بهيئة الإله مين بداخل معبد الأقصر , كان الإله آمون يزور أسلافه في عيد يسمي عيد الوادي ويجدد قواه عن طريق عيد الأوبت، وظهور الإله ىمون في صورة الإله مين بداخل معبد الأقصر بيعكس دوره داخل المعبد في عيد الأوبت لإرتباطة بالخلق والخصوبة بشكل عام
كذلك نجد ان معبد الأقصر إحتوي علي مصطلحات ومناظر الولادة الإلهية مما يثبت أن المعبد له علاقة بتجديد الحياة للملوك وخروج الآلهة من عالم السكون وعودتها للحياة ومن ثم عودة الحياة لملوك ومصر وشعبها وأرضها مرة أخري.
كان المعبد يمثل مركز الكون نفسه لأننا نجد أن به مقاصير أخذت محور شرق غرب وتم تصوير رحلة الإله رع في النهار والليل علي متن مراكبه “معنجت” و”مسكتت”, وكانت تلك المقاصير تمثل ضم الشرق علي الغرب في مصطلح اطلق عليه المصري القديم “آخت” او الافق وهو ما يعني الكون نفسه.
وبما أن المعبد هو مكان تواجد وخلق الإله آمون فنجد أنه يتحكم في الكون بأكمله منه.
بني معبد الأقصر بفلسفة “بت حر تا” السماء علي الأرض ومعناه إنطباق السماء علي الأرض , فبنجد أن غرف المعبد ينخفض سقفها تدريجيا مع إتجاهنا لقدس الأقدس والذي بداخله تنطبق السماء على الأرض ويكون الإله الذي يسكنه هو المتحكم في أسرار السماء وخبايا الأرض والكون بأكمله.
إنه آمون الذي عرف كل خفايا السماء وأسرار الأرض
رمسيس الثاني , معبد الأقصر
الإحتفالات المقدسة
كانت العلاقة بين معبد الأقصر ومعبد الكرنك وثيقة وذلك لان المعبدان يكملا بعضهما البعض لانهما في الأصل كيان واحد, وتمكننا الإحتفالات الدينية من قهم ذلك الأمر فنجد أن تلك الإحتفالات وكعادة المصريين القدماء كانت شيء منظم كل حركة ورمز فيها له مغزي, ففي عيد الإبنت الذي كان يسمي “حب إن إنت” ومعناه عيد الوادي الجميل كان يلتئم الشمل ما بين الأحفاد الأحياء وأسلافهم الاموات فيعبر الإله آمون البر الغربي ليلتحم مع أسلافه كم آتف وإير تا, بينما يزور معابد ملايين السنين للملوك المتوفين مثل الرامسيوم ومعبد حتشبسوت وكذلك معبد هابو الذي يحتوي علي الكهف السحيق.
لذلك فقد شيد معبدي الكرنك والأقصر شرق النيل بينما المعابد الجنائزية غرب النيل, ومعبد الأقصر يقع شرق معبد هابو حيث أسلاف الإله آمون.
وكذلك يقع معبد الأقصر جنوب معبد الكرنك وتتم الحركة بينهما في عيد الأوبت, أى ان أمتداد شرق غرب كان عيد الإنت وإمتداد جنوب شمال كان عيد الأوبت في تعامل عبقري فلسفسي راقي ربط فيه المصري القديم جهات الكون الأربعة بمعتقداته الدينية وأعياده.
اما عيد الأوبت فكان عيداً شعبياً بل أنه اكبر الأعياد الشعبية في تاريخ مصر, وكان الأوبت مرتبطاً بالفيضان الذي يمثل الموت الرمزي للأرض وكذلك دخول الآلهة عالم السكون , وكان من طقوس تجديد حياة أرض مصر باكملها ومعه تتجدد حياة ملك مصر الذي يتم ولادته إلهياً ن خلال طقوس العيد.
كما شهد عيد الأوبت تحولات وإندماجات الإله ىمون مع الآلهة الاخري فهو مين آمون وكذلك كا موت إف وهو مصطلح معناه فحل أمه وكلها دلالات علي الخصوبة وإعادة الأحياء المرتبطة بعيد الأوبت.
الأقصر أرض مقدسة علي مدار العصور
لم ينس المصريون قدسية ذلك المكان فنجد ان معبد الأقصر إستمر كمكان للعبادة, فمع تحول المصريين للمسيحية بنوا بداخله كنيسة, ومع الإسلام بنوا بداخله مسجد وهو مسجد أبو الحجاج الأقصري, وعلي الرغم من مرور آلاف السنين لم ينس المصريون عيد الأوبت فاحتفلوا به سنوياً في مدينة الأقصر حتي وإن نسوا.
ولهذا حديث آخر