مضي علي حكم أول ملوك الأسرة الأول المصرية ما يقارب من خمسة آلاف عام مع إقتران ذلك بما سمي “توحيد القطرين” , وقد تراكمت المعرفة والنظريات عبر العصور لتفسير تلك الفترة التاريخية ومحاولة الإجابة عل سؤال كيف تم توحيد القطرين؟
الكوم الأحمر: نخن
من أشهر المواقع التي إرتبطت بتلك الفترة التاريخية المهمة هو موقع “الكوم الأحمر” التابع لإدفو بمحافظة أسوان, وقد سميت تلك المدينة في النصوص المصرية القديمة بإسم “نخن” وكانت الإقليم الثالث من أقاليم مصر العليا وعاصمتها “الكاب” وقد كان لتلك المدينة أهمية قصوي في الوجدان الجمعي للحضارة المصرية حيث كانت تمثل مركز الثقل الحضارة لمصر العليا في عصور ما قبل الأسرات وقد كان واحدا ً من أهم التصويرات الفنية التي أشارت لتلك المدينة هو تصوير أرواح “نخن” و”بوتو” كتصوير لرمز أسلاف المصرييين القدماء أنفسهم.
وقد سميت “نخن” في اليونانية “هيراكونبوليس” وتعني مدينة الصقر في إشارة للإله “حورس” المنتمي لمدينة “نخن”, ويعود تاريخ تلك المدينة لحوالي 4500 ق.م تقريباً, وقد كانت تلك المدينة ذات أهمية قصوي في عصور ما قبل الأسرات قبل توحيد القطرين في حوال القرن الواحد والثلاثين قبل الميلاد وظهور نجم مدينة “ثني” (أبيدوس) التي ينتمي لها الملك “نعرمر” اول ملوك الأسرة الأولي,بل أن ابيدوس تم تصويرها علي آثار “نخن”.
وفي نهاية القرن التاسع عشر يظهر علي الساحة الأثرية “جيمس كويبل” وهو عالم آثار إنجليزي تتلمذ علي يد عالم الآثار الأسطوري فلندرز بتري وبداية من عام 1893 بدأ أعمال الحفائر وتنقل بين مواقع مختلفة مثل دير البلاص وقفط حتي استقر في الكوم الأحمر “نخن” بصحبة عالم آخر وهو “فريدريك جرين” وقد عثروا علي وديعة أساسات المعبد وقد إحتوت تلك الوديعة علي العديد من المقتنيات مقمعة الملك “عقرب” والتي تصور الملك العقرب والذي كان من المرجح أنه آخر ملوك عصر ما قبل الأسرات, ولكن أهم القطع التي تم العثور عليها كانت صلاية “نعرمر” التي صورت ولأول مرة في التاريخ ملكاً يرتدي تاجي الشمال والجنوب.
وقد تم تأريخ تلك الوديعة إلى العصر المبكر للدولة القديمة وعلي ما يبدو فإن تلك الوديعة تحتوي علي قطع فنية تعود لفترات مختلفة من نفس النطاق الزمني يرجح أن أقدمها يعود لمرحلة نقادة الثالثة -مثل مقمعة الملك العقرب, مقمعة الملك نعرمر” وغيرها من القطع الفريدة التي تعود لمهد بداية عصر الأسرات المصرية وعلي رأسها “صلاية نعرمر”.
صلاية نعرمر
ذلك الأثر الشهير الذي يسمي “صلاية نعرمر” هو أول أثر يصور ملك مصري بتاج الشمال وكذلك تاج الجنوب وكذلك هو أحد أهم الآثار التي تذكر إسم هذا الملك ب”نعرمر”, وكذلك فهي الآثر المؤسس والمؤكد لواقعة توحيد القطرين علي يد هذا الملك.
وكما ذكرنا فإن ذلك الآثر قد عثر عليه “كويبل”و”جرين”, إلا أن هناك بعد التخبط في توثيق تلك الحفائر وعلي الرغم ن أن كويبل كان تلميذا ل فلندرز بتري أحد أشهر علماء المصريات وأكثرهم تنظيماً, إلا أن كويبل كان لديه بعض الإهمال في توثيق أعماله فالصلاية تم توثيقها أنا كانت من لقي وديعة معبد هيراكونبوليس (الكوم الأحمر) إلا أن جرين قد وثق أن الصلاية تم العثور عليها في نفس مكان الوديعة ولكن علي بعد أمتار قليلة منها.
أما لقظ صلاية فهو ترجمة لكلمة palette وقد تم تسمية ذلك الآثر بذلك الإسم لأن هناك قطع مشابهة لها تم إستخدامها في طحن الكحل فسميت هي الأخري بصلاية طحن الكحل, وعلي الرغم من أن غرض صناعة ذلك الآثر غير معروف وكذلك فيما كان يستخدم إلا أنه كان هناك بعض النظريات لتفسير ذلك, فعلي سبيل المثال كما ذكرنا فإن أحد تفسير إستخادمها كان طحن الكحل ولكن حجم تلك الصلاية والذي هو اكبر وأثقل من ما يشابهه من آثار قد شكك في هذا التفسير, لذلك فقد ذهبت تفسيرات أخري إلي أن تلك الصلاية كان الغرض منها طقسي عقائدي وأن كل تلك المقتنيات قد تم إهدائها للمعبد في العصور المبكرة كبادرة إحترام لمدينة نخن وأهميتها الدينية.
صلاية نعرمر: وثيقة تاريخية؟
صلاية “نعرمر” هي أول أثر يمثل ملك مصري يرتدي تاج الشمال وتاج الجنوب , أى أنها أول أثر يمثل ملك علي شمال وجنوب مصر, وفي نفس الوديعة التي تم العثور عليها في معبد “نخن” فقد تم العثور علي مقمعة -آداة قتال- للملك العقرب وقد صورته بتاج الجنوب الأبيض وكذلك حتي مقمعة للملك “نعرمر” نفسه صورته أيضاً بتاج الشمال, ولكن صلاية “نعرمر” كانت الأثر الذي صور ملكاًُ بالتاجين.
وكان تصوير نعرمر في المقمعة بالتاج الأحمر ومن ثم بالتاجين في الصلاية دليلاً علي تغير سياسي وقتها جعله ملكاً علي شمال مصر وجنوبها بعدما كان ملكاً علي الجنوب فقط, وهو ما دعم نظرية التغلب العسكري الجنوبي علي الشمال بقيادة “نعرمر”.
والصلاية بها تصوير علي كلا الجانبين صنف علماء المصريات الجانب الذي يرتدي فيه الملك تاج الجنوب بوجه الصلاية والآخر بظهره.
ووجه الصلاية ينقسم لثلاثة صفوف رأسية نري في الصف العلوي واجهة القصر الملكي والمسماة “سرخ” ومكتوب بداخلها كلمة “نعرمر” وهو إسم الملك, وقد تكرر كتابة أسماء الملوك في السرخ لفترة طويلة حتي ظهور فكرة كتابة اسم الملك في خرطوش, وعلي جانبي السرخ يوجد تصوير لبقرة قرونها للداخل وهو ما يشير للإلهة بات إلهة الإقليم السابع من أقالي مصر العليا والتي كانت لها أهمية قصوي في عصر ما قبل الأسرات والدولة القديمة.
أما الصف الثاني فيمثل الملك مرتدياً تاج الجنوب الأبيض ويمسك بمقمعة القتال – الهراوة- ويهم بضرب رأس أسير سنعود له بعد قليل, يرتدي نعرمر ما يسمي الشنديت الملكي والذي يتدلي منه ذيل حيوان (الثور) إشارة الي القوة الغاشمة والفحولة, وخلف الملك يوجد شخص يحمل نعال الملك بينما الملك نفسه يقف حافي القدمين, وقد كان في مصر القديمة بالفعل بعدها لقب “حامل النعال” والذي لم يكن وظيفة فعلية وإنما كان لقباً لموظف قريب من الملك.
وأمام الملك يوجد صقر يجذب بخطاف أنف لرأس شخص تظهر ما بين خمسة أعواد بردي وقد تم تفسير ذلك المنظر بأن الملك نفسه هو الصقر وأن أعواد البردي الخمسة تشير لرقم خمسة آلاف في إشارة رمزية لإنتصار أو أسر الملك لخمسة آلاف من أعدائه.
أما الصف الأخير فيمثل إثنان من الأعداء إذا دققت النظر إليهما فستجهما وكأنهما أحياء يفران أو يهربان من (أرض المعركة) أو إن نظرت لهما بمنظور عين الطائر فستجد رجلان مصروعان ملقيان علي الأرض.
أما ظهر الصلاية فهو مليء بالتفاصيل العديدة ويمثل أربعة صفوف رأسية تبدأ بالسرخ المكتوب بداخله إسم نعرمر وكذلك الإلهة “بات”, أما الصف الثاني فمن اليسار نري الملك بتاج الشمال الأحمر وخلفه حامل النعال, وأمام الملك مكتوب إسمه “نعرمر”, وكذلك رجل يرتدي شعر مستعار طويل ويرتدي جلد فهد والرمز الهيروغليفي الذي يشير له هو “ثاتي” وهي كلمة مصرية قديمة أقرب ترجمة لها “وزير” (بمثابة رئيس وزراء حالياً). وأمامهم أربعة أشخاص يحملون أعلاما تمثل جلد حيوان, كلب (إبن آوي) وإثنان من الصقور , وحملة الألوية هؤلاء الذين يشار إلهم بأتباع حورس ( حورس هو الملك نفسه), وأمامهم في نهاية المشهد عشرة من الأعداء مقطوعي الرأس موضوعة رؤؤسهم بين أرجلهم وبالأعلي شكل لسفنية وصقر وحربة والمنظر إشارة للأعداء الذين قضي عليهم نعرمر ورموز مقاطعاتهم؟
أما الصف الثالث فيمثل إثنان من الرجال يمسكان بحبلين يربطان رقبة مخلوقان خرافيان مزيج من الثعبان والسنورياتبينما يشكل تقاطع عنقي هؤلاء الحيوانين دائرة لربما كان يتم طحن الكحل بها ووجود هذا الجزء في الصلاية هو سبب طرح تفسير أنها كانت مستخدمة لطحن الكحل.
أما الصف الرابع والأخير فيمثل ثوراً يقوم بإقتحام أسوار مدينة حصينة بينما يطأ رجلا بقدميه.
ماذا تمثل صلاية نعرمر؟
علي الرغم من بساطة مناظر صلاية نعرمر وتعقيد جزء منها إلا انها أثارت جدلاً واسعاً لبيان الغرض من صنعها وما تمثله المناظر عليها, فمنهم من ذلهب إلى التمثيل الحرفي للمناظر وأن الصلاية تمثل إنتصار عسكري من نعرمر علي الشماليين , بينما رأي آخر يقول بأنها تمثل فقط ترميزاً لوحدة الشمال والجنوب متمثلاً في شخص نعرمر الملك الجنوبي الذي أخضع الشمال, بينما هيئة الأعداء المصورين علي الصلاية ذهبت بالبعض إلى إفتراض أن هؤلاء ليبيين , وهذا الإفترااض كان بناء علي آثار أخري صورت (اليبيين) ولكن المقصود هنا بالليبيين هو كلمة مصرية قديمة تنطق :تحنو, والتحنو في ذلك الوقت لربما كانوا سكان الشمال المصري والذين كان معقلهم مدينة “بوتو” (تل الفراعين, كفر الشيخ حالياً) ,والذين أبعدوا غرباً في وقت لاحق ليكونوا نواة لقبائل التحنو لاحقاً, وأنهم في الأساس من سكان الدلتا المصرية وليسوا ليبيين بالمفهوم الحالي.
الملك وعشي؟
عودة إلى ذلك الأسير الذي كان يهم بضربه الملك “نعرمر”, فيوجد بالقرب من رأسه علامة هيروغليفية عبارة عن حربة وبيحرة من المياه تنطق “وعش” او”وعشى”, وطبقاً لحجر باليرمو وهو أقدم قائمة ملكية موجودة بين أيدينا وتعود لعصر الأسرة الخامسة فإننا نجد ذلك الإسم مذكوراً به من ضمن ملوك الشمال.
وهو ما قد يعني أن نعرمر قد صور نفسه ينتصر علي آخر الملوك الشماليين لو إفترضنا أن الصلاية تصور نهاية معركة الحسم بين الشماليين والجنوبيين, كذلك فهذا التفسير لربما يعطينا فكرة عن تصوير (الليبيين) علي تلك الصلاية هو أن الحربة كانت إحدي مقاطعات الشمال الشرقي والقريبة من الحدود الليبية , أى ان ذلك التفسير لربما يغطي جوانب لغز صلاية نعرمر, إلا أنه ليس التفسير الوحيد وكذلك ليس هو الحاسم في رحلة البحث الطويلة عن شروق شمس فجر الحضارة المصرية.