شغل الدين حيزاً كبيراً من حياة المصريين طوال العصور التاريخية, فقد نشأ الدين والعقيدة مع نشاة الحضارة المصرية القديمة وحتي في العصور المسماة ما قبل الأسرات والتي تم العثور علي ادلة يؤرخ منها وجود عقائد وطقوس دينية وشعائرية في كل الأماكن التي تم العثور عليها, ومع مرور الزمن تطورت تلك العقائد والمعتقدات لتأخذ إطارا عاماً وبعض التفرعات التي نشات لاحقاً طوال التاريخ المصري, فمن كانو أشهر الآلهة المصرية القديمة ومتي ظهروا؟ وكيف كان يري المصري القديم دينه؟
مصر في عيون هيرودوت
من أشهر المصادر التي يمكن الإعتماد عليها عند مناقشة ذلك الأمر هو ما تركه المؤرخ الشهير “هيرودوت” وذلك علي الرغم من خرافية الكثير مما رواه إلا أن هناك بعض التفاصيل التي يمكن أن تنقل لنا واقعاً لربما عاشه أو رآه هو بنفسه, فقد كان هيرودوت يظن ويؤمن أنه يدون إقتناعاً راسخاً لديه بأن المصريين قد إهتموا بشئون معتقداتهم دون سائر الأمم إهتمامً لم تضاهيه فيهم أمة أخري, ولا يمكننا هنا أن نغفل السومريون والبابلين الذين كانت لهم عقائد راسخة قديمة آمنوا بها إيماناً عميقاًولكن مصر تظل أكثر إهتماماً منهم ويظهر ذلك في الكم الهائل من الآثار والشعائر وطقوس تخليد وتكريم الموتي.
أمة الإله
من المثير للإهتمام هو الإختلاف الجوهري الذي رأي المصريون بهم أنفسهم فيما يخص العقيدة, حيث كان إعتقاد الإنسان في ذلك الوقت أن قدرة الإله قد أوجدته في الحياة, بينما كان المصريون يروا أنهم كانوا من نسل الآلهة مباشرة وخاصة الآلهة الخالقة التي إعتقد المصريون أنها حكمت في البداية ومن ثم توالي علي حكم الأرض أنصاف الآلهة الأسطوريون ومن ثم الأرواح المخلدة تبعهم الملوك الذي تمتعوا بمزايا دينية متعددة ولمحة إلهية في مصر القديمة, لذلك فعند وفاة الملك المصري فيرتحل الجزء الإلهي منه ليستقر في معية الآلهة الذين سبقوه علي حكم هذه البلاد.
كما آمن المصريون أن أرض مصر هي هبة إختصها بهم الإله وجعلها أفضل بقعة ممكن لمعيشة البشر لذلك لم يري المصريون عند تصورهم للنعيم إلا أرض مصر وهو ما إنعكس علي تصويرهم للحياة الأخري التي لم تختلف المتع فيها عما إعتادوه علي أرض مصر.
وكانت الحياة الأبدية هي النتيجة النهائية التي يطمح إليها كل مصري والتي كانت أدواتها الطقوس والشعائر التي آمن المصريون أن حتي الكون لن يتنظم سوي بتأديتها, وقد إستخدم المصريون كل قوي الطبيعية والخير والشر وحتي الأمور المعنوية والمادية في فلسفة عقيدتهم وعبروا عن هذا بكلمة “نتر” أو “نثر” والتي يمكن ترجمتها ضمنياً إلى إله, إلا ان تلك الكلمة كانت تعني كل هذه الأشياء مجتمعة بجوانبها الخيرة والطيبة وحتي الشريرة المدمرة, فنجد من النترو (جمع كلمة نتر) من هو خالق مثل الآلهة: رع وبتاح وآمون وغيرهم ومنهم من له أدوار أقل , ومنهم من هم نترو فقط في العالم الآخر “دوات”.
أشهر أسماء الآلهة في مصر القديمة ومعانيها
تعد أسماء الآلهة المصرية القديمة هي أهم العناصر التي تساعد علي تمييز الآلهة المصرية عن بعضها البعض وكذلك عن غيرها, فإن كان أشهر إسم لإله مصري في العصر الحالي هو آمون فذلك الإسم يعني الخفي أو الغير مرئي, بينما إبنه الإله “خونسو” يعني المسافر ولذلك فهو إله المسافرين والعابرين, أما حورس الصقر إله السماء فيعني العالى او السامي, ولدينا كذلك الإلهة “سخمت” أنثي الأسد وأحد أشرس الآلهة المصرية القديمة ويعني إسمها “القوية” (الجبارة), أما الإله تحوت إله المعرفة والتدوين فيعني إسمه الرسول, والإلهة إيزيس العرش, وحتحور يعني إسمها مستقر الإله حورس لدورها في رعايته طفلاً طبقا لأسطورة إيزيس وأوزوريس, وختاماً بالإله “تم” (أتوم) والذي عني إسمه الكامل أو يعبر عن الفراغ من عمل شيء.
وعلي الرغم من وضوح بعض الأسماء إلا أنه كان هناك معبودات اخري لم يستدل علي معني واضح لإسمها, فأحد أشهر الآلهة المصرية القديمة وهو “رع” لربما يعني إسمه (المرافق), (المراقب) او أنه ببساطة يعني الشمس نفسها! وذهب البعض الآخر في تفسير معني الإسم إلى أنه أحد أقدم الآلهة المصرية القديمة وأن إسمه يعود لأصل قديم نسي بمرور الزمن.
وهناك بعض الأسماء أكثر وضوحاً والتي تم تسميتها طبقاً للمدن التي كانت مراكز لعبادتها, فلدينا مدينة “نخب” الكاب” ومنها الإلهة نخبت, ومدينة عنجت وإلهها عنجتي وغيرهم, ومن المثير للإهتمام أن المصريون القدماء إعتقدوا أن لكل إله إسم سري لا يمكن نطقه ولا يعرفه سوي الإله نفسه, وأبلغ مصادرنا عن ذلك هو محاول الإلهة إيزيس معرفة الإسم الخفي للإله رع.
الآلهة المصرية والأخلاق
علي الرغم من تعقيد وتشابك العقيدة المصرية القديمة وإمتزاج مفهوم الدين والأخلاق بشكل عام في عقول البشر إلا أن المفهومين مختلفان عن بعضهما البعض, فالدين عبارة عن معتقدات وممارسات وطقوس تربطه بعالم الآلهة وتنظم سلوكه معها ومع المقدسات بل وتنظم دور الإنسان في العالم.
أما الأخلاق فهي القواعد التي تنظم علاقة الأفراد بعضهم البعض وكذلك سلوكهم تجاه الآلهة والبشر, وتنشاً عي الأرجح لتسوية النزاعات التي تفرضها الحياة المشتركة, وقد كان المصريون بشكل عام برون أن الأخلاق وقيمها كانت من مقررات الآلهة التي أورثوها لبنو البشر.
علي أننا نجد في بعض النصوص المتأخرة بعض الآلهة بشخصيات مزدوجة مثلما حدث في أسطورة هلاك اىلبشرية والتي إنقلب فيها الإله رع علي النوبيون بعدما سخروا منه لتقدمه في السن فأرسل عينه المدمرة لتنتقم منهم.
علي أن هناك نص بالغ الوضوح يتحدث عن الإله من التعاليم التي لقنت للملك “مري كا-رع” من الأسرة العاشرة.
ان البشر ھم رعیة الالهو قد عنى الاله عنایة حسنة برعیتهفقد خلق السموات و الأرض لأجلھمو وھبھم الماء لیروى ظمأھمو الھواء لتحیا به أنوفھمصنع الاله البشر على صورتهو خلقھم من جسدهو خلق النباتات و الحیوانات و الطیور و الأسماك طعاما لھمو أضاء النھار بنورهو ھو یطل علیھم من عینه ( الشمس) و ھو یبحر فى قاربه النھارىو شید صرحه (الكون) لیحیط بھمو حین یبكون و یتألمون , یسمع شكواھمو تأمل , لقد وھبھم أیضا ملوكا فى الرحم ( أى وھبوا الحكم قبل الولادة )لیشدوا أزر الضعفاء و یكونوا لھم سنداو یقوموا على رعایتھم لیلا و نھاراو تذكر أن الاله لا یھمل الخائن , و انما یعاقبهو ھو حین یفعل ذلك ,یكون كالأب الذى یضرب أحد أبنائه لیحمى الآخر
لا ترقد فى اللیل متخوفا من الغدلأننا لا ندرى عندما ینبثق الفجر ماذا یكون علیه الحال فى الغدفالإله دوما فى احكام تدبیرهوالانسان دوما فى تفكیره و ظنونه << العبد فى التفكیر و الرب فى التدبیر >>والكلمات التى یتكلمھا الانسان شئأما أفعال الاله فھى شئ آخرلا تقولن “لیس لى خطیئة” (لا تدعى أنك بلا خطیئة)و تشغل نفسك بالبحث عن أخطاء الآخرینان الاله وحده ھو المطلع على أخطاء البشرو قلوبھم بین أصابعهأمام الاله , لا یوجد نجاح أو اخفاقولا یوجد مخلوق كاملو مھما سعى الانسان للكمالفقد یفسد سعیه فى لحظة واحدةكن راجح العقل , قوى القلب (العزیمة)لا تجعل من لسانك ربان سفینتكاذا كان اللسان ھو الدفةفان الاله (رب كل شئ) ھو قائد السفینة
تطور نظرة المصريين للإله عبر العصور
هذا الموضوع كغيره من الموضوعات المتعلقة بحضارة مصر قد تناوله العديد من الباحثين عبر العصور ونتج عنه عدة آراء وخلافات أيضاً, إلا اننا يمكن أن نلخص نظرة المصريين للإله عبر عصورهم المختلفة, نشات فكرة الآلهة في مصر القديمة علي ما يبدو منذ أقدم العصور المصرية ونشات تلك الفكرة في المقاطعات المحلية التي سبقت توحيد الملك “نعرمر” للقطرين حوالي 3100 ق.م, ومن ثم مع تأسيس الدولة المصرية بقطريها الشمالي والجنوبي نجد ظهوراً واضحاً للإله “حورس” باعتباره رب السماء وتجسيده هو ملوك مصر, كذلك نجد ظهوراً للآلهة الأنثوية وعلي رأسها “نيث” إلهة الحرب والتي إقترن إسمها بملكتان من الأسرة الأولي وهن “مريت نيث” (محبوبة نيث) وكذلك “نيث حتب” (نيث راضية) , وكذلك حضوراً للإلهة “بات” وهي مؤنث روح في اللغة المصرية القديمة والتي كانت تصور علي هيئة بقرة لم تلبث أن تداخلت مع الإلهة حتحور لاحقاً , أما أحد أشهر المعبودات المصرية القديمة وهو الإله رع فنجد أن أعظم سطوة له كانت في عصر الدولة القديمة مع ظهور فلسفة بناء الأهرامات التي كانت تصور أشعة الشمس علي الأرض وبالتالي أحد الإشراقات الشمسية علي الأرض, وكذلك نجد نشاة مفهوم إتحاد الملوك المصريين مع إله الشمس ليرافقوه في رحلته اليومية من الظلمات إلى النور عبر مركبه الذي يعبر به في السماء, وعلي الرغم من الشهرة الطاغية للإله رع في عصر الدولة القديمة إلا أنه -وعلي ما يبدو- كان إلها ملكياً في جواني عديدة منه بل أن إسم الإله لم يكن يكتب بعلامة قرص الشمس إلا في أسماء الملوك المصريين بينما إن تداخل إسم رع مع إسم أحد الأفراد العاديين فإنه يكتب مقطعاً ر-ع وليس بعلامة قرص الشمس وهو ما يوحي بنخبوية من نوع ما.
اوزوريس والاسطورة التي اشتهرت في مصر
تغير ذلك الوضع مع ظهور أشهر الآلهة المصرية علي الإطلاق لدي المصريين وهو “أوزير” , “وزير” والذي أطلق عليه الإريق “أوزيرس” ونعرفه اليوم بإسم “أوزوريس”, فقد حاز ذلك الإله علي قلوب المصريين نظرا لطبيعة قصته التي تعرض فيها للظلم في أسطورة إيزيس واوزوريس ما أعطاه لمحة بشرية جعلت التعاطف مع من طبقات الشعب حتمياً , ومع ذلك التطور نجد أن حتي الملوك قد إتجهوا للتركيز علي العقيدة الأوزيرية مع الإحتفاظ بمكانة المعبود الشمس الأشهر علي الإطلاق, وقد طغت شهرة رع علي التاريخ المصري القديم حتي بعد غزو الهكسوس لمصر حتي كان ظهور الأسرة الطيبية – أسرة أحمس- والتي تبنت معبوداً محلياً للرياح وهو “آمون” والذي كان إله مدينة الأقصر والذي تحول لاحقاً إلى آمون-رع بعد دمجه مع “رع” ليصبح إله الإمبراطورية المصرية.
وعلي الرغم من تعرض مصر للعديد من الإحتلالات إلا أن ذلك لم ينجح في تغيير تركيبة عقيدتهم الدينية إلا مع دخول الإغريق لمصر والذي أتوا معهم بمفهومهم ومجمع آلهتهم الذي تم دمجه مع الآلهة المصرية القديمة أو وضعهم علي قدم المساواة والذي كان التغيير الأكبر للعقيدة المصرية ومفهومها حتي نهايتها في العصور البيزنطية مع إغلاق المعابد وبداية نهاية العقيدة المصرية القديمة.