علي مدار آلاف السنوات تركت الحضارة المصرية القديمة آلاف الآثار والمومياوات والتي لم نعرف عنها بشكل علمي إلا منذ فترة قريبة جدا لا تتجاوز المائتي عام وذلك مع فك رموز حجر رشيد, وعلي الرغم من ذلك فإن قبل وبعد فك رموز حجر رشيد كانت الإكتشافات علي أرض مصر تتوالي لتثير دهشة وشغف العالم أجمع بل وتغير تاريخه وليس تاريخ مصر فحسب.
حجر رشيد
مما لا شك فيه أن ذلك الآثر يعرفه العالم أجمع أو علي الأقل يعرف إسمه, فلماذا نال ذلك الآثر تلك الأهمية؟ ولماذا غير التاريخ بأسره؟
مع وقوع مصر تحت الإحتلال الروماني تحولت مصر من دولة محورية ومركز لإمبراطورية إلى ولاية تابعة للمحتل الروماني مما أفقدها أهميتها الحضارية والثقافية بشكل كبير, وعلي الرغم من ذلك فقد إستمرت الحضارة المصرية برغم كل شيء فكانت المعابد قائمة وفعالة تقام بها الطقوس وتكيف المصريون مع ذلك الوضع لفترة من الزمن حتي كانت الضربة القاضية مع تحول الإمبرالطورية الرومانية إلى المسيحية, فقبل المسيحية كانت روما العدو الأول للمسيحيين ومضطهدهم وجلادهم أما بعد تحول إمبراطورهم جستنيان (قسطنطين) إلى المسيحية فلم يختلف الوضع كثيرا وإنما إختلفت المسميات, فقد تم مطاردة كل ماهو غير مسيحي باعتباره وثني-شيطاني-شرير – جاهل وكان من ضمن المؤسسات التي طالتها يد تهمة الوثنية هي المعابد المصرية التي تم إغلاقها ومنع الطققوس بها وبالتالي فقدت مصر آخر طبقة حافظت علي الرونق القديم لحضارتها العريقة وهي طبقة الكهنوت المصري.
من الفرس للإغريق للرومان
مع قدوم “هيرودوت” لمصر في عصر الإحتلال الفارسي كانت مصر بها عدد لا بأس به من المرتزقة اليونانيين وكذلك التجار , وقد كانت مصر وقتها تتحدث اللغة المصرية القديمة والتي أسماها المصريون كلام الإله أو لسان مصر . وكانت تكتبها بخطوط عديدة وهي الهيروغليفية, الهيراطيقية, الديموطيقية ولكن مع تزايد الحاجة للتواصل مع هؤلاء الاغريق ظهرت طريقة جديدة لكتابة اللغة المصرية القديمة وهي التي تسمي الآن القبطية, وهي عبارة عن اللغة المصرية القديمة مكتوبة بحروف يونانية مضاف إلها سبع علامات من الخط الديموطيقي وتلك العلامات تمثل أصواتاً غير موجودة في اليونانية.
بالقفز بالزمن إلى الأمام قليلاً ومع إحتلال الرومان لمصر نجد أن الخطوط الثلاثة القديمة وبالأخص الهيروغليفية قد تأثرت تماماً بقرار غلق المعابد وتوقف الطقوس المصرية القديمة فتراجعت مع بقية الخطوط في مقابل إنتشار الخط القبطي , أى أن اللغة المصرية القديمة ظلت منطوقة ولكنها أصبحت تكتب بخط واحد بدلاً من أربعة خطوط, ومن الجدير بالملاحظة أن الإغريق قد حاولا فرض لغتهم وحولها إلى لغة المكاتبات الرسمية ولكن ذلك لم ينجح لإقبال المصريين علي لغتهم وإحتفاظهم بها, بل أن حتي محاول تغيير التقويم المصري القديم قد فشلت وقتها هي الأخري.
ولكن إختلف الوضع قليلاً مع الإحتلال الروماني, ففي تلك الفترة كان الجهل والأمية قد استشروا في المجتمع المصري فنجح أغسطس في تغيير التقويم ليوافق التقويم اليولياني, وكذلك نجحت روما المسيحية في إنهاء مظاهر الحضارة المصرية القديمة بل وفقدانها معابدها وتراثها.
مصر والعربية
يختلف متحدثي العربية علي دخول العرب المسلمين للبلاد بالجيوش, فيسميه البعض فتح والآخر غزو وحقيقة الأمر ان الإختلافات بين تلك المعسكرات لا تتعدي الألفاظ والمسميات بينما عمليات الإستقراء التاريخي قليلة , فالمعلومة الأهم هي ما الذي تغير في المجتمع المصري بدخول العرب إليها؟, وعلي جانب آخر يحاول البعض أن يخلقوا أصلاً تاريخياً للعرب بداخل مصر قبل عمرو إبن العاص ليتم بعد ذلك سوف المبررات وإسكات أى اصوات معارضة, وحقيقة الأمر أن المصريون لم تتعد علاقتهم بالعرب التجارة حتي كان دخول عمرو ابن العاص إلى مصر, ومع تحول مصر إلى ولاية عربية وتمكن العرب من السيطرة علي وهزيمة الجاليات البيزنطية الأربعة الرئيسية بل وبعد معارك شرسة في مناطق مثل الإسكندرية وكذلك البهنسا.
إلا أن التغيير الحقيقي للمجتمع المصري وما تبقي من تراثه القديم لم يحدث ما بين يوم وليلة, فقد كان التغيير الأهم والأكثر تأثيراً عندما تم تعريب الدواوين فكانت تلك العلامة الفارقة, مع حدوث ذلك كان الوضع ببساطة هو إن كنت تريد التعامل مع الدولة فعليك معرفة اللغة العربية والتحدث بها, وهو ما سينعكس علي الوظائف وكذلك التعاملات, وعلي الرغم من فشل البطالمة سابقاً في ذلك إلا ان العرب نجحوا بالفعل وتراجعت اللغة المصرية القديمة بخطها القبطي شيئا فشيئاً حتي أصبحت مقتصرة علي بعض الأماكن الجغرافية وكنائس مصر التي تلت صلواتها منذ البداية باللغة المصرية القديمة, وبعد قرون طويلة من الإحتلالات والملاحقة وتضييق الخناق إنقطعت آخر أواصر الربط الثقافي ما بين المصريين القدماء والحاليين وتبقي التراث بشكل مختلف وهو العادات والتقاليد وأسلوب الحياة اليومي الذي لا يزال يحيا بيننا حتي الآن.
نابليون يغزو الشرق
لربما كان الجزء السابق أطول من أن يكون مقدمة إلا أنه محوري لفهم كيف غير حجر رشيد مجري التاريخ, وبدأت القصة مع قدوم نابليون غازياً لمصر بعد مئات السنوات من تحدثها العربية وإنحسار لغتها القديمة مما إنعكس علي ثقافة شعبها التي تحولت للعربية وكانت صلة المصريين بتراثهم القديم باهتة لا تكاد تذكر بينما الفكرة العامة السائدة عن الآثار المصرية أنها من أعمال الجن والعفاريت ليس في مصر فحسب بل وخارجها أيضاً فقد كان المصدر الرئيسي لتأويل الآثار المصرية هو القصص الدينية والعهد القديم.
ولكن قدوم الحملة الفرنسية لم يكن غزواً فحسب وإنما ولأول مرة يأتي غازياً لمصر بمجموعة من العلماء والمتميزين لعمل دراسة تفصيلية عن مصر وآثارها وأحوالها وسكانها وكل جوانبها تقريباً, وقد نتج عن ذلك موسوعة وصف مصر والتي لا تزال تخبرنا حتي يومنا هذا بعملومات فائقة الأهمية وتعد مرجعاً اساسياً لفهم فترة غزو نابليون لمصر.
وكان من نتائج ذلك الإهتمام العلمي هو العين المدققة التي إكتسبها الفرنسيون في مصر, فكل ما يشتبه في كونه أثراً يتم الإبلاغ عنه لفحصه ودراسته فوراً, وقد حدث ذلك في قلعة قايتباي في رشيد, والتي تم العثور فيها علي “حجر رشيد” عن طريق جندي فرنسي وهو بيير جان بوشار في عام 1799, ولولاً شكه في محتوي ذلك الحجر لما تم لفت الأنظار اليه.
حجر رشيد وفك اللغز
كان ذلك الحجر عبارة عن مرسوم ملكي مكتوب بالخط الهيروغليفي (لغة مصرية قديمة) , والخط الديموطيقي (لغة مصرية قديمة), واللغة اليونانية القديمة, أى أن النص مكتوب ثلاث مرات بلغتين, وقد كانت اليونانية القديمة مقروءة وقتها فعرف العلماء أن ذلك النص عبارة عن مرسوم يعود لعصر الملك “بطلميوس الخامس” يعلن فيه الكهنة شكرهم للملك علي الإعفاءات من الضرائب, وقد كانت تلك المراسيم شائعة ويتم تدوينها علي الحجارة في أحيان عدة ووضعها بالقرب من المعابد بل وصناعة أكثر من نسخة منها, اى أن ذلك النص كان نصاً تقليدياً لن تغير ترجمته أو معرفة فحواه كثيرا في التاريخ, إلا أن طريقة كتابته كانت فريدة من نوعها في ذلك الوقت مع تكراره بعدة أشكال بجانب اليونانية القديمة.
وقد كان الإفتراض وقتها أن نفس النص يتكرر مرتين علي الحجر, ولكن ماذا كانت تلك اللغات الأخري؟ ووقتها بدأ الصراع الفرنسي-البريطاني لفك رموز حجر رشيد , وقد ترأس الجبهة الفرنسية “جان فرانسو شامبليون” بينما الإنجليز كان ممثلهم هو الطبيب البريطاني “توماس يونج”, وقد كان الإثنان في تنافس شديد ولبعض القت يسبق كلاهما الآخر.
كما ذكرنا كان مفتاح فك رموز حجر رشيد هو إعادة قراءة الخطوط القديمة للغة المصرية القديمة, ولكن في ذلك العصر كانت هناك عدة مشاكل, الأولي لم يعرف الباحثون وقتها إذا كانت تلك الرموز والعلامات تمثل أبجدية أن تمثل قيماً صوتية, وهو تساؤل بالغ الأهمية, فاللغات ذات الأبجدية عبارة أن حروف, وكل حرف يمثل صوت واحد, وإجتماع تلك الأصوات يمثل كلمة تعبر عن معني, أما إذا كانت تلك العلامات تمثل أصوات (أكثر من صوت) أو معاني فهذا سيزيد من الأمر تعقيداً, كذلك فالربط بين اللغة المصرية القديمة والقبطية وقتها كان مجرد إحتمال وارد, وحتي وإن إعتبار الباحث وقتها أن الربط صحيحاً فمن أي أرضية يمكن أن ينطلق ليقراً الخطوط القديمة لتلك اللغة, ولتبسيط الأمر تخيل أن اللغة العربية إندثرت ولم يستطع أحد قرائتها , وفجأة يتم الكشف عن نص عربي مكتوب بطريفة “فرانكو أراب” أى ان النص عربي مكتوب بحروف إنجليزية مثلما نكتب صباح الخير Saba7 Al khier.
وهنا إتبع شامبليون الإفتراض بأن القبطية هي المصرية القديمة , وكذلك إعتمد علي قاعدة ذهبية كانت مفتاح اللغز , وهي أن الأسماء لا تترجم , فبالتالي فإن الإسمين المذكورين في النص : بطلميوس , كليوباترا لا بد أن يكونوا كتبوا بعلامات صوتية أحادية تعبر عن تلك الأسماء, ومن هنا إستطاع شامبليون إستخلاص العلامات الصوتية الإحادية في النص, ومن ثم إستخلاص جميع العلامات الأحادية في اللغة المصرية القديمة , وهي العلامات التي تعبر عن صوت واحد والتي يمكن تجاوزاً أن نسميها الأبجدية.
وقد كانت اللغة المصرية القديمة تشمل علامات أحادية الصوت, ثنائية , ثلاثية وحتي سبعة أصوات, ومن ثم وبالمقارنة مع القبطية إستطاع شامبليون معرفة فحوي العلامات الثنائية هي الأخري ليحقق السبق ويعيد قراءة اللغة المصرية القديمة مرة أخري.
إعادة كتابة التاريخ
مع فك رموز حجر رشيد أصبحت اللغة المصرية القديمة بخطوطها القديمة مقرؤة ولأول مرة لربما منذ القرن الخامس أو السابع علي أقصي تقدير بعدما إنزوت لقرون طوال سادت فيها الخرافات وتوقف المصري القديم عن الحديث عن نفسه, كان فك رموز حجر رشيد هو اللحظة الفارقة لتأسيس علم المصريات بشكله الحالى والذي نتج عنه قراءة آلاف من النصوص المصرية القديمة وترجمتها ومعرفة فحواها, ليصبح المصري القديم هو أحد مصادر تأريخ تاريخ مصر, ومن المثير للدهشة هو أن حجر شريد يعرض الآنب المتحف البريطاني مع أن الفرنسيون هم الذين عثروا عليه, وذلك سببه أن الفرنسيون قد قاموا بتسليم الحجر للإنجليز مع هزيمتهم ومن ثم قام البريطانيين بسرقته وشحنه للمتحف البريطاني ليعطي من لا يملك لمن لا يستحق.
ومع نشاة علم المصريات بدأت تساؤلات من نوع آخر بشكل غير متوقع علي الإطلاق, هي يمكن تأريخ واثبات قصص العهد القديم المتعلقة بمصر عن طريق البحث العلمي وقراءة المخطوطات والبرديات القديمة من مصر؟
ولهذا حديث آخر.