لمصر عصور ذهبية وصلت فيها مصر لقمة الهرم الحضارى الإنسانى، أهم تلك العصور هو ما يسمى بعصر الدولة القديمة أو المملكة القديمة Old Kingdom، وهو العصر الذى إنطلقت فيه لمصر لآفاق لم تسبقها إليها أى حضارة طوال التاريخ.
البداية
يرجع الفضل لإنجازات الدولة القديمة وعصر بناة الأهرامات هو توافر كل الظروف لمصر وقتها لكى تصل إلى انجازات غير مسبوقة وذلك نتيجة لجهود ملوك الأسرتين الأولى والثانية اللذين سبقوهم، فالملك “نعرمر” أو “مينا” هو الذى قام بتوحيد القطرين وتأسيس الدولة المصرية وأكمل من بعده ملوك الأسرة الأولى والثانية حتى الملك “خع سخموى” آخر ملوك الأسرة الثانية الذى قام بأعادة توحيد القطرين مرة أخيرة لينهى الاضطرابات ما بين الشمال والجنوب.
التاريخ المصرى القديم قبل الدولة القديمة
يبدأ التاريخ المصرى القديم بعصور ما قبل التاريخ والتى تنتهى بما يسمى عصور ما قبل الأسرات والتى تنتهى بدورها بتوحيد مينا للقطرين حوالى 3100-3200 ق.م، ليكون أول ملك فى أول أسرة حاكمة لمصر الموحدة.
تشير المصادر التاريخية لعصر الدولة القديمة باعتباره ممتد من الأسرات الأولى وحتى السادسة، إلا أن هذا التقسيم يعتبر قديم نوعاً ما، فالمصادر المحدثة تصنف الدولة القديمة من الأسرات الثالثة وحتى السادسة ، أما الأسرات الأولى والثانية فتسمى بالعصر العتيق Archaic Period.
الملك زوسر: أول بناة الأهرام
تبدا الأسرة الثالثة بجلوس الملك “نترى غت” (تعنى صاحب الجسد المقدس)، وهو الإسم المصرى القديم الذى يشير للملك “زوسر”، وكلمة “زوسر” هى تحريف يونانى لإسم مصرى قديم آخر وهو “چسر” والذى يعنى المقدس، وكل تلك الأسماء تشير لنفس الملك.
كان عصر الملك زوسر هو طفرة غير مسبوقة فى تاريخ مصر ساعد عليها إستقرار الأمور بشكل تام نتيجة لجهود ملوك العصر العتيق، لتنطلق مصر معه إلى آفاق غير مسبوقة.
كيف نشأت فكرة بناء الأهرام؟
فى الأسرات الأولى والثانية قبل زوسر كان الدفن يتم فيما يسمى الآن “مصطبة”، والمصطبة هى مبنى فوق الأرض وأسفلها يقع بئر لدفن المتوفى، وكانت المصاطب فى تلك الفترة تصنع من الطوب اللبن، وكان الطوب اللبن هو أيضا المادة المستخدمة فى تشييد المنشآت الملكية وأشهرها المبنى الطقسى الضخم المشيد فى منطقة “شونة الزبيب – أبيدوس- سوهاج”، والذى تطور لاحقاً فى مثال آخر يرجع لنفس الفترة وهو “جسر المدير” The great Enclosure وهو واحد من أقدم الأبنية الحجرية فى مصر إن لم يكن أقدمهم.
قبل زوسر كانت عمارة الأبنية المحفورة فى الصخر تحت الأرض قد وصلت لمرحلة معقدة وأشهرها مقبرة الملك “نى نتر” من الأسرة الثانية بمنطقة سقارة، ومقاييسها 106X94 متر يؤدى لها مدخل متدرج بطول 25 متر.
إيمحوتب: بناء أول هرم؟
حدثت الطفرة فى عصر الملك “زوسر” على يد ذراعه الأيمن والذى حمل لقب الثانى بعد الملك، وهو المهندس العبقرى “إيمحوتب”، فى تلك الفترة كانت خطط الملك زوسر لا تتعدى بناء مصطبة مثل من سبقوه من الملوك وقد إختار منطقة سقارة لتنفيذ المشروع.
إلا أنه وبفضل إيمحوتب تطور المشروع بأكمله حتى إنتهى ببناء 6 مصاطب حجرية فوق بعضها البعض، وكذلك حفر جزء أسفل الأرض للدفن مشابه لمن سبقوه ولكن على نطاق أوسع عمن سبقوه.
كذلك فإن مدخل المجموعة المعمارية للملك زوسر قد وضح الغرض من الأبنية التى سبقته مثل شونة الزبيب، وهو محاكاة القصر الملكى بمداخله وتفاصيله المعمارية.
وقد كان نتاج عمل إيمحوتب هو مجموعة معمارية متكاملة تتكون من هرم (مصطبة مدرجة) وعناصر أخرى لها أغراض محددة، وهو ما يسمى الآن بالمجموعة الهرمية ، وقد اتبع المصريون القدماء فى بناء الأهرامات نظام المجموعات الهرمية بعد زوسر.
تميزت مجموعة زوسر باستخدام الحجر لأول مرة فى التاريخ المصرى القديم على نطاق واسع، ما فعله إيمحوتب يمكن أن نطلق عليه تطوير للأفكار التى سبقته مع تنفيذها بالكامل بالحجر وهو مادة البناء التى سيطلق عليها المصرى القديم لاحقاً : يبقى لملايين وملايين السنين ويكون هو المادة الأساسية لبناء الآثار المصرية العظيمة لاحقاً.
إيمحوتب الإله
بفضل إنجازات إيمحوتب ترددت ذكراه وسيرته لمئات بل آلاف السنين بعد وفاته، وكان أشهر الفترات التى عادت فيها سيرة إيمحوتب هو “العصر المتأخر”، حيث أنه تحول إلى إله قام بمعجزات تفوق البشر بل أن المصريين وقتها قد نسبوا لها قصص خيالية أهو والملك زوسر أشهرها القصة المدونة على “لوحة المجاعة” الموجودة بغرب سهيل بأسوان.
حسى رع :أول طبيب اسنان فى التاريخ
تميز عصر زوسر أيضا بمسؤلين رفيعى الشان بالإضافة إلى إيمحوتب، وكان أشهرهم “حسى رع” وهو كاهن وكاتب مصرى ومسئول فى حكومة الملك زوسر، وهو أول طبيب أسنان مسجل فى التاريخ المدون.
دور المرأة فى عصر زوسر
من أشهر شخصيات عصر زوسر كانته أمه الملكة “نى ماعت حب”، وهى زوجة الملك “خع سخموى” آخر ملوك الأسرة الثانية ووالد الملك زوسر، وقد أتخذت العديد من الألقاب مثل: زوجة الملك، أم الملك وإتخذت لقب فريد من نوعه وهو: كا ما تأمر به ينفذ فى الحال!
إلا أن نفس الملكة قد إتخذت لقب آخر مثير للإهتمام وهو : أم الأطفال الملكيين وهو ما جعل علماء الأسرات يرجحوا أنها ليست أم الملك زوسر فحسب ولكنها أيضا أم الملوك “سخم غت” وكذلك “سا نخت” اللذان حكما بعد زوسر.
مدينة منف: عاصمة مصر وأهم المدن
على الرغم من أصول والده الجنوبية إلا أن الملك “زوسر” قد حكم من مدينة “منف” القديمة وجعلها عاصمته، وقد وقع إختياره على منطقة “سقارة” لانها جزء من جبانة مدينة منف غرب نهر النيل.
ستتحول منف بعد عصر زوسر إلى أهم مدينة سياسية فى تاريخ مصر وعاصمتها الفعلية، كما أن تأهيل الملوك وتعليمهم وحتى تتويجهم سيتم فى منف.
الهرم المدفون والكنز الذهبى
بعد وفاة الملك زوسر سيجلس على عرش مصر الملك “سخم غت” الذى سيحاول بناء مجموعة هرمية مشابهة لمجموعة زوسر إلا أنها لن تكتمل لربما لوفاة “سخم غت”، وسيكتشفها عالم الآثار المصرى “زكريا غنيم” لاحقاً ويطلق على هرم الملك: الهرم المدفون، وسيعثر زكريا غنيم بداخل الهرم على العديد من المقتنيات وأهمها كنز من الحلى الذهبى ليتم عرضه فى المتحف المصرى بالتحرير.
بعد وفاة سخم غت يتوالى على عرش مصر الملوك “خع با” ثم حونى آخر ملوك الأسرة الثالثة، حتى يتنقل الحكم إلى ملك طموح شاب يدعى “سنفرو”، وهو الملك الذى سيؤسس الأسرة الرابعة لتبدأ مصر عصرها الذهبى وأزهى عصور الدولة القديمة.
سنفرو: أعظم البنائين فى تاريخ مصر
وهو الملك الذى ذكرته كل النصوص بعد وفاته بالملك العادل، الرحيم وكل الصفات الحسنة، بل أن ذكراه إمتدت لأكثر من ألف عام بعد وفاته.
كان لسنفرو خطط خاصة بيه تختلف عمن سبقوه، وقد بنى فى عصره أربعة أهرامات دفعة واحدة ليستحق لقب أعظم البنائين.
وقد بدأ سنفرو أول فصول إنجازاته فى ميدوم، حيث بنى هناك هرم يسمى الآن “هرم ميدوم” والذى دفن حوله إثنان من أبناء سنفرو وهم الأمير رع حتب قائد الجيش، وكذلك الأمير نفر ماعت وزير سنفرو وعقله المدبر لكل مشروعاته الهندسية، وقد حمل نفر ماعت لقب: المسئول عن كل الأعمال الملكية.
أهرامات دهشور: أول أهرامات حقيقة فى تاريخ مصر
يبدأ فصول ثانى قصة سنفرو فى صحراء دهشور مع محاولته بناء أول هرم كامل فى تاريخ مصر، وقد بدأت تلك المحاولات ببناء هرم يسمى الآن “الهرم المنحنى أو المنكسر”، وقد حمل هذا الهرم ذلك الإسم بسبب إنحنائة قرب قمته، وذلك بسبب بنائه فى البداية بزاوية 54 تم تغييرها إلى 43 لاحقا فى مراحل المشروع الأخيرة.
لذلك إتجه سنفرو مهندوسه شمال الهرم المنحنى لينجحوا فى بناء أول هرم كامل فى تاريخ مصر وهو “الهرم الأحمر”، وهو الذى سيكون النموذج الذى سيتبعه خوفو فى هرمه فى هضبة الجيزة لاحقاً.
أما آخر أهرامات سنفرو فكان هرم صغير يسمى “هرم سيلا” وهو هرم صغير مصمت فى الفيوم بناه الملك سنفرو لأغراض عقائدية هناك لربما يمثل التل الأزلى.
سنفرو المحارب: حملات النوبة وليبيا
لم تكن نشاطات سنفرو مقتصرة على البناء فقط ولكنه كانت له جهود عسكرية تمثلت فى حملة على النوبة السفلى القديمة عند الجندل الثانى للنيل حيث هاجم تلك المنطقة فى حملة تأديبية عاد منها بسبعة آلاف أسير وعشرون ألفاً من رؤؤس الماشية، وقد تسببت تلك الحملة فى تشتيت سكان تلك المنطقة وتوجههم جنوباً مما ساعد على تأمين حدود مصر لفترة طويلة بعد سنفرو.
كذلك فقد قام سنفرو بحملة على ليبيا القديمة عاد منها بعدد 11 ألف اسير و 13 ألف رؤؤس من الماشية.
سنفرو فى لبنان
كانت مدينة جبيل القديمة فى لبنان هى مورد خشب الأرز عالى الجودة الذى إستخدمه المصريون القدماء فى صناعات متعددة مثل السفن، وقد أرصل سنفرو اسطولاً مكوناص من أرعبني سفينة عملاقة لجبيل لجلب خشب الأرز لبناء سفنه وكذلك لتدعيم هرمه من الداخل وتلك القطع الخشبية لا تزال موجودة بداخل أهرامات دهشور حتى الآن.
الحكيم كاجمنى والملك سنفرو
ظهر الحكيم كاجمنى فى عصر سنفرو وهو واحد من الحكماء المصريين الذين تركوا تعاليم مدونة لمكارم الأخلاق وما تركه كاجمنى هو واحد من أقدم تعاليم الأخلاق الحسنة فى التاريخ، وقد خدم كاجمنى فى حكومة سنفرو فى منصب الوزير.
عائلة سنفرو : أقوى عائلات مصر القديمة
لم يكن إرث سنفرو هو أهراماته أو حتى إنجازاته، فعائلة سنفرو هى أهم إنجازاته فلسنفرو العديد من الأبناء اهمهم الوزير نفر ماعت الذى سينجب إبناً سيطلق عليه “حم أون” وهو الذى سيكون مهندس الهرم الأكبر لاحقاً.
وثانى ألمع أبناء سنفرو كان الأمير “عنخ حا اف” وهو الذى سيشارك فى المراحل الأخيرة من بناء الهرم الأكبر لأخيه غير الشقيق “خوفو”، وكذلك فهو مهندس هرم خفرع وتمثال أبو الهول.
ويعد عنخ حا إف هو المسئول الكبير الذى نعرفه بالإسم بشكل مؤكد كمشارك فى مشروع الهرم الأكبر طبقاً لبرديات وادى الجرف.
خوفو وإرث سنفرو
على الرغم من حمل أبناء سنفرو لمناصب رفيعة ووظايف مرموقة إلا أن أكثر هؤلاء الأبناء حظاً هو الأمير “خو إف وى” او “غنمو خو إف وى” والذى ستعرفه كتب التاريخ لاحقاً بإسم “خوفو” والذى سيكون صاحب أكبر بناء معمارى فى التاريخ وهو الهرم الأكبر.