أبيدوس
بنت رشيت
تقول أم سيتي بأن لها حياة أخري عاشتها في مصر القديمة منذ آلاف الأعوام وتحديداً في عصر الملك “سيتي الأول” ثاني ملوك الأسرة التاسعة عشر, فتحكي بأن قصتها بدأت علي أبواب معبد “أبيدوس” والمكرس للإله “أوزير” قاضي الموتي وسيد العالم السفلي, يقف جندي مصري بسيط وفي يده إبنته ذات الثلاث أعوام,أنجبها من أم بسيطة كانت تعمل بائعة خضروات رحلت منذ أيام قليلة إلى العام الآخر لتترك الطقلة يتيمة الأم, سيقوم الأب بوهب إبنته للمعبد فلن يستطيع أن يعينها علي الحياة, وبالفعل يقبلها المعبد بين جنباته ويحتضنها كهنته فتعيش خادمة لبيت ذلك الإله المصري العتيد “أوزير” سيطلقون عليها إسم “بنت رشيت” وسيعرفها الجميع بهذا الإسم حتي مماتها, يمضي الزمن وتتم “بنت رشيت” ثمانية عشر ربيعاً بالمعبد وهنا جائت لحظة الإختيار, إما أن تغادر المعبد لتندمج وسط الناس, أو أن تبقي إلى الأبد في خدمة أوزير بداخل معبده.
كان قرار بنت رشيت متوقعاً, ستبقي لتتعلم أكثر, تستكمل أم سيتى قصتها بأنها تعلمت أصول الكهنوت بداخل المعبد , تعلمت التطهر في البحيرة المقدصة وآداء الصلوات عند الشروق وفي منتصف النهار وعند أفوله, تعلمت كيف تؤدي الطقوس وتقدم جميع أنواع القرابين من رمان وبخور وتين ونبيذ بالإضافة إلى ذلك ستكون من الفرقة التي ستلعب ادواراً في المسرحية السنوية التي كانت تقام في إحتفالات عيد قيامة أوزير من الموت وكذلك عيد ميلاده.
في وقت ما وبينما هي مندمجة في ذلك العالم الروحاني بداخل المعبد, سيراها الملك “سيتي الأول” في أحد الإحتفالات, ولم تكن رؤيته لها عابرة, فتقول أنه أعجب بها وأحب لقائها وستتطور الأمور بينهما لأن يصبحا عاشقان, وسيتحرك في احشائها جنين منه, لم تستطع بنت رشيت إخفاء سرها كثيراً الذي أراد الكهنة معرفته فأخبرتهم بإسم والد الجنين وتحت ضغوط وتحقيقات ستنهار بنت رشيت وتختار أن تنهي حياتها بيدها خوفاً من الفضيحة.
الحادث
بلبل عبد المجيد أو أم سيتي, هي أسماء البريطانية “دوروثي لويز إيدي” 1904- 1981 والتي ولدت ببريطانيا وكانت نشاتها عادية مثل أي طفلة في سنها حتي أتمت الثالثة من عمرها ووقع لها حادث قلب حياتها كلها رأساً علي عقب, بينما دوروثي الصغيرة تلهو في المنزل تخونها قدماها وتقع من أعلي الدرج ساكنة بلا حراك, ينتاب الذعر ابويها اللذان يستدعيان الطبيب في الحال, وما أن يحضر الطبيب لا يستغرق وقتاً طويلاً حتي يعلم الخبر المأساوي, دوروثي ماتت ومن الأفضل الإسراع بتحضير الطقوس للجنازة وإتمام الإجراءات المتعلقة بالوفاة, ويمضي الطبيب ليستدعي ممرضة تشرف علي تغسيل ذلك الجسد الصغير ويترك دوروثي علي سريرها فاقدة الحياة.
ما أن يعود الطبيب مرة أخري إلي المنزل يجد مفاجأة مذهلة في إنتظاره, دوروثي تلعب علي السرير وكأن شيئاً لم يكن وكانها لا تعاني من أى شيء علي الإطلاق, وما بين دهشته ونظرات والديها التي تلومه وتتهمه بالإهمال تعلو ضحكات الصغيرة.
أريد العودة إلى الوطن
مع تكرار زيارات دوروثي وعائلتها للمتحف البريطاني بدا مشهدها وهي تلهو بين الآثار المصرية وتقبلها أمراً معتاداً لأمناء المتحف وحتي رواده, فهي تتجول بين التماثيل بحرية تقبلها وتحتضن بعضها وتتحدث معها, بل أن حتي بكاؤها المتكرر أمام صورة قديمة لمعبد أبيدوس أصبح شيئاً معتاداً بدوره, فهي تشير دوماً لتلك الصورة قائلة أن هذا هو وطنها وتبكي لتقنع والديها بان يأخذوها إلى هناك لتمضي بقية حياتها في وطنها أبيدوس.
لم يتحقق حلم دوروثي في طفولتها أبداً, فلم تزر مصر مرة واحدة , ولكنها مع إقترابها من العشرون لم تتخل عن حلمها أبدا, فاتجهت لتعلم اللغة المصرية القديمة زاعمة أنها تتلمذت علي يد عالم الآثار البريطاني “إرنست والاس بدج” أمين المتحف البريطاني وقتها, ومما ذكرته دوروثي أن بدج كان مهتما بما تفعله لأنه كان يري أن دوروثي يبدو انها لا تتعلم اللغة من البداية بل أنه يبدو أنها تراجع لغة تعرفها جيداً.
مع تلك الدوامة من التغييرات العاصفة بحياة الفتاة, ضاق بها والداها ذرعاً وأرسلاها إلى جدتها في مدينة “سوسكس” لتبتعد عن عالمها المثير للجدل وتنضم لجدتها في مكان هادىء تتعلم فيه أصول العقيدة المسيحية لشيفي الدين جروحها, إلا أن ذلك أتي بنتيجة عكسية تماماً فالتاة رفضت أى تعاليم دينية من أى نوع لانها كانت تري أن تلك التعاليم لها أصول وهي الديانة المصرية القديمة, وظلت تجادل كل من حولها بأفكارها حتي تم منعها من دخول الكنسية مرة أخري ولكن مع ذياع صيتها أصبح ذلك المنع أبدي, كان من الواضح أن تعلقها وإيمانها بحضارة وديانة المصريين القدماء ليس هوساً مؤقتا سيذهب لحالة بل أنه حلم ستحوله لحقيقة تحت أى ظرف, ومع عنادها وإصرارها سيحدث موقف سيتكرر كثيراً طوال حياتها, سيتركونها وشانها عندما يروا أنها لا تؤذ أحد ولا تدعو أحد لان يصدقها بل أنها لا تطلب من أحد أن يستمع لها, فقط هي تريد أن تذهب لوطنها وتجبه بطريقتها.
أم سيتي
مع مرور الأيام بدا وكأنه لا يوجد هناك أى شيء يمكن أن يثني دوروثي عن توجهاتها أو حتي قرارتها بشأن سنواتها القادمة, فأصبحت مهووسة بمصر تعشق كل ما يتعلق بها, بل انها إلتحقت في عام 1927 بجردية مصرية تصدر من لندن وساندت قضية إستقلال مصر عن التاج البريطاني, كانت تري أن مصر هي وطنها الذي ستفعل أى شيء من أجله.
وبعد ثلاثة سنوات ومع إمتلاء محيطها بالمصريون, ستتزوج دوروثي من شاب مصري يدعي إمام عبد المجيد, وبعد فترة قصيرة ستنجب منه طفلا وبالطبع لا داعي للحيرة بشان إسم طفلهما, أطلقت عليه إسم “سيتي” تيمنا بالملك سيتي الأول وكان إبنها هو السبب في لقب أم سيتي الذي ستعرف به بقية حياتها, ومع إمام كان لها إسم آخر وهو بلبل عبد المجيد وهو أحد الأسماء التي عرفت بها ولكنه لم يكن بنفس شهرة “أم سيتي”.
مع حلول عام 1931 وإنجاب سيتي يبدو ان أحلام دوروثي تتحقق وبسرعة, ففي ذلك العام كانت أول زيارة لها إلى مصر, ومع أن وضعت قداماها علي أرض الوطن قررت أنها أتت لتبقي ولن تغادر أبداً فمصر موطنها منذ آلاف السنين.
إلا ان الرياح دوماً تأتي بما لا تشتهيه السفن, تتوتر علاقة إمام ودوروثي لان إمام قد تلقي عقداً للعمل في العراق, بينما دوروثي لا تريد السفر فقد أتت مصر لتبقي, ينتهي خلافهما بالطلاق ويسافر إمام بالفعل لعمله, ومن ثم كانت الضربة الموجعة عندما نشب الخلاف بينهما علي حضانة الطفل الذي ذهب لوالده ولم تسمع منه دوروثي طوال حياتها لاحقاً إلا قليلا.. ولهذا حديث آخر, يتبع ..
(قابلت السيدة دورثيا التي يعرفها أهل المنطقة باسم «أم سيتي»، وكانت تمشي وخلفها خفير يحمل السلاح، وقد صار الرجل من أثرياء المنطقة لأن «أم سيتي» كانت تعطي له كل ما يأتي لها من مال من الزائرين للمكان ممن يستمعون لحكايتها العجيبة كان السائحون يلحون على مرافقتها بالمعبد والاستماع إلى قصتها، وكانوا يعطونها كثيرا من المال لمساعدتها. وإلى هذه السيدة يعود الفضل في تمكني من اللغة الإنجليزية، حيث فتحت لي مكتبتها؛ أستعير منها ما شئت من كتب في الأدب الإنجليزي والتاريخ والآثار. ويوما بعد يوم، وبفضل ما أتعلمه؛ كنت أواجه زملاء العمل الأميركان وأفوز في معركتي معهم دفاعا عن عبد الناصر. كانت أياما حقا جميلة رائعة,شديدة البساطة.. استمتعت فيها بالعمل في الآثار، وتعرفت عن قرب على حضارة عظيمة لا يزال كثيرون يجهلونها، وكذلك تعرفت على نماذج مختلفة من البشر.. وسبحان الخالق العظيم )زاهى حواس