تشتهر مصر بانها بلاد الأهرامات وموطن أبو الهول, وهناك صورة ذهنية في أذهان البشر تقرن صر بالأهرامات وأبو الهول دوماً الذين كانوا مثار إلهام وخيال وحتي أحلام وأوهام البشر.
شيد المصريون الأهرامات منذ آلاف الأعوام كشاهد علي عظمة الحضارة المصرية القديمة والتي تحولت الآن إلى أشهر وأعظم المزارات السياحية, فكيف بدأت قصة بناء الأهرامات المصرية وماهو أول هرم شيده المصريون؟
البعث والخلود
إرتبطت منشآت المصريون القدماء بفكرتين أساسيتين الأولي هي المباني الإلهية والمكرسة للإله والتي يدخل ضمنها المعابد الإلهية والفكرة الثانية هي مباني الأبدية أو الخلود والتي تتضمن الجبانات بما فيها من مقابر وكذلك معابد ملايين السنين أو معابد تخليد الذكري للملوك المتوفيين أو حتي بعض النبلاء في بعض الفترات التاريخية.
وقد بدأ تأمل المصري القديم في فكرة البعث الخلود منذ عصور مبكرة جدا بدأت مع فجر الحضارة المصرية القديمة وحتي عصور ما قبل الأسرات وما قبل الملك “مينا” موحد القطرين.
فقد تم العثور علي دفنات مبكرة جدا في الصحراء يدفن فيها المتوفي في حفرة ومعه بعض المقتنيات البسيطة ويوضع فيوضع الجنين مواجهاً للغرب, وقد كانت فلسفة المصري القديم تقول بأن الشرق هو المكان الذي تولد فيه الشمس ومن ثم ترتحل غرباً حتي تنزل تحت الأرض وتخوض رحلة مليئة بالمصاعب حتي الشروق مرة أخري, وقد آمن المصري القديم أن الإله رع نفسه يبحر في تلك الرحلة باستخدام مركبان واحدة لليل والأخري للنهار ويدعيان “معنجت” و “مسكتت” وبناء علي تصورات مبكرة لتلك الفكرة نشأت عقيدة البعث والخلود في مصر القديمة وأتت تلك الدفنات المبكرة بتلك الفلسفة, ومن المثير للدهشة أن تلك الأجساد كانت تحوي على مواد مصنعة مما يعني بالتبعية معرفة المصريين للتحنيط منذ فترات مبكرة جدا تسبق بناء الأهرامات بآلاف الأعوام وقد قام فريق من متحف تورين للآثار المصرية بفحص إحدي تلك المومياوات والتي تم العثور عليها بجبانة المستجدة وتقبع بالمتحف الآن ولها إسم مشهورة به وهو “فريدي” وكشف تلك الفحصوات عن أن هذه مومياء تم تحنيطها بتدخل بشري وليس لظروف حفظ طبيعية.
ما قبل الأهرامات
بدأت منشآت الآخرة في الحضارة المصرية القديمة بالبناء بالطوب اللبن فكان هناك جزء مخصص للدفن تحت الأرض كما ذكرنا سابقاً وتطور الأمر لوجود مبني فوق الأرض أخذ شكل نهائي كغرفة أو إثنتان أو حتي مبني كامل فوق الأرض أطلق عليه إصطلاحاً مصطبة – لتشاببها مع المصطبة التي تبني أما المنازل في الريف المصري حتي الآن – وكان غرضها زيارة المتوفي وإقامة الطقوس الجنائزية التي يحيا من خلالها في العالم الآخر, وكان أكثر شكل متطور للمصطبة هو مصطبة مزدوجة أي مصطبة ذات دورين.
وكانت منشآت المصريين في تلك الفترة منذ عصور ما قبل الأسرات وحتي نهاية الأسرة الثانية من الطوب اللبن مع عناصر معمارية من الحجر علي نطاق ضيق جدا, وقد شهدت تلك الفترة تطوراً هائلاً في مفهوم آخر وهو شكل الدفنات تحت الأرض ولا يوجد مثال علي ذلك أكبر من مقبرة ملك يدعي “ني نتر” وهو ثالث ملوك الأسرة الثانية حيث له مقبرة في منطقة سقارة كانت منشآاتها أسفل الأرض كبيرة بحجم ضخم تحوي علي عدد كبير من الغرف والمقتنيات وقد إستمر ذلك التقليد لفترة طويلة حتي تغير كل شيء مع جلوس الملك “زوسر” أول ملوك الأسرة الثالثة علي عرش مصر.
الطريق إلى الأهرامات
مع بداية حكم الملك “زوسر” كان من الواضح أن خططه لم تختلف عن أسلافه فنجده فور توليه العرش شرع في بناء بيت الأبدية الخاص به – مقبرته- في منطقة سقارة وقد كان التصميم في البداية عبارة عن مصطبة فوق الأرض ومنشآت أسفلها, وهنا نجد تغير درامي في الأمر برمته مع ظهور واحد من أشهر الشخصيات في تاريخ مصر باكملها وهو الكاهن الشهير “إيمحتب”.
كان من الواضح أن إيمحتب شخصاً من عامة الشعب تدرج في المناصب في حكومة الملك زوسر حتي شغل كثيراً من المناصب وأهمها كبير الرائين في مدينة الشمس, وكذلك لقب الثاني بعد الملك, ومن المعتقد أن إيمحوتب هو الذي غير خطط وفكر الملك “زوسر” بخصوص بيت الأبدية الخاص به وأنه هو من أدخل التعديلات عليه ليتحول في النهاية إلى هرم سقارة المدرج.
الهرم المدرج
وهو مسمي خادع بعض الشيء وسنعرف لماذا مع بقية سطور المقال, كانت بيوت الأبدية في مصر القديمة ذات طابع فريد وفلسفة من نوع خاص فهي ليست فقط مقابر وإنما ماكينات عملاقة ضخمة للبعث والخلود فعلي سبيل الثال كان يلحق بالمقبرة العديد من المباني التي تخدم الأغراض الجنائزية للمتوفي من معابد ملحقة وكذلك منشآت لها علاقة بالعقيدة المصرية القديمة لتضمان بعث المتوفي من جديد وحياة هانئة له في العالم الآخر.
ما قام به إيمحتب ببساطة هو أنه قام بالإستغناء عن فكرة البناء بالطوب اللبن وبدأ فورا في بناء مجموعة الملك زوسر باستخدم الحجر , ولانها كان المحاولة الأولي فنجد أن حجم الأحجار المستخدة في البناء تطابق مقاييس الطوب اللبن أى أن الحجر وكأنها محاكاة لحجم وشكل قالب الطوب اللبن وهو ما نجده واضحاً في مدخل مجموعة الملك زوسر الجنائزية في سقارة.
ثم نجد أيضا أن مدخل المجموعة محاكاة للقصر الملكي بشكل عام فنجد الأبواب وأماكن الاعلام وحتي الأبراج ايضاً والمباني العلوية وما أن ندخل المجموعة تتضح الفكرة بالأعمدة التي تحاكي أعمدة القصر الملكي وكذلك دهاليزه وممراته وينتهي بنا الحال في فناء يطل علي الهرم المدرج.
مصطبة أم هرم؟
أما عن الهرم نفسه فكما ذكرنا سابقاً فإنه تم تشييده في البداية ليكون مصطبة ومن ثم جري التعديل عليها بمد قاعدتها ومن ثم بناء درجات فوق بعضها البعض حتي وصل عددها إلى ست درجات ليخرج في النهاية شكل هرمي مدرج كتلته من الحجر الجيري وكسوته الخارجية من الحجر الجيري الأبيض كعادة الاهرامات المصرية لاحقاً.
مع هذا المخطط فمن المنصف أن نصف ذلك المبني بانه مصطبة مدرجة وليس هرماً بمفهوم الأهرامات الذى سيتبلور لاحقاً بعده بسنوات ليست بالكثيرة.
بينما نجد أن الجزء السفلي ن المبني كان أكثر تعقيداً مما سبقه وأكثر ثراءاً فعلي سبيل المثال إذا قمنا بمد الممرات والغرف أسفل الهرم في طريق مستقيم فسنجد أن طوله يزيد علي ثلاثة كيلومترات كاملة, وقد خصص الجزء السفلي كما ذكرنا للدفن ليس لزوسر فقط وإنما من المرجح أن ذلك شمل الأسرة المالكة أيضاً.
فلسفة الخلود
لم يكتف إيمحوتب بذلك فقط ولكنه أيضاً أضاف عناصراً معمارية كانت لها بعد فلسفي عميق فنجد أنه أما الهرم مباشرة ما يمكن أن نسميه إصطلاحاً معبد جنائزي وهو الذي سيظهر لاحقاً بشكل واضح في بقية الأهرامات المصرية , بينما في الجنوب نجد مبني غامض أطلق عليه المقبرة الجنوبية.
وإل الشرق من الهرم نجد ما يسمي بفناء عيد السد أو عيد تجديد شباب الملك, وقد كان ذلك الفناء مرتبطاً بإحتفال الملك بذلك العيد الثلاثيني الذي يجدد فيه شبابه ويتمثل في صورة حورس المنتقم لأبيه أوزير – إله العالم السفلي وقاضى الموتي- وفيه يهزم الملك ويسيطي علي قوي الفوضي في الكون ويعيد إقرار النظام وذلك العنصر المعماري لم يظهر بشكل واضح في أى مجموعة هرمية لاحقة للملوك الذين تلوا زوسر علي العرش.
كذلك فإن المبني الذي يسمي المقبرة الجنوبية زينت جدرانه بمناظر طقوس ذلك العيد أيضاً مما يرجح إرتباطة به إرتباطا وثيقاً , ولم يكن ذلك العيد مجرد طقوس رمزية يؤديها الملك لغرض الإحتفال وإنما كانت طقوساً دينية لا بد منها لإقرار النظام وتجديد ملك وسلطان بل وحياة الملك نفسه عن طريق جزء مهم منه كإنسان وهو ما يسمي ال “كا” , وال “كا” هو مصطلح مصري قديم يمكن أن نلخصه بانه قوي الحياة الموجودة بداخل الإنسان – وليست الروح لأن الروح كان لها مسمي آخر وهو ال “با”, فالإنسان عند وفاته تنفصل كاؤه عنه وتتركه وتعامل منذ ولادة الإنسان ككيان مساو له يولد معه ولا يفني حتي بعد وفاته.
لذلك كانت أقرب التفسيرات العلمية للمقبرة الجنوبية أنها كانت مخصصة لل “كا” الملكية للملك “زوسر” , وهي الفكرة التي ستتكرر مع الأهرامات التالية التي شيدت من بعد “زوسر” فنجد أن الملوك قد شيدوا أهرامات جانبية لل”كا” الملكية وهو ما يعكس أهمية ذلك العنصر الذي ضمنه المصري القديم من عناصر تواجد وكيان الإنسان وقد إستمر ذلك التقليد طوال الحضارة المصرية بكل عصورها بأشكال مختلفة ولكن بنفس المفهوم.
ما بعد الموت
نجد أيضاً أن دور المجموعة المعمارية للمك زوسر لم يتوقف عند حياته ولا حتي عيد ال “سد” وإنما كان لها دوراً محورياً في عملية إعادة بعث الملك نفسه ، فنجد أن التقليد المتبع كان تخصيص أوقافاً مخصصة لتلك المجموعة يذهب ريعها للإنفاق عليها في النهاية, وكانت الأنشطة التي تتم في تلك المجموعات المعمارية قائمة علي إقامة الطقوس والشعائر بشكل يومي , تقديم القرابين بشكل يومي وطبقاً لجداول محددة وإستمرار تلك المنظومة كان يعني إستمرار البعث لأطول فترة ممكنة, كما كانت رمزية تلك المباني تتضمن أيضاً إحتمالية توقف الطقوس تماماً فظهرت لاحقاً فكرة الجداريات والنقوش التي تضمن إستمرار تلك المنظومة ولو بشكل رمزي سحري.
نحو الأهرامات
مع تأسيس الملك زوسر ومهندسه العظيم إيمحوبت لتلك القواعد الراسخة عقائدياً وحتي فلسفياً كان ذلك بمثابة المثال الاول الذي إستقي منه الملوك لاحقاً أفكارهم بخصوص بناء الأهرامات، ومع ذلك نجد أن تغيراً مهولاً قد حدث بمرور الزمن وتطور الأفكار, فمن بعد زوسر إستمر تقليد بناء مصطبة مدرجة ومجموعة ملحقة بها مرة واحدة مؤكدة لدينا وهى مجموعة خليفته علي العرش الملك “سخم غت” وحتي تلك المجموعة قد هجرت ولم يكتمل بناؤها لربما لوفاة الملك قبلها.
ومع فجر الأسرة الرابعة بدأ فصلاً جديداً من تلك القصة مع تولى الملك سنفرو عرش مصر والذي كان أول ملك في التاريخ يبني هرماً حقيقياً أملس الجواني يخدم العقيدة الهرمية الشمسية التي كانت تحمل فلسفسة متطورة عن الإرث الذي تركه زوسر ومهندسه إيمحوتب.
مع إتمام تلك المجموعة الخاصة بالملك زوسر بداً من الواضح أن إيمحوتب قد أصبح أهم شخص في مصر كلها بعد ذلك الإنجاز لدرجة أنبعد وفاته بأكثر من ألفي عام عاد إسمه ليتردد في المجتمع المصري مرة أخري بإعتباره صانعاً للمعجزات بل وتم ترقيته لمصاف الآلهة في مصر القديمة نظراً لاهمية ما فعل وأصبح عند الإغريق إلها للطب.
أما ما حدث بعد وفاته مع ظهور أهرامات الجيزة العتيدة .. فلهاذ حديث آخر .