ليس مجرد تمثال أو رمز , بل هو المرادف الحرفي لكلمة “سر” فكم شهد أبو الهول من بشر وأزمنة وعصور وأقوام علي مدار آلاف الأعوام, يحلو لي أن أطلق عليه “الشاهد علي الزمان”, نبحر اليوم سوياً في رحلة مشوقة مع تاريخ أبو الهول, من هو وماذا كان يمثل؟ من قام بنحته؟ وكيف إندثر تحت الرمال وعاد فوقها مرة أخري؟
أبو الهول: التسمية
من المتعارف عليه أن كلمة أبو الهول هي تعبير عربي ويعني “أبو الفزع” وتمضي الروايات الكلاسيكية قائلة أن هذا الإسم – كغيره من الأماكن- تم تسميته من قبل العرب ليعبر عن واقع فهمهم لماهية تلك الآثار, فالمدينة العامرة بالمعابد ” الأقصر” تمت تسميتها بهذا الإسم لانهم ظنوا معابدها ومبانيها قصوراً فحمت ذلك الإسم, وكذلك أبو الهول كتمثيل لخوف الإنسان من هذا التمثال المهيب عظيم التأثير.
في مصر القديمة كان لذلك التمثال أكثر من إسم أخبرتنا به النصوص المصرية القديمة واهمها “سشب عنخ” ومعناها التمثال الحي, وكذلك “روتي” و”حور م آخت” (حورس في أفقه”, أتوم رع حور آختي وغيرها من الأسماء.
إلا أننا مع تتبع تاريخ تلك المنطقة فنجد أنه كان هناك معبداً للإله الكنعاني “حورون” وهي بالمناسبة الذي أشتق منه إسم قرية “الحرانية”, وكانت تلك المنطقة تسمي قديماً بر حول ثم بو هول ثم أبو الهول أى أن الإسم ماهو إلا تنويع علي التعبير المصري القديم وليس عربياً.
لماذا تم نحت تمثال أبو الهول؟
خلال عصور طويلة كشفت لنا أعمال الحفائر بهضبة الجيزة الكثير من الأسرار عبر أجيال متعاقبة من العلماء أمضوا عمرهم في البحث بها, وينقسم علماء المصريات إلى عدة آراء تدور جميعها في فلك الأسرة الرابعة المصرية, فيتبني فريق نظرية أن أبو الهول ما هو إلا تمثيل للملك خفرع مشيد الهرم الأوسط بالجيزة ويستندوا في ذلك إلى عدة أدلة أهمها , أن تمثال أبو الهول يقع مباشرة أمام الطريق الصاعد لمجموعة الملك الهرمية والمجموعة الهرمية عادة تتكون من معبد شعائر أمام الهرم مباشرة (عرب شرق) يليله طريق صاعد والذي ينتهي بمعبد آخر يسمي معبد الوادي لانه كان مطلاً علي النيل, وفي حالة مجموعة الملك خفرع الهرمية نجد أنه المجموعة إنحرفت إلى الجنوب لتفسح المجال لتشييد تمثال أبو الهول والمعبد الملحق به.
وقد كان موقع التمثال – الحافة الشرقية لهضبة الجيزة- في الأصل عبارة عن محجر كبير من المحاجر التي قطع منها العمال الحجارة اللازمة بناء أهرامات الجيزة وقد إنتقوا أفضل الأحجار وأجودها حتي تبقت كتلة هائلة من نوع غير جيد تركوها كما هو, ومع تشييد مجموعة الملك خفرع الهرمية كان لا بد من حل لتلك الكتلة العملاقة فرأي فيها المهندوسون – لربما كان على رأسهم الأمير عنخ حاف عم الملك خفرع- أنها يمكن أن تصبح تمثالاً فقاموا بتحويلها إلي أثر جميل يروق للعين.
من بني أبو الهول؟
كما ذكرنا في الفقرة السابقة فإن علماء المصريات يعزون نحت أبو الهول لعصر الملك خفرع وأن التمثال يمثل وجه الملك حفرع نفسه, ويضاف علي ما سبق أن الحفائر بالمنطقة كانت تشير وبشدة لتلك الفترة الزمنية فطبقات الأرض لا يوجد بها أثار تسبق عصر الأسرة الرابعة كما أن هناك أثر مهم وهو لوحة الحلم التي أقامها الملك “تحتمس الرابع” بين مخلبي أبو الهول وذكرت إسم الملك خفرع صراحة.
إلا أن هناك آراء أخري يتبناها أسماء لها وزنها في علم الآثار فنجد “راينر شتالدمان” يذكر أن وجه أبو الهول هو وجه الملك “خوفو” وليس إبنه “خفرع” ولرما تم تشييد هذا التمثال في عصر الملك خوفو أو أنه أثراً شيده خفرع لأبيه “خوفو”.
بينما يري عالم الآثار البلغاري الفرنسي “فاسيل دوبريف” أن أبو الهول من أعمال الملك “جدف رع” إبن وخليفة الملك “خوفو” والذي حكم قبل “خفرع” ويتفق مع “شتادلمان” أن وجه التمثال لخوفو وليس لخفرع.
علي أن علماء الآثار يتفقوا في أن تمثال أبو الهول يعود لعصر الأسرة الرابعة بلا شك لجميع الأسباب المذكورة بالأعلي وغيرها من التفاصيل والأدلة الأخري.
أبو الهول أقدم من الحضارة المصرية؟
في هذا الشأن تتعدد الأقاويل وتختلف فيذهب البعض إلى عصور سحيقة ويذهب آخرون إلى ماهو أبعد من العصور السحيقة, وهي مشكلة عامة تتعلق بكل آثار مصر تقريباً وهي أنها مثيرة للخيال البشري فيخرج الكثيرون بما يطلقون عليه نظريات وأبحاث وفرضيات لطرح خيالات وأوهام لا علاقة لها بالواقع, وجميع أصحاب هذه الآراء إما باحثين عن شهرة بلا خبرات أو سمعة في الميدان الأثري , والفريق الآخر هم مجموعة من غير المتخصصين واللذين لا علاقة لهم بالمجال الأثري إطلاقاً يطرحون تصوراتهم الشخصية تحت مسمي “نظرية علمية” ويستمدون قوتهم من قبول الناس لهذا الكلام, بل أن بعضهم يذهب إلى ماهو أبعد من ذلك ويعتبر أن ما يقدمه هو العلم بينما العلم الحقيقي هو خدعة يمارسها جهات خفية تتآمر علي البشر!
علي أن في هذه الحالة نجد أن محور النقاش يتحول إلى تفنيد ماهو علم وماهو ليس بعلم وهو شيء صعب علي الإنسان العادي في ظل سهولة تداول المعلومة – تداولها وليس توافرها-, فحتي مع توفر المعلومات العلمية يظل الإنسان أسيراً لما هوي.
وهذه المشكلة لا تتواجد بالبلدان متحدثي العربية فقط وإنما في العالم اجمع وذلك بسبب قروناً من عدم المعرفة بالحضارة المصرية والتي خلقت وعياً جمعياً خيالياً توارثته الأجيال وأصبح لديهم حقيقة مطلقة لا تقبل الجدال, ولكننا – وبشيء من التحفظ يمكننا تقسيمهم إلى إتجاهات أساسية
الغربيين وأطلانتس: منذ الستينيات تجلت تلك الأفكار والخزعبلات ناسبة الأهرامات وأبو الهول لأقوام آخرين غير الحضارة المصرية القديمة, وظلت تلك الخرافة يتم تدويرها وبلورتها في العديد من الصور والأشكال, علي أن معتنقيها قد إستقروا في فترة الثمانينات أن تلك الآثار من صنع سكان قارة أطلانتس المزعومة والذين كانوا من سكان كوكب المريخ, وقد إستعانوا بالصورة الشهيرة التي إلتقطتها “فايكينج” عام 1976
التي زعموا أنها تمثل وجه أبو الهول, إلا أن ومع صدور صور جديدة عالية الجودة لنفس البقعة علي ظهر الكوكب الأحمر فتبين أنها مجرد تبة رملية لا تمثل وجها ولا هي منحوتة أو من عمل كيانات أذكياء.
إلا أنه وعلي الرغم من ذلك فإن أصحاب تلك الخرافات لم يتوقفوا وتجاهلوا هدم أدلتهم المزعومة واحداً تلو الآخر وظلوا يعدلون ويقومون بتكييف أطروحاتهم لتتناسب مع الظروف.
الشرق وإعادة تدوير مهملات الغرب:
في الشرق تختلف القصة تماماً ولكناه تتبع نفس التيمة, فمعظم الأفكار المتداولة عن الحضارة المصرية هي عبارة عن إعداة تدوير لمهملات الغرب الفكرية والتي لربما تخلي عنها أصحابها, فنجد من يعيد تدوير خرافة أطلانتس ويستبدلها بقوم عاد, وآخرون يستبدلوا أطلانتس بأن المصريون أنفسهم قد بدأوا في تشييد تلك الآثار منذ عشرات الآلاف من السنوات, وتستمد تلك الخرافات قوتها من الهوس الديني لدي البعض والهوس الحضاري لدي البعض الآخر, فنسب الآثار المصرية لقوم عاد يتماشي مع هوي البعض الديني الذي يريد إجابات جاهزة, بينما مد عمر الحضارة المصرية يتناسب مع حب وهوس البعض بحضارة مصر القديمة بعيداً عن الحقائق العلمية.
وفي جميع الأحوال فإنه – وكالعادة- تظل العلوم ثابتة تقدم أقرب تصور للحقيقة يتسق مع الأدلة المادية والتي تقدم تصور واضح بينما يمكن تمييز الخرافات بسهولة حيث أن جميعها متناقضة مع بعضها البعض ولا تقدم تصوراً واحداً, فيمكن لهؤلاء أن يحسموا خلافاتهم سوياً ويستقروا علي إفتراض واحد ثابت بشأن الآثار المصرية أولاً.
أبو الهول تحت الرمال
مع حلول عصر الدولة الحديثة كانت صفات أبو الهول في أذهان المصريين قد تغيرت, فأصبح أبو الهول يمثل المعبود الشمسي وأصبحت له طقوس خاصة له دون غيره,فنجد أن الحفائر أظهرت لوحات كثيرة هامة تدل علي أن أبو الهول كان له مكانة عظيمة في فترة الدولة الحديثة, فنجد معبداً صغيراً شيده الملك أمنحتب الثاني تكريماً لأبو الهول وهو بالقرب من الناحية الشمالية الشرقية من التمثال وبه لوحة من الحجر الجيري يحكي فيها عن أيامه وأحداث حياته ومعها سبب بناء هذا المعبد, فقد كان أمنحتب الثاني مولعاً بالصيد والرياضة بشكل عام وكان لا يحس بالسعادة إلا بين خيوله وهو يدربها, وقد تملك السرور من ابيه الإمبراطور “تحتمس الثالث” لان إبنه الصغير بدأ يأخذ صفاته, وتمضي اللوحة لتحدثنا عن مهارة “امنحتب الثاني” في قيادة العجلة الحربية فوهب له أباه كل ما في إسطبلات منف من خيول, وتمضي القصة فيحكي لنا أمنحتب الثاني خروجه بعربته من منف إلى جبانة الجيزة حيث قضي يومه متعجباً يتأمل عظمة الأهرامات وأبو الهول وأقسم أنه عندما يأتي اليوم الذي سيعتلي فيه عرش البلاد سيبني معبداً تكريماً له, وقد زاد علي ذلك المعبد ملوك مصر لاحقاً وعلي رأسهم “ٍسيتي الأول” – الأسرة التاسعة عشر- فأقام لوحة من الحجر الجيري في مقصورة جانبية من فناء المعبد, وكذلك نجد إسم مرنبتاح حفيده في إضافات “سيتي الأول”
إلا أنه علي الرغم من ذلك فسنعود قليلاً لمنتصف الأسرة الثامنة عشر لنجد ان أبو الهول قد زحفت عليه الرمال بين الحين والآخر وإستمر تراكما حتي غطته باكمله عدا رأسه.
حلم تحتمس
بين مخلبي أبو الهول توجد لوحة من الجرانيت لملك مصري قديم يحكي فيه قصة مثيرة للإهتمام عن أبو الهول, كانت الصحراء حول الأهرامات تعج بالحيوانات التي كان يخرج لصيدها الأمراء والنبلاء وحتي الملوك , حتي ياتي أميراً شاباً يدعي “تحتمس”- سيصبح ملكاً لاحقاً وهو تحتمس الرابع– والذي كان إبنا للإمبراطور “أمنحتب الثاني” ويخرج للصيد في تلك المنطقة وعند منتصف النهار يذهب “تحتمس” بالقرب من أبو الهول ليرتاح ويتناول الطعام ويستظل تحت رأس أبو الهول حتي يغلبه النوم.
في الحلم يري “تحتمس” أبو الهول الذي خاطبه مذكرا إياه بانه أبوه وإلهه وإله أجداده, ويستطرد أبو الهول يصف الحالة التي وصل إليها من الرمال التي غمرته والتآكل الذي طال جسده, ووعده أبو الهول أنه إن أزاح الرمال عنه فسيصبح ملك مصر القادم.
بالفعل تمضي القصة بعملية ترميم هائلة لتمثال أبو الهول, فأزاح تحتمس الرمال عنه وقام بترميم التمثال بالكامل وأنشأ سوراً حوله ليمنع تراكم الرمال عليه, وأقام تلك اللوحة بين مخلبيه يحكي فيه تلك القصة المذهلة التي أخبرتنا عن فترة مهمة في تاريخ أبو الهول, وعلي الرغم من ان تلك القصة من الواضح أنه كان من أغراضها الدعايا الواضحة للملك “تحتمس الرابع” لإثبات أحقيته الإلهية بعرش مصر إلا أنها وبشكل غير مباشر أخبرتنا عن حالة التمثال في تلك الفترة وأول عملية ترميم تمت له في التاريخ.
وبمرور الزمن لم يفقد أبو الهول مكانته حتي مع دخول الإغريق والرومان إلى مصر, ولهذا حديث آخر