عند النظر في تاريخ مصر القديم سنجد بعض الأسماء والاماكن التي حفرت لنفسها مكاناً في وجدان العالم أجمع ومما لا شك فيه أن “تحتمس الثالث” هو واحد من تلك الأسماء التي لمعت في سماء تاريخ مصر وخلدته أعماله إلى الأبد, هو أول أباطرة مصر والإمبراطور المصري الذي ساد آسيا وإفريقيا وهو في منتصف العشرينيات، فمن هو تحتمس الثالث؟
تحتمس الأول يصل للفرات
ينتمي الملك تحتمس الثالث تاريخياً للأسرة الثامنة عشر المصرية والتي أسسها الملك أحمس قاهر الهكسوس, وقد إتخذت تلك الأسرة منهجاً واضحاً في إعادة إعمار مصر وتأمين حدودها لمضان عدم تكرار مآساة إحتلال الهكسوس لمصر فكان ملوك تلك الأسرة محاربين لا يشق لهم غبار.
كانت بداية بذرة عائلة تحتمس الثالث مع تولي جده تحتمس الأول عرش مصر, وقد كان تحتمس الأول واحداً من أعظم ملوك مصر المحابين في تاريخها فقط بسط نفوذه جنوباً وتوغل في افريقياً بينما من الشرق توغل حتي وصل نهر الفرات والذي أطلق عليه المصريون القدماء وقتها “المياه المقلوبة” أو النهر المقلوب وذلك لأن نيل مصر يجري من الجنوب للشمال علي عكس الفرات.
مع تلك الحدود التي أقرها تحتمس الأول كان من الطبيعي ان ياتي الملوك من بعده ليكملوا ما بدأه ولكن ما حدث بعد وفاة تحتمس الأول كان مفاجأة قلبت كل الأمور رأساً علي عقب.
تحتمس الثاني
تخبرنا نصوص عصر تحتمس الأول أولاده والذين كانوا ” تحتمس”, “آمون مس”, “واج مس” ومن البنات “حتشبسوت” و “نفروبيتي”. وقد كان لتحتس الأول زوجة رئيسية وهي الملكة “أحمس” والتي أنجب منها بناته الإثنين ولكنها لم تنجب له ذكوراً, بينما زوجته الأخري “موت نفرت” قد أنجبت له ثلاثة من الذكور.
وهنا إنتقل العرش من “تحتمس الأول” إلي إبنه “تحتمس” الذي سيعرف لاحقاً بإسم تحتمس الثاني, وقد تزوج تحتمس هذا من زوجته غير الشقيقة “حتشبسوت”.
ويختلف علماء المصريات في تأريخ عدد سنوات حكم الملك “تحتمس الثاني” فهناك من يذهب إلى أنه قد حكم فترة قصيرة لم تتجاوز أربع سنوات, بينما يذهب آخرون الى فترة حكم لا تقل عن اربعة عشر عاما, وعلي اية حال فإن تحتمس الثاني قد قام بحملات تأديبية لإخماد ثورات بدأت تظهر في إفريقيا ومن ثم ألحقها بحملات تأمينية علي الحدود الشمالية الشرقية بل أنه توغل في العمق السوري.
حتشبسوت: المرأة التي أصبحت ملك
كما ذكرنا سالفاً فإن تحتمس الثاني قد تزوج من أحته غير الشقيقة حتشبسوت وكانت زوجته الرئيسية ولكنها أنجبت منه إبنة كان إسمها “نفرو رع” وهي الأميرة التي قام بتربيتها المهندس الشهير “سننموت” والذي كان أحد العقول المدبرة لفترة حكم الملكة حتشبسوت.
وعلي جانب آخر فإن تحتمس الثاني كانت له زوجة ثانوية تدعي “إيزيس” أنجب منها ولداً يدعي تحتمس ستسميه كتب التاريخ “تحتمس الثالث”, وهنا – ومثل عصر ابيه- بدا من الواضح أن عرش مصر سيؤول للذكر من زوجة ثانوية.
وبالفعل يتوفي تحتمس الثاني تاركاً إبنه تحتمس الثالث طفلاً صغيراً, وقد كانت التقاليد في مصر القديمة تقتضي أنه في هذه الحالة ستكون الوصي علي عرش مصر واحدة من نساء القصر, وفي تلك الحالة كانت حتشبسوت وصية علي عرش تحتمس الثالث.
أما ملك مصر وقتها “تحتمس الثالث” فكان لا يزال صغيراً وتولت عمته حتشبسوت إدارة أمور البلاد لحين إشتداد عوده وبلوغه سناً يستطيع فيها إدارة الأمور بمفرده, وقد إستمر ذلك الحال حتي أول سبع سنوات من تلك الفترة وبعدها قامت حتشبسوت بتنصيب نفسها ملكاً علي البلاد وأخذت كل الألقاب الملكية المتعلقة بهذا المنصب.
نزاع علي العرش؟
يستند البعض إلى ملابسات تلك الفترة ليفترض أن ما فعلته حتشبسوت كان إغتصاباً للعرش بدون وجه حق وأنه كان فعل إستثنائي في تاريخ مصر القديم, إلا ان تلك الفترة كان لها ملابسات وظروف خاصة أعطتنا رؤية جديدة للأمور من منظور مختلف تماماً.
فعلي سبيل المثال نجد أن تحتمس الثالث قد إنخرط في سلك الجندية المصرية حتي النخاع وأصبح مقاتلاً لا يشق له غبار وقائداً أعلي للجيش, أى أن تحتمس منذ صغره كان يتم تأهيله بتربية ملكية عتيدة جعلته في النهاية يشغل أرفع مناصب الجيش المصري, بينما علي الجانب الآخر قامت حتشبسوت بالتركيز عيل الأوضاع الداخلية وتدعيم أركان شرعيتها في الحكم, فنجدها تصور ولادتها الإلهية من الإله آمون علي جدران معبد الدير البحري, وكذلك فإنها قامت بالعديد من الإنشاءات فائقة الضخامة مثل معبد الدير البحري وهو معبد ملايين السنين الخاص بالملكة وبه مقاصير عبادة للآلهة آمون وحتحور, بينما كان مشروع حتشبسوت القومي وكبر دعايتها السياسية هو بعثة بلاد بونت الشهيرة والتي دونت تفاصيلها علي جدران معبد الدير البحري, وقد أرسلت حتشبسوت بعثة إلى بلاد بونت بعد إنقطاع مصري دام أكثر من ألف عام عن تلك المنطقة.
كان أشهر العقول المدبرة لفترة الملكة حتشبسوت هو مهندسها ومربي إبنتها والمدعو “سننموت”, وهو مهندس معبد الدير البحري وقد كان من عامة الشعب الذين ترقوا في المناصب حتي وصل إلى أرفعها بداخل القصر الملكي في عصر حتشبسوت, كذلك تخبرنا نصوص عصر حتشبسوت ببعض الأمور غاية في الأهمية بغض النظر عن مصداقيتها, فحتشبسوت كانت دوماً تتباهي بأبيها تحتمس الأول العظيم وذلك لانها إبنته البكرية بل إنها إدعت أن توليها للعرش كان برغبة من أباها نفسه, ولكن في مصر القديمة كانت التقاليد الملكية تميل لأن يتولي عرش مصر ذكراً وهنا تظهر نقطة بالغة الأهمية وهو أن البعض يعتقد ان الملكة حتشبسوت قد تشبهت بالرجال وارتدت ملابسهم واكسسواراتهم, بينما واقع الأمر أن النصوص المصاحبة لمناظر عصرها كانت تصفها بصيغة المؤنث دوماً علي الرغم من إرتدائها لإكسسوارات ذكورية مثل اللحية المستعارة, وقد كان إرتداء تلك الأزياء هو تقليد لا حياد عنه في مصر القديمة نظراً للقدسية التي يتمتع بها منصب الملكية, فلم يكن بمقدرو حتشبسوت أو غيرها أن يغيروا من تلك التقاليد, وبالتالي ما فعلته حتشبسوت هو إتباع تقاليد الملكية لا أكثر ولا أقل ولكن كان كل أهل عصرها يعلمون أنها أنثي.
أما آخر الكشوفات الآثرية فهي تشير إلى فترة حكم مشترك بين تحتمس الثالث وعمته حتشبسوت, فعلي جدران المقصورة الحمراء بمعبد الكرنك نجد أن حتشبسوت وتحتمس كلاهما مصوران في منظر الملك, وكلاهما إسمه بداخل خرطوش والمناظر نفسها توضح تناغم بين الطرفين, فحتشبسوت تقود الموكب مرة وتحتمس يشعل لها البخور وهكذا, لذلك تشير أغلب المصادر المحدثة الآن إلى أن فترة حكم حتشبسوت كانت مشتركة بين الإثنين.
تحتمس الإمبراطور
مع وفاة حتشبسوت بعد ما يربو علي العشرون عاماً في السلطة جاء دور “تحتمس” الصغير ليصبح ملكاً مطلقاً منفرداً علي عرش مصر, وقد واجهته بعض المصاعب كعادة ذلك الوقت, فمع وفاة حتشبسوت ظهر خطر قديم كان يخشاه المصريون كثيراً, فبقايا الهكسوس الذين طردهم أحمس لا يزالوا متربصين لمصر في سوريا بل أنهم كونوا تحالف كبير لمحاولة إطاحة الملك الشاب من علي العرش.
عادة بعد تولي ملك مصري جديد للعرش تنتشر الأخبار بسرعة خارج مصر ويستغل الأجانب تلك الفترة الإنتقالية بين الملوك لإثارة القلاقل, إلا أن عصر تحتمس كان استثنائيا لأن ذلك التحالف الآسيوي الهكسوس قد بلغ عدد 320 إمارة ومملكة تحالفوا جميعاً لإسقاط مصر والتخلص من ملكها.
وقد كان هذا أكبر تحديات عصر تحتمس علي الإطلاق, فنجد أن اول قراراته هو المبادرة بملاقاة العدو علي أرضه والتوجه لمدينة “مجدو” السورية التي تحصن بها ذلك التحالف, وفي ذلك الوقت نجد أن حتي قيادات الجيش المصري وقتها كانت في حيرة من أمرها فمجدو لا يوجد لها سوي طريقان, أولهما سهل مفتوح يعزز من مهمة الجيش في الإنتشار وعدم نصب الكمائن له وسهولة التحرك بالمعدات, بينما الطريق الآخر هو ممر ضيق بين الجبال يدعي “عارونا”, وقد إتخذ تحتمس قراراه بإتخاذ ممر عاروناً
لا تدعنا نسلك هذا الطريق الصعب
من خطاب قيادات الجيش المصري لتحتمس
وقد كان لذلك القرار وقع الصاعقة علي قيادات الجيش المصري الذين راوا ان هذا الطريق كمين وفخ لا نجاة منه, فمن الأعلي يمكن تمركز قوات العدو ومهاجمة الجيش المصري الذي سيكون لا حول له ولا قوة, ولكن تحتمس أصر علي قراره بإتخاذ ذلك الممر وتفكيك المعدات وحملها علي الأكتاف حتي الوصول لمجدو التي لن يتوقع العدو فيها الهجوم من تلك الجهة.
إلي مجدو
بالفعل توجهت قوات الجيش المصري وعلي رأسها تحتمس بنفسه كعادة ملوك مصر, وتم إتباع التعليمات التي أعطاها لهم ملكهم وعبر ممر عارونا عبرت القوات لتصل إلى أرض المعركة التي لم يتوقع فيها العدو الهجوم من تلك الجهة ابدأ, فما حدث كان أن الجيش المصري أخذهم بغتة وإستغل عنصر المفاجأة فبدا وكأن المعركة ستنتهي بعد وقت قصير فعلا, ساد الجيش المصري أرض المعركة بعد هنيهة من الزمن ولكن حدث خطأ جسيم عندما إنشغلت قوات الجيش بأحصاء الغنائم وتركوا قيادات التحالف تفر للإحتماء بالقلعة في مجدو.
أغضب ذلك الموق تحتمس كثيراً, فالمعركة كانت مضمونة تماماً لولا ذلك الخطأ ولكنه إستطاع إستدراكه بفرض الحصار علي مجدو والذي دام حوالى ستة أشهر وإنتهي باستسلام قيادات ذلك التحالف وإعلان النصر.
مع كبر حجم ذلك التحالف وجد “تحتمس” أن نفوذه الآسيوي الآن قد فاق من قبله, فكل الممالك المتحالفة تم إخضاعها ومن ثم وقعت تحت الحكم المصري ليتحول تحتمس الثالث من ملك إلى إمبراطور يمتد سلطانه وحكمه إلى مصر وآسيا وافريقيا.
قام تحتمس بترسيخ حكمه وسلطانه عن طريق تعيين مبعوثين مصريين في تلك البلدان لضمان ولائها وعدم حدوث قلاقل, كام كان حكامها من الموالين لمصر والذين تشربوا بالثقافة المصرية مع مرور الزمن, ومع إلتفات تحتمس إلى افريقيا وتطبيقه المثل نجد أن نفوذه قد إمتد وتوغل في افريقيا إلى مرحلة لم يضاهيه فيها أحد.
وقد خاض تحتمس طوال عشرون عاما ما حوالى مجموعه ستة عشر حملة عسكرية والحملة يتخللها عدة معارك أى أن عدد المعارك التي خاضها تحتمس الثالث لا يمكن تحديده بدقة, وقد خاض تحتمس هذا كله ولم يهزم في معركة قط طوال حياته.
ومن المثير للإعجاب ومما وجدناه موثقاً في السجلات المصرية أن الرسايل الواردة للجانب المصري من رعايها وحلفائها الآسيوين ظلت تردد إسم “تحتمس الثالث” حتي بعد وفاته مترحمين عليه تارة وتارة أخري يطلبون منه التدخل لإنقاذهم في مواقف أخري, وقد ظهر ذلك جلياً في عصر إخناتون والذي إجتاحت فيه الفوضي تلك البلدان والمناطق وعلي الغرم من وفاته وقتها بوقت طويل ظل إسم تحتمس” يتردد في أرجاء تلك البلاد.