الكثيرون علي أرض مصر يعرفون إسم مينا” باعتباره أول ملوك مصر القديمة وموحد القطرين, وهي معلومة صحيحة بالفعل إلا أن ذلك لم يكن التوحيد الوحيد لقطري مصر في تاريخها, فقد تكررت تلك العملية قبل مينا وبعد مينا بقرون, ففي فترة صعبة من تاريخ مصر انفصل قطري مصر عن بعضهما البعض وضاعت السلطة المركزية,فنهض واحد من ابنائها ليقوم بفرض النظام مرة أخري ويكن الموحد الثاني للقطرين المصريين ليهب مصر أنفاس الحياة مرة أخري, إنه الملك “منتوحتب الثاني” واحد من أعظم ابطال مصر في تاريخها.
نهاية عصر بناة الأهرام
إمتدت تلك الفترة المسماة “الدولة القديمة” والتي إشتهرت ببناء الأهرامات العظيمة طوال الأسرات من الثالثة حتي السادسة , وقد كانت بداية النهاية في عصر الملك “ببي الثاني” من الأسرة السادسة,>
وقد عزي المؤرخون نهاية الدولة القديمة لذلك الملك علي وجه التحديد إستناداً علي المصادر الكلاسيكية مثل مانيتون والتي منحته 94 سنة علي عرش مصر, وتستمر تلك الفرضية بأن الوضع في عصر ذلك الملك قد بلغ في نهايته مرحلة سيئة كان سببها المباشر هو تغول طبقة النبلاء وحكام الأقاليم وحصولهم علي إمتيازات وسلطان خرج بهم عن سلطة القصر الملكى والحكومة المركزية, وعلي الرغم من ذلك فإن الكشوفات الأثرية الأحدث تعزي للملك “ببي الثاني” فترة حكم تقدر بحوالي 64-66 سنة وهي لا تزال فترة طويلة تسمح بهذا الإنحدار.
ثورة شعبية
وعلي ما يبدو أن سوء تلك الأوضاع قد تسبب في كارثة أحاقت في البلاد لغياب العدل وإنتشار الظلم فقامت ثورة شعبية عظيمة قضت علي الأخضر واليابس في مصر , وأهم المصادر التي تحكي عن تلك الثورة هي بردية الحكيم المصري “إيب ور” والذي يبدو أنه عاصر تلك الأحداث وقام بوصفها بكل تفاصيلها البشعة, فيبدأ بالحديث عن البؤس الذي أصاب البلاد من سرقة وقتل ونهب وتخريب, فالموظفون تم تشريدهم والإدارة تفككت والأجانب إنتشروا في البلاد وأصبح البدو محل المصريون , لم يعد الفلاح يزرع أرضه بل يخاف من الذهاب إليها وقت الفيضان ومن يزرع أرضه لا يزرعها سوي وهو يحمل درعه.
ومما أخبرنا به “إيب ور” أيضاً هو تفريغ المقابر من محتوياتها وكذلك الأهرامات وإلقاء الجثث في النيل وهو ما يلقي الضوء علي أول وقائع نهب الآثار المصرية علي نطاق واسع, ثم يخاطب “إيب ور” ملك مصر وقتها – علي ما يبدو ببي الثاني- قائلا:” إنك حزت علي القيادة والذكاء والصدق ولكنك لا تستخدمهم, الفوضي ضاربة في البلاد وأنت تغذي بالأكاذيب التي تتلي عليك, فالبلاد إحترقت والإنسانية لم تعد موجودة, ليتك تذوق من هذا البؤس!”.
وعلي الرغم من سوداوية ذلك النص الواضحة إلا أنه ايضا ترك نبؤة مستقبلية تتحدث عن أيام مستقبلية ستتحسن فيها الأوضاع وتعود الحياة لمجراها.
عصر الفوضي الأول
وهو العصر الذي تلا ذلك الإنهيار ويشمل الأسرات السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والجزء الأول من الأسرة الحادية عشر, وهي الفترات التي تسبق إعادة تأسيس الحكومة المركزية مرة أخري وفرض سيطرتها.
تبدأ تلك الفترة بالأسرتان السابعة والثامنة التي يدمجها علماء الآثار في أسرة واحدة وذلك نظرا لقلة مصادر تلك الفترة وغموضها الشديد, وقد إنتهت تلك الفترة بوضع يقارب وضع مصر قبل توحيد قطريها علي يد مينا.
بين أهناسيا وطيبة
وقد إستقر الوضع ببيتين حاكمين واحد في الشمال والآخر في الجنوب, كان الشمالين هم الأسرات 9 و10 بينما الجنوب الأسرة 11, وقد جعل الشماليون عاصمتهم “أهناسيا” والتي كانت تحوز أهمية دينية قصوي لدي المصريين ففيها رفع الإله “شو” إله الرياح السماء عن الأرض وفصلهما وجعل الارض يابسة, كذلك فهي مقر تتويج الإله أوزير كأول ملوك لمصر في المعتقد الديني المصري القديم وكذلك إبنه الإله “حورس”, وكان أول الملوك الشماليين للأسرات 9 و10 هو “غتي الأول” وهو علي ما يبدو نفس الملك المذكور في قصة شكاوي الفلاح الفصيح.
أما في الجنوب فقد إستقر الحكم بأول ملوك الأسرة الحادية عشر وأول ملوكها “إني إيت اف الأكبر” (أنتف الأكبر), والذي لم يحمل الألقاب الملكية ولكنه حمل لقب الأمير الوراثي وحاكم طيبة.
صراع القطرين
هناك بردية تعرف بإسم تعاليم مري كا رع, وهي عبارة عن مجموعة من التعاليم من الملك الشمالي “خيتي واح كا رع” (غتي الثالث) إلى إبنه “مري كارع” وفيها نعرف عن صراع حدث بينه وبين أمير طيبة, وهي الواقعة التي تمت تسميتها “واقعة ثني” , حيث حدثت معركة كبري بين الطرفين قام فيها الشماليون بتنديس منطقي “ثني المقدسة” (لربما العرابة المدفونة).
لقد أستوليت عليها في هجوم كالصاعقة, تأمل! لقد حلت في عصري كارثة, تم تخريب “ثني”, ولقد حدث ذلك بالفعل, وكنت أنا السبب, لقد أحسست بجرمي بعدما اقترفته وكان ذلك من أعمالي السيئة, إنتيه فكل من يعمل سيئاً يجزي مثله
وقد كانت لتلك الواقعة أثراً كبيراً في الصراع بني الجنوبيين والشماليين, فتلك المنطقة تحمل قدسية كبيرة في نفوس المصريين, وعلي ما يبدو أن جنود “غتي” قد خرجوا عن السيطرة وقاموا بنهب وتدنيس المقابر الملكية والمنطقة باكملها, وهنا يبدو أن هذه كانت نقطة التحول في الجنوب فنجد أنتف الأكبر يعلن نفسه ملكاً ويحمل الألقاب الملكية فيظهر اسمه “حور واح عنخ إني إيت اف عا”.
وقد كانت مقاطعة أسيوط مناصرة للشماليين في حربهم ونصوصها هي التي أخبرتنا عن احد فصول ذلك الصراع, والذي يحكي عن حملة قام بها “أنتف” ناحية الشمال عبر نهر النيل ولكنها فشلت, ولكنه لم ييأس فقام بحملة أخري فشلت هي الأخري وحكي عنها أمراء مقاطعة أسيوط, وكانت نقطة التحول مع قيادة “أنتف” لحملة ثالثة قص علينا تفاصيلها بنفسه هذه المرة.
لقد جعلت حدود مملكتي في الشمال حتي أطفيح, ورسوت بسفني عند الوادي المقدس واستوليت علي “ثني” وسيطرت عليها, جعلت منها بوابة شمالية لسلطاني.
بعد تلك الواقعة إستمرت المناوشات بين الجنوبيين والشماليين حتي كانت آخر فصول الصراع مع تولي أمير قوي يدعي “منتوحتب” لعرش طيبة, في مقابل “ميري كا رع” في أهناسيا.
منتوحتب الثاني موحد القطرين
يعطي علماء الآثار لمنتوحتب فترة حكم تقدر ب 51 سنة علي العرش, وقد بدأ حكمه بأربعة عشر عاماً من السلام والصمت, وبعض العلماء يعزي واقعة تدنيس مدينة ثني إلى العالم الرابع عشر من حكم منتوحتب وليس حكم أنتف الأكبر, ولكن من المؤكد أن ذلك العام قد شهد تجييش منتوحتب لجيوش لمجابهة الشماليين , وهناك مقبرة تم تشييدها بمنطقة الدير البحري أطلق عليها “مقبرة الجنود” وهي عبارة عن دفنة لستون من جنود منتوحتب والذين توفوا في أرض المعركة ضد الشماليين, وعلي ما يبدو أن تلك الدفنة كانت تكريماً من الملك لأبطاله البواسل في تلك المعركة التي أعقبها إختفاء سيرة الملك الشمالي “مري كا رع” والذي علي ما يبدو قد قتل في أحداثها.
وعلي الرغم من سخونة أحداث العام الرابع عشر من حكمه, والتي تبدو للقاريء وكأنها حسمت الأمور لصالح الجنوبيين إلا أن أغرب ما نقله لنا تاريخ تلك الفترة أن منتوحتب قد أصبح حاكماً للقطرين المصريين وفرض سيطرته عليهم مع حلول العالم التاسع والثلاثون من حكمه, أى أن سيطرة منتوحتب الكاملة علي مصر حدثت بعد 25 عاماً من معركته شبه الحاسمة ضد الشماليين.
وقد كان إعادة توحيد القطرين عملية بطيئة بسبب إنعدام الأمن في البلاد وظهور الكثير من النبلاء علي اللوحات الجنائزية يحملون أسلحة بل أن عامة الشعب كانوا يدفنون ومعم أسلحتهم, بل أن ذلك الوضع إمتد لفترة ما بعد منتوحتب نفسه فكان علي خلفاؤه القيام ببعض الأعمال التأديبية والثورات المحلية لإقرار ذلك الوضع.
مقبرة باب الحصان
في عام 1898 بزغ إسم “هوارد كارتر” في علم الآثار عندما قام بالكشف عن خبيئة بمعبد ملايين السنين للملك منتوحتب الثاني عندما عثر علي تمثال للملك ملفوفاً بالكتان الأبيض وموجود بالمتحف المصري الآن, وكان كارتر بعد ذلك الكشف باربعة وعشرون عاماً علي موعد مع أعظم الكشوفات علي الإطلاق وهو مقبرة الملك توت عنخ آمون.
تم ذلك الكشف في المعبد الجنائزي للملك “منتوحتب الثاني” والذي أراد له أن يكون أعظم معابد تلك الفترة وقد كان ذلك المعبد هو الذي إستلهم منه “سننموت” مهندس الملكة “حتشبسوت” تصميم معبدها الشهير – الدير البحري- من معبد منتوحتب, واللذان يقعان الآن بجوار بعضهما البعض.
وقد كان التمثال الذي عثر عليه “كارتر” في ذلك المعبد هو التمثال الذي تم دفنه للملك بعد إحتفاله بعيد “سد” , وهو عيد الحب سد الشهير الذي كان يجدد فيه الملك شبابه عادة بعد ثلاثون عاماً من توليه الحكم, وقد إحتوي المعبد علي بئر الدفن الخاص بالملك والذي إكتشفه إدوارد نافيل وكان مصنوعاً من الجرانيت وعثر به “نافيل” علي مقصورة من الالباستر بها تابوت فارغ من أى مومياء ومعه بعض المقتنيات البسيطة, وقد إحتوي معبد “منتوحتب الثاني” علي حوالي 23 دفنة منهم ثلاثة لم يكتملوا.
منتوحتب: بطل عبر العصور
عرف منتوحتب الثاني بأنه الملك الذي قام بفرض ال”ماعت” (القانون الكوني) بالقوة, ومن الواضح أن ما قام به منتوحب الثاني هو إمتداد للجهود الكبري التي قام بها الملوك من قبله وعلي رأسهم أنتف الأكبر, ومن الواضح أن ملوك الجنوب في فصول ذلك الصراع كانوا يعتبرون أنفسهم ورثة الدولة القديمة وتيار الحرس القديم الذي يريد إعادة الوضع لما كانت عليه البلاد قبل الثورة الشعبية التي إنتهت بها الدولة القديمة, ولكن هذا لا يعني أن ملوك الشمال أيضاَ كانوا من الخونة أو الخارجين علي القانون فتعاليم مري كا رع تخبرنا بالقيم النبيلة التي تبنتها تلك الفترة, بالإضافة الي قصة الفلاح الفصيح ايضاً.
إلا أن النقطة الفاصلة في الصراع بين الطرفين كانت جريمة تدنيس ثني والتي يبدو أنها أسقطت شرعية ملوك أهناسيا وجعلت مقاومتهم واجباً وطنياً تولى رايته ملوك طيبة الذين دانت لهم الأمور في النهاية, وكما ذكرنا في سطور المقال الفترة الطويلة التي استغرقها منتوحتب حتي وصل إلي فرض سيطرته التامة علي مصر باكملها والتي تطلبت مجهوداً وصبراً غير عادي نتج عنها إستتاب الأمور في يد منتوحتب في النهاية والذي أتخذ لقب “نب حبت رع” ويعني قائد الدفة هو الإله “رع” في لمحة إلي ولاء قديم لمرحلة الدولة القديمة التي كان فيها الإله “رع” هو المتسيد.
بعد وفاته أصبح منتوحب واحد من أكثر الملوك قدسية في التاريخ المصري القديم, فنجد أن ملوك الدولة الوسطي الذي اعقبوه علي العرش قد بجلوه وإحترموه كثيراً وخاصة الملك “سنوسرت الثالث” المحارب العظيم, إلا ان ذلك لم يتوقف حتي بعد مرور مئات السنوات فنجد الإمبراطور المصري تحتمس الثالث يخلد ذكري الملك منتوحتب الثاني هو الآخر ويرفع من شأنه, إنتهاء بالملك رمسيس الثاني والذي وضعه بالتساوي مع الملك “مينا” موحد القطرين وكذلك الملك “أحمس” قاهر الهكسوس.