تختلف معايير الجمال من مجتمع لآخر ومن ثقافة لأخرى، وعلى مر التاريخ شغلت جميلات العالم القديم حيزاً كبيراً من مخيلة البشر وحتى ريشة الفنانين، لم تكن مصر القديمة باستثناء فعبر تاريخها أنتجت لنا قطعاً فنية لا مثيل لها أخبرتنا عن نساء في غاية الجمال عاشوا على أرض مصر منذ آلاف السنين، يتصدر تلك الأسماء الملكة الأشهر “كليوباترا” (كليوباترا السابعة) والتي يظن الكثيرون أنها على رأس أي قائمة متعلقة للجمال في مصر القديمة بينما الحقيقة عكس ذلك.
الإلهة إيزيس: أول عاشقات التاريخ
عندما نتحدث عن معايير الجمال في مصر القديمة فلا بد أن نتطرق إلى الحديث عن الحب والغزل في مصر القديمة والذي أعطتنا نصوصه لمحة عن معايير الجمال الأنثوي في مصر القديمة.
في حقيقة الأمر فإن المصريين القدماء هم أول من كتبوا قصائد الحب والغزل في مصر القديمة ولم يقتصر ذلك على النطاق البشرى بل أننا نجد قصائد غزل موجهة من الآلهة نفسها، ويأتى على رأس تلك الآلهة هى النصوص التى تحدثت عن قصة إيزيس وأوزوريس والتي وصفت فيها إيزيس حبها لزوجها المقتول غدراً أوزوريس فتصف لوعتها وحبه لها فى مواضع كثيرة منها: ” معك أنت فقط أفعل ما أحب”، “فلتحرر جسدى من حبك”، أنا لا أراك ولكن قلبي يرنو للقياك، فكانت الإلهة إيزيس أول عاشقة مسجلة فى التاريخ البشرى على الإطلاق.
قد أخذت قلبى بعيدًا عنى آلاف الأميال
معك أنت فقط أرغب فى فعل ما أحب
إذا كنت قد ذهبت إلى الغرب (أرض الموتى والخلود) فسوف أكون بصحبتك
لقد أتيت هنا من أجل حبى لك
فلتحرر جسدى من حبك.
أما آلهة الحب والجمال فى مصر القديمة فكان على رأسها الإلهة “حتحور” والتى ربطها المصرى القديم بالأمومة والحب والبهجة والسرور وأعطاها لقب “الذهبية” وقد ظهر ذلك اللقب فى قصائد الغزل والحب فى مصر القديمة وقد إستخدموا لقب الإلهة “حتحور” فى التضرع عند الرغبة فى لقاء المحبوب والمحبوبة أو حتى تهوين الفراق ولوعته.
قصائد الشعر والغزل
“لقد أثار حبيبى قلبى بصوته،
وتركنى فريسة لقلقى ولهفتى،
إنه يسكن قريبًا من بيت أمى،
ورغم ذلك فلا أعرف كيف أذهب اليه،
ربما تستطيع أمى أن تتصرف فى ذلك،
يجب أن أتحدث معها وأخبرها”
إنتشرت قصائد الشعر والغزل فى مصر القديمة وفيها تغنى العاشق بمحبوبته والعكس، فكانت أشعار الحب والغزل ليست قاصرة على حب الرجال للنساء، بل كتبت النساء أيضاً أشعاراً تصف فيها محبوبها وشوقها للقياه، وقد ترك لنا المصرى القديم مخزوناً هائلاً من تلك النصوص مدونة على لفائف البردى والموزعة بين متاحف العالم وأشهرها المتحف البريطانى، كما دونت أشعار الحب والغزل على الأوستراكا (شقف الفخار أو الحجر)، وقد ترك لنا مجتمع قرية العمال بناة مقابر وادى الملوك كماً كبيرا من تلك القصائد.
وقد تمت ترجمة تلك النصوص فى مواضع عدة فى الكتب التى ترججمت الأدب المصرى القديم نذكر منها بشكل خاص كتاب “أشعار الحب فى مصر القديمة” من تأليف عالم المصريات د.فكرى حسن.
معايير الجمال فى مصر القديمة وحقوق المرأة
كان المصرى القديم يحظى بسلاماً نفسياً فى العصور التاريخية مع إستقرار المصرى القديم على ضفاف وادى النيل، وحظيت النساء بمكانة مهمة تفوقت فيها على نساء العالم القديم أجمع بل أنهن تفوقن فى حقوقهن على بعض نساء بعض المجتمعات الحالية، على الرغم من عدم وجود قوانين تنظم حياة المصرى القديم إلا أنه بالسليقة كان يعرف الخطأ من الصواب، فالسرقة والعلاقات خارج إطار الزواج والإعتداء على حرمة الغير وحتى إيذاء الحيوانات كلها مجرمة، اما بخصوص النساء فإن إنتهاكهن أو التعرض لهن بالأذى فكان يندرج تحت بند الجرائم الكبرى فيروى لنا المؤرخ ديدور الصقلى أن عقوبة الإغتصاب كانت تصل فى بعض الأحيان إلى إخصاء المغتصب، أما التحرش ومضايقات النساء فلا يوجد أشهر من دوريات الشرطة التى كلفها الملك “رمسيس الثالث” بحفظ الأمن ومنع مضايقة النساء فى الطرقات.
كذلك تمتعت المراة فى مصر القديمة بحرية الملبس والزينة وهو إنعكاس منطقى لحرية الإستقرار والسلام النفسى الذى تمتعت به الحضارة المصرية فى ذلك الزمان، ولم تتسبب تلك الحرية فى زيادة الجرائم ضد المرأة أو حتى حدوثها على نطاق موسع بالمصرى القديم، كما أنها لم تتسبب فى نظر الرجل المصرى القديم للمرأة بشكل متدنى او إستباحتها، لذلك لم تخلو أشعار الحب والغزل فى وصف ملبس النساء وحتى جمال ملامحهن وأجسادهن وأشهرها تلك القصائد التى كانت من ضمن برديات “شيستر بيتى”، وكانت النساء المصريات تتمعن بالبشرة القمحية المليحة كعادة بنات الوادى والعود الممشوق والعيون الواسعة والتعطر والتزين وحتى إرتداء الشعر المستعار.
أسماء الجميلات فى مصر القديمة
كلمة الجمال فى مصر القديمة كانت تنطق “نِفر” وتعنى جميل \ طيب\ كامل ، وكان مؤنث تلك الكلمة “نفرت”، وقد تم إستخدام ذلك التعبير مرارً وتكرارً فى الأسماء فى مصر القديمة فعلى سبيل المقال نجد الأميرة “نِفرت إيابت” إبنة الملك “خوفو” مشيد الهرم الأكبر والتى يعنى أسمها “جميلة الشرق”، كذلك الأميرة “نِفرت” (جميلة) زوجة الأمير والقائد العسكرى “رع حتب” شقيق الملك “خوفو”، وفى عصر “رمسيس الثانى” نجد أشهر زوجاته والتى حملت إسم “نِفرت إرى” (نفرتارى) والتى يعنى إسمها “الجميلة بينهم” أو بالتعبير المصرى الدارج (حلاوتهم \ الحلوة وسطهم)، كذلك “نفرت إتى” (نفرتيتى) زوجة إخناتون والتى يعنى إسمها “الجميلة أتت” او بالمصرية (الحلوة شرفت)، وغيرهم من الأسماء التى عبرت عن جمال من تقلدن بها.
أشهر جميلات مصر القديمة :محبوبة آمون
سأحاول تسليط الضوء على بعض جميلات مصر وسأطرح فقط بعض الأمثلة على سبيل المثال وليس الحصر، وعلى عكس المتوقع سأبدأ بالأميرة “ميريت آمون” إبنة الملك “رمسيس الثانى” من زوجته “نفرتارى”، وهى كبرى بنات رمسيس الثانى بشكل عام، حظيت تلك الأميرة بمكانة رفيعة فى حياة والديها فبعد وفاة أمها “نفرتارى” تم تنصيبها ملكة على مصر تكريماً لها ولأمها ولضمان أن يظل ذلك المنصب مشغولاً ولو بشكل شرفى لصالح الأميرة اللامعة.
يخبرنا عن جمال تلك الأميرة أثران فى غاية الأهمية أولها هو تمثالها العملاق الموجود باطلال معبد الإله “مِن” بمدينة “أخميم” العريقة (محافظة سوهاج)، وهو أكبر تمثال شيد لامرأة، والثانى هو تمثالها الملون الموجود بمتحف الغردقة.
حملت تلك الأميرة ملامح مصرية لا تخطئها العين، وقد لفت جمالها إنتباه علماء المصريات فنجد العالم الراحل د.عبد الحليم نور الدين يكرس لها إهداءً فى أحد كتبه مطلقاً عليها واحدة من أجمل بنات النيل.
لم يكن جمال “ميريت آمون” – والتى يعنى اسمها (محبوبة الإله آمون) – نابعاً من فراغ فهى إبنة الملكة الجميلة الرقيقة “نفرتارى” والتى تستحق أن تكون ضمن تلك القائمة.
نفرتيتى (الحلوة شرفت)
أثار الملك “إخناتون” الجدل فى حياته وبعد وفاته لآلاف السنين، فهو ذلك الملك الغامض ذو الدعوة الدينية المختلفة عن التقاليد المصرية ولم يقل الجانب الأنثوى فى حياته إثارة عن دعوته، فيظهر لنا على الساحة فوراً إمس زوجته فائقة الجمال “نفرتيتى”، تلك المرأة التى كانت مساوية له فى كل شىء تقريباً سواء فى السلطة الدينية او حتى السلطة الدنيوية كملكة حاكمة وليست مجرد ظل لزوجها، يرجح أن “نفرتيتى” يعود أصولها لمدينة اخميم وأغلب الظن أنها كانت إبنة القائد العسكرى – الملك لاحقاً – والمدعو “آى”، وعلى الرغم من بعض الدعوات التى تزعم عدم مصريتها إلا أن مصرية تلك الملكة لا شك فيها ولا مراء.
كان من المنطقى أن يرث هذا الجمال إحدى بناتها الست من إخناتون، فكانت الكبرى الأميرة “ميريت آتن” (محبوبة الإله آتون) ذات جمال أسطورى كأمها، ولم ترث منها جمالها فقط وإنما كانت له سلطات موسعة أيضاً دينياً ودنيوياً.
جميلات العامة والنبلاء
نقل لنا التاريخ المصرى أيضاً جميلات أخرى لم تكن من الملكات وعلى رأسهن الأميرة “نِفرت” التى تطرقنا لإسمها فى المقال، يعكس تمثالها الشهير بالمتحف المصرى مع زوجها القائد والكاهن “رع حتب” جمالاً وأناقة غير مسبوقين حقظهما لنا الفن المصرى منذ ما يزيد عن 4600 عام وهى عمر التمثال.
حملت تلك الأميرة لقباً شهيراً تميزت به نبيلات ذلك العصر وهو “المعروفة لدى الملك \ الملك يعرفها” وقد حملت بشرتها البيضاء وشعرها المستعار الأنيق وردائها الأبيض الضيق وحتى صديريتها الظاهرة من تحت الفستان إهتمام غير عادى من الفنان المصرى القديم بالتفاصيل وإهتمام من الاميرة نفسها بمظهرها العام.
كذلك يخبرنا تمثال آخر بمتحف بوشكن بروسيا عن منشدة وكاهنة تدعى “رِناى” والتى كانت زوجة لكاهن مصرى من الدولة الحديثة يدعى “امنحتب” وقد كان تمثالها من ضمن مقبرتها العائلية فى غرب طيبة والتى حملت رقم 345 فى منطقة شيخ عبد القرنة، عكست ملامحها كعادة بنات مصر مقايسس الجمال الأنثوى كما رآه المصرى القديم بل أن وظيفتها كمنشدة أشارت إلى جمال صوتها أيضا وليس ملامحها فقط.
كليوباترا لم تكن جميلة!
على عكس المتعارف عليه فلم تكن الملكة كليوباترا السابعة آخر الحكام البطالمة لمصر تتمتع بالجمال طبقاً لمقاييس تلك الفترة وحتى ما تبقى لها من منحوتات او جداريات لا توحى بذلك على الإطلاق، ولكن كان لكليوباترا شخصية جذابة وحضور غير عادى، تمتعت تلك المرأة بدهاء وذكاء تفوقت فيه على نساء عصرها وجاذبية مكنتها من الوصول لقلب “يوليوس قيصر” نفسه فأنجبت له إبنهما “قيصرون” وكان غرض كليوباترا من تلك العلاقة هو الحفاظ على الحكم المستقل لمصر بعيداً عن بطش الرومان.
إلا أن تلك الجاذبية قد سبب لها مأزقاً آخر، حيث وقعت فى غرام القائد الرومانى “انطونيوس” والذى كان متزوجاً من أخت القائد الرومانى “أوكتافيوس”، ووبعلم “اوكتافيوس” بتلك العلاقة بداً فى العلن أنه ينتقم من أنطونيوس من أجل أخته “اوكتافيا” إلا أن السبب الواضح لعداء “أوكتافيوس” مع “انطونيوس” و”كليوباترا” هو رغبته فى السيطرة على مصر والتى دانت له بالفعل مع موقعة اكتيوم البحرية وإنتحار (أو مصرع؟) كليوباترا والذى دخلت بعده مصر نفقاً طويلاً وفصلاً من احتلال غاشم بدأه “أوكتافيوس” بعد تنصيبه كإمبراطور تحت إسم “أغسطس” لتصبح مصر ولاية رومانية وتفقد حكمها المستقل للمرة الأخيرة.