يظل الملك “أخناتون” واحداً من أكثر الملوك بل والشخصيات التاريخية إثارة للجدل والمناقشات عبر العصور, ولم يقتصر ذلك علي العصر الحديث فقط, فقد كان إخناتون مثيراً للجدل حتي عندما كان علي قيد الحياة, وقد اختلط بعصره الكثير من المغالطات والمعلومات الغير دقيقة حتي تحول إلى اسطورة بعد وفاته تختلف النظرة له ما بين ثقافة والأخري خاصة فيما يتعلق بدعوته الدينية التي أحدثت انقلابا واسع المدي في الحياة عبر مصر القديمة.
من هو إخناتون؟
جلس إخناتون علي عرش مصر خلفاً لوالده الملك “امنحتب الثالث” وكان إبنه من زوجته الشهيرة الملكة “تي” , وقد إعتلي العرش تحت إسم “امنحتب” مثل أبيه ومن ثم – وبعد مرور أربع سنوات من حكمه- قرر التخلي عن الشكل التقليدي للعقيدة المصرية القديمة وتأسيس مدينة أطلق عليها “آخت إتن” وتعني أفق آتون وجعلها عاصمة لها وصفه بانه لم يعبد فيه إلهاً من قبل وأنه مكان ميلاد إلهه الغامض “آتون”, إلا أننا لا يمكننا فهم ما فعله إخناتون بدون التطرق أولا لنظرة المصريون القدماء إلى الشمس أولاً.
الشمس وتصورات المصري القديم عنها
كانت الشمس أعظم الظواهر الكونية التي لاحظها المصري القديم وشغلت حيزاً عظيماً من تفكيره, ولم يتصورها المصريون في أفكارهم بشكل بدائي بل كان لهم تصورات عن مراحلها المختلفة, ففي الصباح كان يطلقون عليها “خبري”, ومن ثم “رع” في الصباح ومن ثم آتوم حين الغروب, لذلك هاب المصريون القدماء الليل والذي إعتبروه المكان الذي يذهب إليه إله الشمس يومياً في رحلة مليئة بالأهوال ليشرق من جديد عليهم ويمنحهم الحياة في اليوم التالي.
وقد شاعت العبادة الشمسية في جميع أنحاء مصر وتركزت في مدينة “اون” القديمة ” هليوبوليس-عين شمس” وتعددت رموزها وعلي رأسها الهرم والمسلات أشهر الرموز الشمسية, وقد إعتقد المصريون أن للشمس عدة مراكب تعبر بها الأفق, ويتعرض إله الشمس لهجوم قوي الشر المتمثلة في الثعبان “أبوفيس” “إببي” والذي يعد مجازا رمز قوي الشر الخالصة عند المصريين القدماء, لذلك إستعان الإله “رع” بالإله الفوضوي “ست” ليحمي القارب وينتصر علي ابو فيس الذي تسيل دمائه لتصبغ السماء باللون الاحمر في كل صباح ومساء, وقد مزج المصريون بين كينونة الإله “رع” والعديد من الآلهة مثل : أتوم-رع, رع حور آختي, مونتو -رع, سوبك-رع, خنوم-رع, آمون رع.
وبدون الإستطراد في ماهية الإله الشمسي في مصر القديمة يمكننا الربط بينه وبين إله إخناتون المسمي “آتون” أو “إتن” فقد أشار المصريون لآتون بانه قرص الشمس نفسه وأنه الكيان السماوي الذي يجسد الإله “رع” نفسه أى أن آتون هو جسده.
من هو الإله آتون؟
علي غير الشائع فإنه كما ذكرنا فإن آتون كان يسبق الملك إخناتون بزمن طويل وأنه لم يخترعه أو يبتكره, وإنما كان إلها موجوداً بالفعل ويعرفه المصريون وما فعله إخناتون هو إنه إنتشله من صفحات العقيدة المصرية القديمة وجعله الإله الأول في مصر, وعلي الرغم مما فعله إخناتون إلا أن طقوس عبادة الإله آتون لم تبدأ مع إخناتون نفسه.
فقبل إخناتون في عصر الأسرة الثامنة عشر 1550-1295 ق.م نجد ظهور واضح لآتون في عصر الملك “تحتمس الرابع” 1390-1400ق.م وهو جد الملك إخناتون.
ومن ثم في عصر أمنحتب الثالث إبن تحتمس الرابع ووالد إخناتون, إزداد الإهتمام بالإله آتون فظهر نقش يذكر آتون بالسيد الوحيد الذي يأسر جميع الأراضي كل يوم, ذو الفضل علي الآلهة والبشر, وكذلك في تقدمة إلى الإله آمون نفسه نجد نص يقول: إليك آتون الصباح يا خالق الأحياء ومانح الحياة, وقد كان ذلك النص محورياً لظهوره في أنشودة مقدمة للإله آمون نفسه ليوحي بتمهيد لفكر جديد أراد صانعوه تقديمه بشكل تدريجي.
وقد ظهر آتون في نصوص أخري تعود لعصر أمنحتب الثالث ومنها الذي ذكر إله الشمس : حور في الأفق , السعيد في أفقه, إسمه شو الذي في آتون.
أمنحتب الرابع وآتون
مع وفاة الملك أمنحتب الثالث وتولي إبنه أمنحتب الرابع للعرش 1336-1352 ق.م بدأ في خطة ممنهجة لترقية الإله آتون لجعله الإله الأول, ففي بداية الأمر نجد أن إخناتون يشير لآتون بإعتباره أحد أسماء الإله “رع” فأورد عالم الآثار “برستد” ترجمة النص التالي : هاهي كلمات رع أمامك … لقد علمني والدي العظيم معناها الحقيقي, ففهمها قلبي, وعرفها وجهي, ففهمتها أنا.
ولربما كان توجه إخناتون الشمسي يعود إلى نشأته كأمير في الشمال والتي يرجح بعض الباحثين تأثر إخناتون بالعقدية الشمسية بعيداً عن نفوذ الإله آمون في طيبة, ومما يعكس ذلك التوجه هو لقبه: “نفر خبرو رع- وع إن رع” : الكاملة تحولات الإله رع, الواحد من رع. ذلك اللقب الذي يعكس تمسكه بفكرتين وهم الإله الشمس والواحد.
ومن ثم نجد أن إخناتون قد شيد مجموعة من دور العبادة للإله آتن في حرم معبد الكرنك بعيداً عن حرم الإله آمون, كان أشهرهم هو معبد “جم با إتن” والذي يعني: حيث وجد قرص الشمس,وكذلك شيد حوت-بنبن ” مستقر البنبن” ( البنبن هو أول نقطة للخلق في التصور اللاهوتي لمدينة عين شمس), وكذلك شيد ” رود-منو إن إتن إر نحح” الآثار الفاعلة للآتن للأبدية, وايضا “تني منو إن إتن إر نحح” ويعني: الممجدة آثار إتن في الأبدية, وقد بنيت تلك الآثار بأحجار سميت بأحجار التلاتات وهي أحجار صغيرة في الحجم لضمان تشييد تلك المباني في وقت قصير.
وقد كان أشهر تلك المعابد هو معبد “جم با إتن” الذي شيده إخناتون بدون سقف ليتلقي أشعة الشمس كذلك موائد قرابينه التي كانت مكشوفة للشمس هي الأخري.
وقد كانت تلك محاولة من إخناتون لتريقة الإله “آتون” علي الرغم من أنه كان وقتها يحمل إسم “امنحتب” والذي يعني آمون راضي.
إخناتون: المخلص لآتون
العام الرابع, الشهر الثالث من الفيضان , اليوم العاشر من حكم جلالته ملك الوجه القبلي والبحري “نفر خبرو رع- وع إن رع” إبن “رع” أمنحتب, عندما تم تكليف النبي الأول لآمون “مايي” لجلب أحجار البازلت لعمل صورة للإله.
يعود ذلك النص للعام الرابع من حكم إخناتون والذي أرسل فيه كبير كهنة آمون علي رأس بعثة للمحاجر وكان من الواضح أن الغرض هو إبعاده عن طيبة ليقوم بإعلان الآله آتون محل آمون علي رأس المنظومة الدينية المصرية القديمة.
كان من الواضح أن الملك لديه تخطيط دقيق للأمور, ففي تلك السنوات الأربع الأولي نجد أنه لم يهدد ترابط الآلهة المصرية القديمة بعضها مع بعضها البعض وإنما قام فقط بإختزال الكبار منهم غل الآلهة الشمسية كخطوة أولي, وهو ما فطن إليه الكهنوت المصري العتيد مبكراً فكان الصدام حتمياً.
حرب مقدسة
مع الصدام الحتمي مع الكهنوت المصري القديم نجد ان أمنحتب أعلن عن نواياه بوضوح فنجده غير إسمه إلى “إخناتون” : آخ إن إتن : المخلص للإله آتون ( الروح النورانية للإله آتون), وناصب الكهنوت الآموني العداء فأمر بتحطيم تماثيله ومحم إسمه أينما كتب , وقد بلغ حماسه لفكرته بانه حتي أزال إسم والده “امنحتب” والذي يعني آمون راض, ويعتقد البعض أن إخناتون كانت عداوته فقط مع آمون إلا أن هذا غير صحيح فقد قام إخناتون بإزالة أسماء الآلهة المنقوشة بمعبد بتاح بداخل مجمع معابد الكرنك ومنهم بتاح, آتوم , حتحور, ولاقي نفس المصير الإله اوزوريس وإيزيس وحورس وآتوم ومنتو وجب, بل أنه قام بإزالة كلمة “نترو” والتي تعني آلهة (صيغة الجمع), وصارت كلمة آتون هي التي تقابلها كلمة “نتر” في اللغة المصرية القدية – إصطلاحا تعني إله- ليجعله هو الإله الرسمي للدولة المصرية, وقد قام بتصويره علي هيئة قرص الشمس الذي تخرج أشعته منه وتنتهي بأيد بشرية ليخرج الإله من الصورة الخفية إلى الصورة المحسوسة المرئية.
ومن ثم ومع تأزم الوضع نجده يقوم بالخطوة الشهيرة ويقوم بتأسيس المدينة الجديدة “آخت إتن” (أفق آتون) – تل العمارنة حالياً- ليبدأ في الدعوة لإله آتون ويشيد له المعابد هناك.
بداية النهاية
كانت المشكلة الرئيسية التي تسبب فيها إخناتون هو انه قام بتقسيم مصر إلى جبهتين متناحرتين, الأولي المتمسكة بتقاليد أسلافها والطائفة الاخري التابعين لإخناتون والمتفعين منه ومن دعوته الجديدة, وقد كان التحدي الأكبر أمام إخناتون أن يقدم للمصريين بديلاً أفضل مما كانوا عليه ولكن هذه لم تكن القضية , وذلك لأن المصريون قبل إخناتون كانوا إمبراطورية مترامية الأطراف تأتيتها الهدايا والجزية من كل مكان, وإلههم آمون إمبراطوري له نفوذ وسلطان في كل مكان أى أنه من وجهة نظر المصريين وقتها كان إقبات صحة عقيدتهم هو سيادتهم وقوتهم في ذلك الزمان, علي العكس مما قدمه إخناتون وقتها والذي إتخذ خطوتان بالغتين الحطوة , الأولي هي ليس تعديه فحسب علي الإله آمون وإنما كذلك علي بقية الآلهة المصرية وعلي رأسهم اوزوريس وهو ما يعني ضمنياً في نظر العامة إنكاره للشق الأهم والاخطر في العقيدة المصرية القديمة وهو البعث والخلود ومحاكمة المتوفي أمام أوزوريس قاضي الموتي, وذلك علي الرغم من جانب مهم في عقيدة إخناتون وهو ان إلهه آتون كان عالمياً وليس محلياً خاصاً بمصر مثل المنظومة القديمة, إلا أن ذلك لم يشفع لأي نجاح عقائدي لإخناتون وقتها.
كان الخطوة الثانية الأكثر خطورة التي قام بها إخناتون هو تراخيه الواضه تجاه السياسة الخارجية للدولة المصرية, فنجد ومع ضعف الحكومة المصرية والتناحر الداخلي أن مصر بدأت رويداً رويداً تفقد نفوذها الخارجي بل والبلدان التابعة لها, وقد كان أشهر تلك الوقائع هو ما فعله حكام “امورو” الكنعاني المدعو “عزيرو”, وفي ذلك الوقت كان “أمورو” تابعة لمصر ولكنه إتبع سياسية والده في التوسع كجزء من مؤامرة كبيرة للإنفصال وبدأ في التواصل مع الحيثيين ولكن إخناتون إستدعاه إلى القصر وقام بتوبيخه بل وإحتجازه لمدة تقارب العام ومن ثم تم إطلاق سراحة ليقوم “عزيرو” بالعودة لأمورو والتحالف مع ملك الحيثيين وقتها “شبيلوليوما الأول” لتخسر مصر أمورو, وقد توالت الضربات الخارجية واحدة تلو الأخري في عصر إخناتون حتي فقدت مصر ممتلكاتها في آسيا وذهبت إستغاثات حلفائها وصرخاتهم أدراج الرياح مع تجاهل إخناتون لهم وتفضيله البقاء في عاصمته ليتفرغ لعبادة آتون, وبعد مرور سبعة عشر عاماً كاملة علي العرش يختفي إخناتون من التاريخ المصري لتدخل مصر فترة من أصعب فتراتها التاريخية والتي إنتهت بتأسيس الأسرة التاسعة عشر ومحاولة إستعادة الإمبراطورية المصرية التي أهدرت في غضون عصر ملك واحد, وقد كانت سيرة إخناتون بعد وفاته سيئة في أذهان الشعب المصري فنجده ملقب بالعدو الذي في آخت آتون (مجرم آخت آتون) وغيرها من المسميات التي عكست ليس فقط إتجاهاً ملكياً أو نخبوياً تجاهه ولكن عكست إتجاه شعبي لأناس حرمتهم السلطة من حلم بالعث والخلود ضمنه له دينهم القديم.