يحظي التاريخ والقصص الديني مكانة عظمي لدي الشعوب العربية باعتبارها تمس عقيدة الأغلبية منهم وكذلك فإنها من الأشياء التي يري فيها القاري إثارة خاصة عند ربطها بتاريخ العالم القديم وتقديم صورة غير نمطية تختلف عن كتب التراث الإسلامي والمسيحي, ومن أشهر تلك المعالجات هو الربط التاريخي بين فترة الملك المصري إخناتون وتواجد النبي يوسف الصديق في مصر ودخول بنو اسرائيل, فما حقيقة هذا الأمر وهل عاصر الإثنان بعضهما البعض؟
إخناتون والإله الواحد
إن إقران إسم “إخناتون” بمصطلح إله واحد كفيل بأن بنهي المناقشة لدي البعض مع المنطق البسيط الذي يتبناه الكثيرون أو المعادلة البسيطة دعوة دينية+إله واحد= الإسلام, وهو ما يطبقه البعض علي فترة الملك إخناتون مسبقاً بدون بحث ,وكما سردنا من قبل فإن دعوة إخناتون لإلهه آتون لم تكن وليدة عشية وضحاها, وكذلك فإن الإله آتون (قرص الشمس) المجرد لم يكن إلها جديداً علي المصريين, فقد إنهمك إخناتون في أول اربع سنوات من حكمه في ترقية إلهه آتون بدون صدامات حقيقة مع السلطات الدينية المصرية حتي تحول إلى إعلان عبادته للإله آتون صراحة مع نقله مقر الحكم إلى مدينة “آخت آتون” -تل العمارنة حالياً- كذلك فإن الإله آتون كان إلها شمسيا عرفه المصريون قبل إخناتون وأشاروا له أنه تجسيد للإله رع باعتباره قرص الشمس, وقد ظهرت عبادة وتبجيل آتون منذ عصر جد الملك إخناتون أى أنه هناك ما يوحي بخطة لترقية هذا الإله سبقت إخناتون نفسه.
كيف دعا إخناتون لعقيدته الجديدة؟
إختلفت الآراء حول إخناتون وفترة حكمه وكان أكثر الأمور إثارة للجدل هو كيفية نشاة فكرة الدعوة التي قام بها إخناتون؟ هل كان لها تأثيرات أجنبية؟ وإن كانت تلك هي المسألة فمن أين؟ وكيف بدأت وتبلورت حتي تبناها ملك مصر شخصيا؟
تبدو الإجابة التقليدية علي هذا السؤال سهلة,إن كان هناك تأثيراً علي مصر في عصر الإمبرراطورية المصرية فذلك التأثير لا ريب قادم من الشام ويري أصحاب هذا الرأي أن دخول الأميرات الاجنبية للبلاط الملكي كان سبب هذا التأثير مع نقل ثقافات وتقاليد من خارج مصر إلى بلاطها الملكي, وعند مناقشة ذلك الرأي نجد أنه يخلو من المنطقية وذلك لأن بداية الدعوة لآتون كما أسلفنا قد بدأت في عصر جده الملك “تحتمس الرابع” ومن ثم أبيه “امنحتب الثالث” مما يعني أنه كان هناك توجهاً بالفعل لإعلاء شان الإله الشمسي وهو ما حدث سابقاً في عصر الدولة القديمة وبناة الأهرام في نهاية الأسرة الرابعة وعصر الأسرة الخامسة.
بينما يري باحثون آخرون أن الأسباب كانت ثورة داخلية وحتي هؤلاء إنقسموا لفريقين, فالفريق الأول يري أن أسباب تلك الثورة كانت سياسية وإقتصادية متعلقة بتزايد نفوذ كهنة الإله آمون إلى درجة صاروا يهددون معها الملكية المصرية نفسها, إلا أن المصادر الملكية لا شير لأاي عصيان تبانه كهنة آمون أو رفضهم وعدم طاعتهم لاوامر الملك فنجد كبير كهنة آمون ينصاع لأموار أخناتون في العام الرابع ويتوجه علي رأس بعثة للمحاجر.
ويري الفريق الأخر أن ثورة إخناتون كانت دينية منطقية تهدق إستعادة مكانة الديانة الشمسية القديمة وأزالة الغموض المتعلق بالعقيدة المصرية وقتها, فنجد أن وقتها كان الإله آمون يعني إسمه الخفي الذي لا يري, بينما تمثاله يقع في آخر أجزاء المعبد وأكثرها ظلمة لا يمكن الوصول إليه إلا بهد طقوس معقدة, وحتي وقت ظهوره لا يظهر إلا في الأعياد علي مركبه يحيط به ستار, ومع طبيعة العصر الجديد المنفتح علي الثقافات الاخري صارت هناك حاجة إلى وجود إله واضح ملموس يراه ويحسه به الإنسان.
وقد أعزي العلماء فشل عقيدة إخناتون ونهايتها بنهاية حكمه لأسباب واضحة أولها أن التغيير جاء مع إخناتون نفسه ولم تنشأ تلك العقيدة وسط المجتمع لتكتسب تأييداً أو تعاطفاً شعبياً او حتي أتباع مخلصين, كذلك لم تتسق أو تتناسق مع معتقدات المصريين وقتها بل وتصادمت معه وهو أمر لم يعهده المصريون مع إنفتاحهم حتي علي الآلهة الأخري القادمة من آسيا, ومما يثير الدهشة أن صلب عقيدة إخناتون كان يعتمد علي التأمل والذي يتطلب بالضرورة ترك الحياة والأعمال لترديد الأناشيد وإقامة طقوس العبادة مع عدم الإيمان بفكرة البعث والخلود والإكتفاء بان الإله نفسه أزلي عالمي, وكذلك فإن إخناتون في حياته لم يترك خلفاً له يكمل دعوته فإنتهت بموته.
ويمكننا أن نلخص الوضع في أن إخناتون حاول أن يفرض شكلاً جديداً للعقيدة المصرية القديمة مستوحي بالكامل من المعطيات القديمة وحيت باستخدام رمز شمسي وإله قديم عرفه المصريون بالفعل, وهو ما يوحي بفكر نابع من البيئة المصرية نفسها وليس تأثيرات خارجية.
الإختلافات بين ديانة إخناتون والأديان الإبراهيمية
تتفق الأديان السماوية الثلاث في مفايهم ثابتة وواضحة للإله الواحد, فالرسالة تقوم علي الوحي الذي ينزل علي بشر ومن ثم ينقله للناس والمبدأ الأساسي هو عبادة إله واحد لا شريك له, مع مفاهيم مثل البعث والخلود والحساب والعقاب وهو مفهوم أساسي إفتقرت له عقيدة إخناتون نفسها.
وهنا ينبقي أن نتسائل قليلاً هل يكفي الدعاء لإله واحد إعتبار الداعي نبياً لله؟ وإن كان كذلك فهل تحتلف شكل تلك الدعوة باختلاف الزمن .. الإجابة الظاهرية لهذا السؤال تقول نعم ولكن هذا لا يغير من طبيعة الإله نفسه , وهنا دعني أوضح قليلاً عزيزي القاريء ما أقصد, إن كانت دعوة إخناتون جديدة جائت من “كنعان” ( مهد اليهودية) فكيف يتسني لإخناتون تغيير إسم وصفات ذلك الإله ليتبني قرص الشمس المجحرد رمزاً له, فلم نسمع بأي نبي يروج لعبادة أو رمزية الإله بالشمس من قبل بل أننا نجد الاديان الإبراهيمية تدين ذلك المفهوم جملة وتفصيلا وهو ما يتضح في قصة إبراهيم المذكورة في القرآن الكريم عندما قرر تجربة عبادة الشمس ثم تركها لأنها لا تنفع ولا تضر, وحقيقة الأمر أن دعوة إخناتون تتعارض جملة وتفصيلاً مع الأداين الإبراهيمية إلا أن بريق فكرة الإله الواحد دغدغ المشاعر الدينية لدي البعض باعتبروا ذلمك صكاً للإسلام.
وذلك التحليل يقع ضمن أولويات البحث التاريخي الذي لا يستقيم بالتفسيرات السطحية أو المتكاسلة والتي في هذه الحالة تفرغ موضوع البحث من محتواه تماماص وتقدم فرضية موازية لا دليل عليها, وما قد يحسم الجدل ان نجد رابطاً واضحا ما بين إخناتون وأحد الأنبياء بدئا من إبراهيم الخليل وهو ما لم يحدث حتي الآن , فكيف يمكن تبني ذلك الطرح بدون أدلة؟
إن لم يكن هذا كله يكفي فسأترككم مع أحد فقرات الترنيمة الكبري التي كرسها إخناتون لإلهه آتون
“تظهر في أفق السماء أيها الشمس الحية، الذي يقدر الحياة،
تشرق في الأفق الشرقي في الصباح وتملأ كل البلاد بجمالك،
أنت جميل وعظيم ومشرق الآن فوق جميع البلدان،
وأشعتك تملك كل البلاد حتى آخر كل ما خلقت.
أنت رع عندما تصل إلى حدودهم وتجعلهم يركعون لإبنك المحبوب.
في نهاية الأمر فغن نفي أو اثبات ديانة المصريون القديماء في أى فترة من تاريخهم بأحد الديانات السماوية لن يغير من حقيقة عظمة الحضارة المصرية القديمة ولن يعطيهم أفضيلة عن دونهم من الشعوب في شيء, وجل ما يمكن المرء أن يقدمه لتلك الحضارة هو أن يقدمها بحقائقها بعيداً عن أى مشاعر أو تهويل وبدون تهوين.
مسلسل يوسف الصديق: أوهام وتدليس تاريخي
مع أواخر عام 2008 صدر المسلسل الإيراني “يوسف الصديق” والذي إستغرق تصويره ثلاث سنوات متاللية ما بين أعوام 2005 و 2008 بإنتاج ضخم ليصور قصة النبي يوسف الصديق في مصر, وقد قام صناع العمل بترويجه باعتباره عملاً تاريخياً يؤرخ قصة ذلك النبي, بل أنهم ذهبوا لأبعد من ذلك وذكرا أعتمادهم علي مراجع علمية لبحث الأمر, وقد تم دبلجة العمل إلى العربية بل ومر بتدقيق لغوي أيضاً لإخراجه بأفضل صورة.
باختصار فإن ذلك العمل يطرح قصة النبي يوسف في الفترة التاريخية ما بين حكم الملك “أمنحتب الثالث” ومن بعده إبنه “إخناتون” وأن قدوم يوسف الصديق لمصر كانت نتيجة مبارشة لدعوة إخناتون للإله الواحد.
وحقيقة الأمر لا أعلم إن كانت معلومات صناع ذلك العمل سطحية عن مصر القديمة ام أنهم فعلوا ذلك عن عمد, فالأزياء علي سبيل المثال تتناقض تناقضاً صارخاص مع أبسط قواعد المعرفة عن مصر القديمة, فنجد الأهرامات بمدينة طيبة في مشهد ومشهد آخر نجد الملك إخناتون يرتدي تاج مخصص فقط للإله “أوزير” أى ان الموضوع يشبه وكأنك تصور ملكاً مصرياً يرتدي الجلباب, ناهيك عن الحجاب الذي يعلوه التاج المصري القديم.
تشير كل الدلائل وبلا شك أن صناع هذا العمل لم يعتمدوا علي أى تدقيق تاريخي من أى نوع وتركوا الأمر للتركيز علي القصة الدينية فقط أما الجانب التاريخي فلم يعيره أحد أى انتباه فجاءت كل التفاصيل مخيبة للآمال, بل أن التيمة التي بني عليها المسلسل فيها تدليس تاريخي صارخ , فببساطة يقول صناع العمل أن دعوة يوسف كانت في عصر الأسرة الثامنة عشر وهو ما لم يوجد عليه دليل تاريخي واحد أو حتي تكهن له قرينة.
ما يهمنا في الأمر هو أن الاعمال الفنية إن تم تناولها في أطار فني فقط, فاعتقد انه لا يمكن توجيه اللوم لصناع أى عمل خيالي , ولكن هؤلاء لجأوا لترويج ذلك تحت إطار العمل التاريخي بل أنهم ارفقوا في تتر النهاية قائمة متضاربة مضحكة ممن أطلقوا عليه مراجع ومصادر لذلك العمل. جائت كلها متضاربة مع بعضها البعض لا يشك عاقل في عدم منطقية الإعتماد عليها معاً , بينما في الجزء التاريخي إكتفوا بعبارات مبهمة
المصادر والمراجع
تفاسير الشيعة
تفاسير السنة
حياة القلوب
تواريخ وسير
توراة العهد القديم
تفاسير شعرية لقصة النبي يوسف
روايات عن حياة النبي يوسف
تراجم عن مصادر أجنبية
مصادر تاريخية عن مصر القديمة
والعشرات من مصادر التحقيق والأبحاث
ومن الواضح للعيان أن ما فعله هؤلاء قد نجح نجاحاً منقطع النظير لوجود دعم عاطفي بالمشاعر الدينية لمتحدثي العربية مما جعلتهم يتلقفون المسلسل بكل الترحاب حتي وإن كانت تدليسه التاريخي واضح, ومما زاد الأمر ظهور بعض المدافعين عن مثل هذه الأعمال تحت دعوي أن مصر لم تقدم عملاً مماثلاً وكأنه من المفترض أن يصمت المنتقدون لعدم وجود أعمال مصرية قديمة من وجهة نظر هؤلاء, وحقيقة الأمر ان هذه الحجة تخلو من أى معرفة بالدراما المصرية التي تناولت التاريخ المصري القديم في أفلام الراحل شادي عبد السلام والتي كانت أروع الأعمال التي سردت حكايات من مصر القديمة علي الإطلاق بجون مبالغة ومنها “شكاوي الفلاح الفصيح” , “المومياء” , “كرسي توت عنخ آمون الذهبي”, الأهرامات وما قبلها, رعمسيس الثاني , وغيرها من الأعمال لشادي وغيره عن مصر القديمة.
علي اننا في حاجة ماسة لتقديم حضارتنا المصرية بصورة تليق بها في العصر الحالي فهل يستفيق صناع الدراما المصرية بعدما بدأ سحب البساط من مصر لتمثيل نفسها وتاريخها القديم؟