يذخر الأدب والنصوص المصرية القديمة بالعديد من القصص والمواقف التي عكست الوعي الجمعي للمصريين القدماء وطريقة تفكيرهم, وقد تباينت تلك النصوص ما بين الحقيقي والخيالي, االلامعقول والمفرط في الواقعية ومن بين تلك النصوص يبرز بعضها إما لحوزته شهرة واسعة عالمية أو لمضمونه المثير, يعد نص “ون آمون” واحد من أهم تلك النصوص التي أنتجتها قريحة المصري القديم بناء علي رحلة حقيقة قام بها كاهن مصري إلى لبنان.

من هو ون آمون؟

طبقاً لاحداث بردية “ون آمون” فإن بطل القصة قد حمل ذلك الإسم, ,وقد عاش “ون آمون” في عصر الملك “رمسيس الحادي عشر” آخر ملوك الأسرة العشرين, وتؤرخ أحداث القصة للعام الخامس طبقاً للبردية . وقد تم تكليف “ون آمون” من قبل الكاهن الأكبر لآمون في طيبة والمدعو “حريحور” لكي يذهب إلى “جبيل” في لبنان ليجلب خشب الأرز لصناعة مركب للإله آمون.

كيف عرفنا قصة ون آمون؟

ترجح بعض التقارير أن بردية ون آمون تم العثور عليها في منطقة الحيبة وهي أحد القري التابعة لمركز الفشن بمحافظة بني سويف والتي كانت أحد أهم المدن المصرية في نهاية الأسرة العشرين والتي مثلت الحد الفاصل نفوذ كهنوت الإله آمون في طيبة وبين عرش ملك نصر الذي كان في تانيس في الشمال, وقد تم شرائها عن طريق عالم المصريات “فلاديمير جولنيشيف” حوال عام 1891, وهي الآن موجودة بمتحف “بوشكن” للفنون الجميلة في موسكو ويطلق عليها بردية بوشكن 120.

تلك البردية مكتوبة بالخط الهيراطيقي وأسلوب كتابتها يعود للمرحلة المتأخرة من اللغة المصرية القديمة وتعود أهمية تلك البردية إلى أنها تعتبر إمتداد للإعمال الأدبية المكتوبة من مصر القديمة والتي كان علي قمتها “قصة سنوهي” إلا أنه بمرور الزمن لم يفقد الأدب المصري القديم رونقه فجاء نص رحلة ون آمون ليثبت ذلك, فلا تزال روح الدعابة حاضرة وإستخدام التعبيرات والمصطلحات البليغة مستخدم وبكثرة.

خفوت نجم مصر

تعكس رحلة “ون آمون” مرحلة تاريخية هامة مرت بالأمة المصرية, فهي تعود إلى نهاية الأسرة العشرين وبداية ما سمي بالعصر المتأخر, مع مجد الإمبراطورية المصرية بل وحتي مع بداية الأسرة العشرون وقبل سبعون عاماً من أحداث تلك البردية كانت مصر تبسط نفوذها علي آسيا ومضي جنودها في كل مكان فيها وكان أمراء آسيا يتسابقون لإسترضاء ملوك مصر وجلب الهدايا وإظهار الولاء, بينما ببلوس “جبيل” والتي كان يجب منها المصريون خشب الأرز كانت تقع تحت النطاق المصري, بل أن غابات الأرز بأكملها تحت سلطان ونفوذ الإله آمون.

إلا أنه في العصر المتأخر وفي زمن “ون آمون” فإن مصر قد فقدت إمبراطوريتها الآسيوية وتقلص نفوذها وأصبح لها نفوذاً ثقافياً ودينياً خافتاً وهو ما صورته بردية “ون آمون باقتدار”

فلتبدأ الرحلة

تبدأ قصة ون آمون حوالى عام 1095 ق.م  وفي ذلك الوقت كانت طيبة وصعيد مصر تحت سيطرة الكاهن الأول لآمون “حريحور” بينما الشمال تحت سيطرة “نس با نب جدت” أو “سمندس” والذي قام بطقوس دفن الملك “رمسيس الحادي عشر” وتم تتويجه في الشمال وكان عرشه في “تانيس” أو “صان الحجر”.

حريحور وزوجته نجمت
حريحور وزوجته نجمت

كانت رحلة “ون آمون” لجلب خشب الأرز لتشييد سفينة الإله آمون والتى كان إسمها “وسر حات” والتي يتنقل بها الإله في المناسبات والأعياد, لم يستطع “ون آمون” أن يأخذ معه الكثير من المال وحمل معه خطابات من الكهنة موجهة ل “سمندس” الذي إستجاب للنداء وأرسل “ون آمون” في سفينة سورية.

سرقة علي متن السفينة

يصل “ون آمون” إلى ميناء “دير” وهناك أكرمه أميرها, ولكن “ون آمون” واجه مشكلة عويصة بعدما تمت سرقته علي متن السفينة , وكان مقدار ما سرق منه خمسة دبن من الذهب وواحد وثلاثن دبن من الفضة (الدبن مكيال مصري وزنه 91 جرام).

توجه “ون آمون” إلى أمير المدينة شاكياً, كيف يسرق في مينائه؟

في الحقيقة إن هذه النقود تخص آمون رع, ملك الآلهة وسيد الأمم , تخص سمندس وحريحور سيدي وغيره من عظماء مصر, تخصك أنت وتخص قوم ورت وقوم مكمر” وقوم ثكر بعل و أمير ببلوس.

 

فوجيء “ون آمون” بان الأمير يغسل يديه من الواقعة ويرفض تحمل أى مسؤلية عن هذه الواقع, وقال ل “ون آمون” لو أن لصاً من بلده ذهب للسفينة فإنه مستعد أن يدفع له قيمة المسروقات , إلا أن اللص من رجال السفينة نفسها, وجل ما سيتطيع فعله هو ان يبحث عن السارق, وطلب الأمير من “ون آمون” بأن يبقي لبضعة أيام لديه بينما يبحث في الأمر. وبعد مرور تسعة أيام يعود “ون آمون” إلى الأمير سائلاً عما تحقق في شكواه ولكن الأمير لم يفعل شيئاً مما دعي “ون آمون” ان يخوض مناقشة حادة مع الأمير ترك علي إثرها ميناء “دير” غاضباً وإستكمل رحلته إلى “صور” ثم مضي في طريقه إلى “ببلوس” (جبيل)

وبينما السفينة في طريقها إلي “ببلوس” ينوي “ون آمون” الإنتقام لما سرق منه, كان يعلم أن من سرق منه واحداً من قوم “ثكر” والذي تصادق أن يكون معه بعضهم في السفينة المتوجه لببلوس, فسرق منهم جرة بها ثلاثون دبناً من الفضة وأعلن أنها معه وأنهم اصحابها وقال أنه سيحتفظ بها حتي يجد ما سرق منه.

الوصول إلى لبنان: معاناة ون آمون

وصل “ون آمون” أخيراً إلى ميناء “ببلوس”, وفور وصوله – وعلي مقربة من الشاطىء- قام بإخفاء تمثال الإله آمون والذي وصفه النص بإسم “آمون الطريق” وخبأ معه أغراضه الشخصية وكذلك الفضة التي إستولي عليها من الثكر,وهنا يعلم أمير ببلوس المدعو “ثكر بعل” بصراع ون آمون مع قوم الثكر فأرسل إلي “ون آمون” قائلاً: غادر مينائي.

علي الرغم من الحظ السيء وسوء المعاملة إلا أن “ون آمون” قد رد بكبرياء أنه سيبقي حتي يبحث عن سفينة يعود بها إلى مصر, وظلت معاناة ون آمون تسعة عشر يوماً كان يرسل له فيها أمير ببلوس يأمره بالمغادرة. rوبعد مرور التسعة عشر يوماً يجد “ون آمون” سفينة عائدة إلى مصر حتي أتاه حاكم الميناء يطلب من البقاء حتي الصباح لمخاطبة الأمير.

الأمير في مأزق

 أحضروا الإله إلى هنا, أحضروا الرسول الذي جاء به, إن آمون هو الذي أرسله, إنه هو الذي جعله يأتي.

قبل تلك الواقعة بساعات قليلة وبينما الأمير “ثكر بعل” يقدم القرابين للآلهة فإذا بأحد النبلاء يصيبه نوبة صرع جعلته يصرخ بالكلمات السابقة, وظل في حالته إلى الليل وهنا أرسل أمير ببلوس ليستبقي “ون آمون”, الذي ما أن جاءه حاكم الميناء يطلب منه البقاءحتي إنفجر فيه.

ألست أنت بنفسك الذي كان يأتي كل يوم قائلا: غادر مينائي؟ والآن سيتسبب الأمير في أن أفوت السفينة التي عثرت عليها.

وفي ذلك الوقت كان “ون آمون” يبق تمثال الإله آمون بعيداً عن الأعين, فذهب حاكم المنياء ليقص علي الأمير ما دار بينهما, فامر الأمير من ربان السفينة أن ينتظر تحت تصرفه, وهنا ذهب “ون آمون” ليقابل الأمير.

وجدته جالساً في غرفته العالية, ظهره متكيء علي شباك, بينما أمواج البحر السوري تتلاطهم خلف قفاه

ون آمون يقابل الأمير

دارت مناقشة طويلة بين ون آمون والأمير, وهنا ظهر ون آمون مشككاً وشاكياً من مهمته لأن “سمندس” أرسله علي متن سفينة سورية بينما سفنه تسير في أرجاء الموانىء السورية, وبعد ذلك يتطرق ون آمون إلى مهمته لجلب خشب سفينة الإله آمون ويذكر الأمير بان أباه وجده كانا سيلبيان النداء ويجلبا الخشب ولكن الأمير أجابه: لقد كان قومي يفلعون ذلك بالفعل, ولكن ملك مصر كان يرسل سفناً محملة ببضائع مصر, وطلب من ون آمون أن يحضر له شيئاً مماثلاً بل أنه أحضر السجلات لما كانت تحمله السفن الآتية من مصر وكانت قيمة ما تحمله ألف دبن من الفضة, فلو كان ملك مصر هو المتحكم فى أملاكنا أو أننا في خدمته لما أرسل كل هذه الهدايا ,وختم الأمير كلامه قائلاً: وأنا ايضاً لست خادماً لك, ولا لمن أرسلك.

المدد يأتي من مصر

أخذ “ون آمون” يدافع عن موقفه أما الأمير ويذكر قوة الإله آمون باعتباره المتحكم في كل شيء وخالق الموجودات, وأنه هو من بعثه في تلك المهمة, ومن ثم قام “ون آمون” بارسال خطاب إلى سمندس مع رسول, فعاد الرسول ومعه المدد الذي كان عبارة عن: خمس أوان من الذهب وخمسة من الفضة وعشر لفات من الكتان الملكي وعشرة من الكتان الصعيدي بالإضافة إلى خمسمائة ملف من البردي وجلود الثيران ولفة الحبال, عشرون زكيبة عدس وثلاثون سلة من الأسماك المملحة وأرسل “سمندس” هدية لون آمون نفسه عبارة عن أقمشة وعدس وأسماك.

أشجار الأرز , لبنان
أشجار الأرز , لبنان

ومع قدوم المدد لان الأمير وأرسل رجاله لقطع الأشجار وتجهيزها وتحميلها علي السفن, ومن ثم طلب الأمير من ون آمون أن يسافر وكان ملحاً في طلبه بشكل مريب.

فخ الثكر

عندما وصل “ون آمون” إلي الشاطيء وجد أمامه إحدي عشر سفينة من سفن قوم “ثكر” قريبة من الشاطيء وكانوا يريدوا أن يأخذوه أسيراً هو وما معه, ولهذا السبب كان الأمير يلح علي “ون آمون” في المغادرة لانه أراد أن يتخلص منه ومن مشاكله.

وهنا إنهار “ون آمون” من هول الموقف وجلس مكانه وأخذ يبكي, فاتاه كاتب أمير ببلوس فحكي له “ون آمون” أحواله, فأخبر الكاتب الأمير بوضع “ون آمون” فرق له قلب الأمير الأمير مرة أخري فبعث له الطعام والشراب ورسالة تقول: كل واشرب ولا تملأ قلبك بالهموم, وستسمع ما سأقوله غداً.

في الصباح التالي ذهب الأمير بنفسه إلى سفن الثكر وسألهم عن غرض تواجدهم فأجابوه بأنهم يريدون الإستيلاء علي السفن الذاهبة لمصر, فأجابهم الأمير بأنه لا يمكنه أن يؤخذ أرسول الإله آمون أسيراً في بلاده, وخدعهم قائلاً بانه سيرسله بعيداً وبعدها يمكنهم أن يتبعوه ويأخذونه أسيراً.

العودة إلى مصر

تجنبت السفن الوقوع في قبضة الثكر بحيلة لم يذكرها ون آمون في قصته, حتي رست السفن في (آرسا) قبرص, ولكن أهلها أرادوا الفتك بهم فهرب منهم ون آمون وتوجه إلى مقر ملكتهم فرآها وهي في الطريق وصاح فيمن حولها إن كان واحداً منهم يعرف المصرية فاجابه واحد فطلب منه ون آمون أن يترجم: “بعيداً في طيبة, مقر آمون سمعتهم يقولون أن الظلم يرتكب كل يوم, ولكن في آرسا لا يسود إلا العدل وها أنا أري الظلم يرتكب كل يوم”.

سألته الملكة عما يعني فأجابها بموقفه وبرغبة قومها في قتله, وأكد لها أن هناك من سيبحث عنه وكذلك بحارة أمير ببلوس الذي سيقتل بحارتها إن قتلوا بحارته. ينتهي النص فجأة عند هذا الحد للأسف فلا نعرف بقية القصة, ولكن من المؤكد أن ون آمون قد عاد إلى مصر سالماً وإلا لما دون البردية التي تحكي لنا وبوضح عن أوضاع مصر في تلك الفترة وما تبقي لها من لمحات للنفوذ القديم.