أصبح اسم الملك “مينا” واحداً من أشهر الأسماء في الوجدان الجمعي المصري. وارتبط دوماً بجملة أخري وهي “توحيد القطرين”, والمقصود هنا هو توحيد مملكتي الشمال والجنوب ومن ثم نشأة مصر كدولة موحدة ومملكة يحكمها شخص واحد بنظام أصبح ثابت لمدة تقارب من ثلاثة آلاف عام وبدأ معه ما سمي بعصر الأسرات.
ولكن كيف عرفنا الملك “مينا”؟ وكيف تم توحيد القطرين؟ وما هم القطرين؟
كيف تم تقسيم تاريخ مصر؟
من المتعارف عليه مصطلح حكم الأسرات في مصر القديمة بداية من الأسرة الأولي حتي الأسرة الثلاثون والتي تعتبر نهاية الحكم الوطني المصري القديم قبل غزو الإسكندر الأكبر لمصر, ولكن ما الذي حدد العصر الذي سمي بالأسرات؟
ورث علم المصريات ذلك التقسيم من عصور سابقة ومؤرخين سابقين وعلي رأسهم التأريخ المنسوب للمؤرخ المصري “مانيتون السمنودي” والذي حدد أول ملوك مصر بالملك “عحا” ويعني المحارب , وهو هنا يقصد الملك “حور عحا” الذي حكم مباشرة بعد الملك “مينا” , وما يهمنا في الأمر هو ظهور مصطلح وتقسيم ما سمي الإسرات, وهو مصطلح خادع عندما تم ترجمته بالعربية , فالمصطلح الذي تم إستخدامه في الأصل هو dynasty ويعني سلالة ولكن تم ترجمته إلى اسرات, وكذلك فإن التاريخ المصري مقسم إلى فترات معينة كالدولة القديمة, الدولة الوسطي, الحديثة .. الخ وحتي هذه المصطلحات تم ترجمتها بشكل مغاير هي الأخري فالمصطلح الأصلي هو kingdom ويعني مملكة فالمقصود هنا المملكة القديمة, الوسطى , الحديثة , الخ ولكن تم ترجمته ل “دولة”.
وعلي الرغم من هذا كله فهناك أيضاً إشكالية أخري وهي أن حتي المصطلح الأصلي المستخدم والذي يعني “سلالة” ليس دقيقاً في جميع الأحوال المتعلقة بالتاريخ المصري, فالسلالة تعني وجود رابط دم بين الملوك الحاكمة ولكن هذا لم يكن موجوداً في أحيان كثيرة في الملوك المصريين , كما أن هناك سلالات (اسرات حاكمة) لم تكن من أصول مصرية , كذلك فإن تقسيم مانيتون لم يكن واضحاً في الفترات الإنتقالية بين الأسرات, فعلي سبيل المثال نهاية وبداية كل أسرة لم يكن يحدده حدث ثابت في كل مرة ينتهي معه حكم أسرة وتبدأ معه أسرة جديدة.
كيف تم تأسيس الدولة المصرية؟
مع تأسيس علم المصريات وبداية أعمال الحفائر بشكل علمي منظم بدأ البحث عن التاريخ المصري من خلال اللقي الأثرية فاختلف المنظور عن تاريخ مصر القديم بشكل كبير جدا, وكان من أول الأشياء التي تم توثيقها هي عصور ما قبل تقسيم الأسرات وهي العصور التي عرفت باسم عصور ما قبل التاريخ وإنتهت بعصور ما قبل الأسرات, وقد تم تسمية عصور ما قبل الأسرات بمصطلح “ثقافات” فظهرت مسميات مثل ثقافة البداري, نقادة وغيرهم, وقد كانت ثقافة نقادة تنقسم إلى ثلاث مراحل تاريخية إنتهت بنقادة الثالثة.
ومن المثير للإهتمام ظهور أدلة أثرية تشير لأن مراحل نقادة كانت متطورة بشكل كبير بل أنها كانت لها علاقات تجارية خارجية أيضاً, مما دعي علم المصريات إلى إطلاق مصطلح الأسرة صفرين علي مرحلتها المبكرة ومن ثم الأسرة صفر علي آخر مراحلها, وقد شهدت الأسرة صفر ظهور الملك عقرب الثاني والذي من المرجح أنه كان آخر ملوك نقادة هو أو ملك آخر يدعي “كا” وقد وصل جنوب مصر في ذلك الوقت إلى مرحلة إستقرار كبيرة مكنته من فرض نوعاً من الحكومة المركزية علي جنوب مصر ومن ثم تطلع ملوك الجنوب إلى الشمال والذي من الواضح أن صراع الإثنان – شمال وجنوب – كانت له جذور تسبق آخر راحل نقادة, علي أية حال فقد إنتهت تلك المرحلة بظهور الملك الذي إصطلح علي تسميته “مينا” بينما وصفه “مانيتون” بإسم “عحا”, وتشير الفرضيات الاثرية الي ان مملكتي الشمال والجنوب قد خاضوا صراعات ونزاعات لفترة طويلة من الزمن ما بين غلبة لكفة اللشمال تارة والجنوب تارة ، وقد تمكن الجنوبيين من توحيد صفوفهم وتكوين ما يشبه التحالف المركزي تحت قيادة قائد واحد وهو علي الأرجح الملك عقرب الثاني أو الملك كا؟
ومن ثم كانت غلبة الجنوبيين علي الشماليين وتوحيد قطري مصر بالقوة من خلال عمل عسكري أو لربما معركة حسمت الأمور كما هو مصور علي صلاية نعرمر وان كان هناك تفسيرات أخري لتوحيد القطرين وعلي الرغم من ذلك النجاح وتأسيس الدولة المصرية بحدودها المعروفة في تلك الفترة الا أن الملوك الذين تلقوا نعرمر علي عرش مصر من ملوك الأسرة الأولي قد أمضوا فترات حكمهم في صعوبات بسبب الحاجة الي إقرار الوحدة بين الشمال الجنوب بل إن الأمر امتدايشمل الأسرة الثانية بأكملها حتي جلس علي عرش مص الملك مع سخموي اخر ملوك الأسرة الثانية والذي نجح في إنهاء جميع الصراعات الداخلية ليصبح المقر للوحدة التي انطلقت منها حضارة مصر
لغز الملك مينا
نظراً لقدم تلك العصور التاريخية لتلك الفترة والتي تعود تقريباً لحوالي 3100-3200 ق.م والذي يعني أنها كانت منذ أكثر من خمسة آلاف عام, فإن الأدلة الأثرية ليست بالكثيرة ومن الغريب أننا لا نجد إسم “مينا” واضحاًثلا في آثار تعود لتلك الفترة ولكن كيف تم تعريفه بإسم مينا؟
كان المصريون القدماء معتادين علي السجلات والأرشيف بما في ذلك قوائم الملوك السابقين, وقد تم العثور علي العديد من تلك القوائم وأشهرها قوائم أبيدوس, تورين , وغيرهم وقد بدأت تلك القوائم تسجيل الملوك التاريخيين لمصر بملك حمل اسم “مني”, وتلك الكلمة التي تحولت إلى مينا بعد ذلك ومن هنا نشأ تسميته بذلك الإسم, وبخلاف ذلك فهناك الآثار التي تعود للقرن الحادي والثلاثين قبل الميلاد والتي تذكر اسم “مني”.
أما الإسم المرجح أنه يشير لأول ملوك الأسرة الأولي فهو “نعرمر” والذي عرفناه من آثار تلك الفترة وعلي رأسها الأثر المعروف بإسم صلاية نعرمر, وقد تم كتابة إسم نعرمر بالعلامات الهيروغليفية “نعر” ويمثلها سمك القرموط, والثانية الأزميل والذي ينطق “مر” فيصبح الإسم “نعرمر”, وترجمة الإسم مثلت تحدي لعلماء الآثار فمنهم من ترجم الإسم “القرموط الخارق”,”القرموط الشرس”, القرموط اللادغ” أو “قاهر القرموط” وغيرها من الترجمات.
ولكن ماذا عن ما ذكره مانيتون السمنودي وأن الملك المؤسس هو “عحا”؟
المحارب والقرموط الخارق والمؤسس
لدينا الآن ثلاثة أسماء مختلفة لأول ملوك الأسرة الأولي والمفتترض أنه من قام بتوحيد القطرين, الأول هو “نعرمر” والمذكور علي آثار تلك الفترة وأهمها صلاة نعرمر, والثاني هو “مني” – بكسر الميم- والثالث ما ذكره مانيتون وهو عحا ويعني المحارب.
في منطقة نقادة تم العثور علي مقبرة الملكة “نيت حتب” والتي يعتقد أنها زوجة الملك “نعرمر” تم العثور علي بطاقة عليها إسم الملك “حور عحا” وبجواره علامة من التي تشير لإسم “مني” وإن إختلف علماء الآثار في تفسير هذه العلامة باعتبارها إسم “مني”, أما الآثر الثاني فكان ختم تم العثور عليه في أبيدوس, سوهاج ويحمل إسم “نعرمر” مجاور لإسم “مني” وهو الذي كان واضحاً بشكل جعل علماء الآثار يميلون لتأكيده وحسم الخلط بين الثلاث شخصيات, وعلي الرغم من ذلك فقد خرج البعض الآخر بتفسير أن الختم يمثل إسمين لشخصين مختلفين, الأول هو نعرمر “الملك” والثاني هو “مني” ويشير له وهو أمير قبل توليه الحكم.
إلا أن تلك الحيرة قد بدأت تصل إلى تفسير واضح بعد كشفين في عامي 1985 و1990 عندما تم العثور علي أختام في جبانة أبيدوس ومقابر الملكين “دن” و”قاعا” من الأسرة الأولي , وقد كان “قاعا” آخر ملوك تلك الأسرة وظهر في الختم الملوك الثمانية للأسرة الأولي والتي بدأت بالملك “نعرمر” ومن خلفه “حور عحا” مما دعم الإفتراض القائل بأن “مني” هو “نعرمر” وأن “حور عحا” هو خليفة “نعرمر”.
وخلاصة القول فإنه بناء علي تلك الأبحاث والمكتشفات فإن علم الآثار يلخص الموضوع كالتالي: أن “نعرمر” هو نفسه “مينا, مني” وأن الإسمان هما اللقب الحوري للملك – لقبه المنتسب لحورس- والثاني هو إسمه الشخصي, وأن ” عحا” هو إبن الملك “نعرمر,مينا” وهو ثاني ملوك الأسرة الأولي.
ولا يوجد للملك “نعرمر” تمثيل واضح له سوي في “صلاية نعرمر” وتمثيل أقل جودة في آثار أخري مثل مقمعة القتال, وقد تم العثور علي رأس تمثال موجودة الآن في متحف بتري بلندن, وقد حصل على تلك الرأس عالمم الآثار الشهير “فلندرز بتري” وعلي الرغم من عدم وجود أى نقوش مصاحبة لرأس التمثال وعلي الرغم من عدم ذكر “بتري” لكيفية حصوله عليها أو حتي إن كان عثر عليها من خلال حفائره إلا أنه نسبها للملك “نعرمر”, ومن الواضح أن الشيء الوحيد الذي جعله يفعل ذلك هو مطابقة الرأس بملامح الملك الموجودة علي صلاية نعرمر, إلا أن هناك آراء أخري نسبت ذلك التمثال لأي ملك بين الأسرتان الأولي والثانية , بينما ذهبت آراء معتبرة إلى أن تلك الرأس تمثل الملك “خوفو”, وكذلك فقد عثر علي إناء في طرخان وتمثال من الألباستر يمثل قرد بابون منقوش عليه إسم “نعرمر”
مقبرة الملك نعرمر
من المثير للإهتمام أنه تم العثور علي مقبرة الملك “نعرمر” ليس وحده فحسب بل تم العثور علي مقابر ملوك الأسرة الأولي, وقبل أن تفوق توقعاتك الكشف الفعلي عزيزي القاريء فإن جل تلك المقابر مصنوع من الطوب اللبن وأن ما تم العثور عليه لم يتجاوز أواني وبطاقات واختام وبعض المقتنيات البسيطة مثل رؤؤس السهام المصنوعة من الظران فتلك الجبانة ييببلغ عمرها حوالى خمسة آلاف عام من النهب المستمر.
وقد عثر “فلدرز بتري” علي المقابر في باديء الأمر في بداية القرن العشرين في منطقة أم القعاب في ابيدوس, سوهاج, إلا أنه لم يتمكن من تحديد هوية أصحاب المقابر وقد إكتشف بتري قبر الملك “نعرمر” والذي كان مكوناً من غرفتين وعلي الرغم من توثيقه الجيد لأعال الحفائر إلا ان هناك العديد من المقتنيات المعروضة في متحف بتري لا يوجد لها توثيق في سجل الحفائر مثل رؤؤس الأسهم وأرجل سرير مصنوعة من العاج.
وفي منتصف الستينيات ومع تولي معهد الآثار الألماني للحفائر تمكن عالم الآثار الألماني “فيرنر كايزر” من تحديد هوية صاحب المقبرة وهو الملك “نعرمر” نفسه, وقد دفن “نعرمر” بجوار الملك “كا” الذي سلفه, وكذلك الملك “حور عحا” خليفته, وقد كانت مقبرة “حور عجا” أكبر حجما تتكون من ثلاثة غرفة وقد كان العثور علي قبرين منفصلين لنعرمر وحور عحا ما أضاف للأدلة التي تفصل بين “نعرمر” و”حور عحا” باعتبارهم شخصيتان مختلفتان.