في مقال سابق إستعرضنا نشأة فكرة الأبجدية في مصر القديمة وكيف تعلم الساميون المتمصرون في شيناء قكرة الأبجدية التي أخذوها من الهيروغليفية المصرية والتي تحولت إلي الأبجدية السينائية وهي الأبجدية الأم التي إنتقلت في البداية إلي فلسطين ومن ثم للعالم أجمع لتصبح أصل الأبجديات.

“لقد خلق آمون كل البلاد ,خلقها بعد أن خلق مصر أولا ,

والفن جاء من هناك من حيث أنت أتيت إلى ها هنا حيث أكون .

والتعليم جاء من هناك إلى ها هنا حيث أكون “

من كلمات أمير “جبيل” إلى الكاهن المصرى “ون آمون” الذى أرسله الكاهن الأكبر لآمون “حريحور” إلى جبيل .. عصر رمسيس الحادى عشر , قصة ون آمون , بردية الحيبة – بنى سويف

قصة إكتشاف الأبجدية السينائية

كان أول من كشف عن الأبجدية السينائية هو عالم الآثار الإنجليزي “فلندرز بتري” عام 1905 أثناء مجموعة من الحفائر بشبه جزيرة سيناء بمنطقة سرابيط الخادم الشهيرة, وقد عثر بترى علي العديد من النقوش بداخل وحول معبد “حتحور” الموجود بالمنطقة وقد تعرف علي الفور علي العديد من العلامات الهيروغليفية ولكنها كانت تختلف بعض الشيء عما إعتاد علي قرائته بداخل مصر, وقد تبين لبتري لاحقاً أنها أبجدية كاملة تختلف عما إعتاد عليه بداخل مصر، وتوقف الأمر لبضعة أعوام بدون أى اضافات جديدة حتي ظهر عالم الآثار الإنجليزي ومتخصص اللغة المصرية القديمة آلان جاردنر والذي نشر بعدها بعشر سنوات تحليله لتلك النقوش وعدم إعتباره أنها الأصول الأولي للخطوط القديمة كالفينقيقة وغيرها وهو ما اثبت خطأه لاحقاً.

فلندرز بتري
فلندرز بتري

مع العثور علي نقوش أخري بأراضي كنعان وما حولها ومن ثم تحقيق الربط بينها وبين الأبجدية السينائية بداً واضحأ من أين نشات كل تلك الأبجديات وتأكيد أصولها الاولي لمصر ومن ثم سيناء.

 

أبجدية وادي الحول  تعيد كتابة التاريخ

مع إستمرار وترسيخ ذلك الأعتقاد بالنشاة السينائية للأبجدية اتت أرض مصر بمفاجأة مذهلة لتؤكد إحتضان وادي النيل لتلك الأبجدية منذ البداية ودحض تظورها في سيناء كما كان متصوراً من قبل, ففي عام 1993 إكتشف عالم الآثار الأمريكي “جون دارنيل” وزوجته” ديبورا دارنيل” مجموعة من النقوش الصخرية بمنطقة وادي الحول الواقعة ما بين أبيدوس وطيبة, طريق فرشوط.

وقد كانت تلك المنطقة عبارة عن طريق مشهور للتجارة في مصر القديمة, وتتراوح تلك النقوش ما بين عصور ما قبل الأسرات مروراً بالعصور الصرية القديمة وما تلاها حتي العصور القبطية وهو ما يعني ان ذلك الطريق كان مستخدماً لقرون طويلة, وينتمي معظم النقوش التي عثر عليها دارنيل لفترة الدولة الوسطي وتسجل معظم النقوش أسماء وألقاب منها ملكية ولكن هناك الأغرب منها والأطول محتوي مثل النقوش التي تحتوي علي نصوص أدبية وإشارات إلى إحتفالات دينية في تلك البقعة العميقة من الصحراء, وتعود نقوش قديمة من تلك المنطقة إلى ما تركه المسافرون وقوافل التجارة والذي تركوا أيضاً بقايا خلفهم تدل علي وجوده وإتخاذهم لذلك الطريق.

جون دارنيل
جون دارنيل

كان من اهم النقوش التي عثر عليها دارنيل سطران ييرجعا لحوالى الألفين قبل الميلاد, وقد كان ذلك النقش مثار إهتمام دارنيل بشكل خاص نظرا لتشابهها بل وتطابقه مع ما كان يعرف وقتها بالأبجدية السينائية, وعكف دارنيل علي دراسة تلك النقوش ليخرج بإكتشاف مذهل يقول بان ذلك النقش من وادي الحول يمثل الأبجدية السينائية التي أكتشفها بتري منذ أكثر منذ تسعون عاماً مضت, وهو ما سيعني بالتبعية ان تلك الأبجدية كانت مستخدمة ومعروفة في مصر في تلك المنطقة في قلب الأرض المصرية قبل ظهورها في سيناء لاحقاً, لتعيد مصر كتابة تاريخها مرة اخري بنفسها وتعكس أن تلك الأبجدية كانت إختراع مصري خالص مع إحتفاظها حتي يومنا هذا بإسم الأبجدية السينائية علي الرغم من نشاتها في مصر, وقد قام جون دارنيل بنشر خلاصة بحثه وحفائره في عام 1999 ليعيد كتابة ذلك الجزء من تاريخ مصر مرة أخري وإلى الأبد, وقد تم إدراج أبجدية وادي الحول بموسوعة جينيس للأرقام القياسية لاحقاً ليتم نسبها إلى مصر كأول أبجدية على الإطلاق.

الأبجدية السينائية إلي العالمية

مع ذلك التغير الدرامي في الأحداث بناء علي المكتشفات الأثرية تبقي لنا فقط تتبع تاريخ الأبجدية السينائية لمعرفة كيف إنتشرت في العالم أجمع لاحقاً

كانت سهولة إستخدام الأبجدية السينائية هو سر تميزها بعدما فقدت الشكل التصويري المصري القديم وإتخاذها الشكل الخطي الذي إنحدر منه الأبجديات ذات الحروف الخطية مثل الفينيقية والآرامية والتي أشتقت منها سائر أبجديات شرق وغرب المتسوط ومن ثم سائر أبجديات العالم.

وقد بدأ هذا التحول بعد إنتقال السينائية إلي فلسطين وإشتقاق الأبجدية الكنعانية منها فيما بين القرون السابع والخامس عشر قبل الميلاد, وكانت اهم النقوش التي وثقت ذلك هو نقش علي شقفة فخار في بلدة “جازار” القديمة بجنوب فلسطين والنقش مكتوب من اعلي لأسفل وهو احد إتجاهات السينائية المبكرة والتي كتبت مثل اللغة المصرية القديمة أيضاً من اليمين لليسار والعكس والنقش يقرأ “ك ل ب”  وتبدأ بكف, لامد, ومن ثم بيت طبقاً للقاعدة الأكروفونية, وتظهر هنا العلامات وقد بدأت تأخذ شكل خطي واضح مختلف عن العلامات التصويرية المبكرة.

ومن احد الأدلة الأخري عيل إنتقال السينائية إلي فلسطين وهو نقش آخر علي وجوه مكعب من الطيب عثر عليه في مدينة “تل الدوير حالياً” ونقش علي وجهين , علي وجه منهم بالهيروغليفية لقب تتويج الملك أمنحتب الثاني “عا خبرو رع” وعلي الوجوه الأخري كتابات سينائية مبكرة تقراً “إيل جت” وهو إسم إله سامي كنعاني, ونقوش ذلك المكعب تؤرخ الكتابة السينائية بتاريخ ساحق في القدم يبدأ علي الأقل من عصر الدولة الوسطي كما ذكرنا سابقاً.

 

الأبجدية الكنعانية

يطلق باحثو اللغويات مصطلح ” الأبجدية الكنعانية المتأخرة” علي الحروف الكناعنية التي ظهرت في فلسطين فيما بين القرنين الثالث والثاني عشر قبل الميلاد, ولا أوضح من ذلك علي نقوش موقع “قبور الولايدة” شمال بئر سبع والتي ظهر فيها الشكل الخطي بوضوح في أشكال حروفه، وهنا كانت مرحلة الإختفاء التام للأشكال التصويرية

 

الأبجدية الفينيقية

وهو أشهر الأبجديات والتي عرف العالم مبكراً أنها كانت أصلاً للأبجديات التي تلتها لاحقاً وهي المعلومة الصحيحة بالفعل ولكن الفرق كان حرمان العالم القديم لمصر من الفضل في نشاة تلك الأبجدية، فالفينيقيون لم يكونوا هم من إبتكروا الأبجدية الأم وغنما نقلوها من فلسطين، وعلي الرغم من ذلك فإن الفينيقيين لهم الفضل في قبات إتجاه الكتابة من اليمين إلي اليسار بعدما كانت تكتب في إتجاهات مختلفة, ومن أقدم النقوش التي تعبر عن تلك الأبجدية هو نقش تابوت الملك أحيرام الذي يعود لعام 1050 قبل الميلاد تقريباً.

الأبجدية الفينيقية
الأبجدية الفينيقية

العبرية والعربية

في بلاد الشام تم إشتقاق أبجدتيان من الفينيقية وهم الآرامية والتي يعود أقدم نقوشها إلى القرن التاسع قبل الميلاد والمعروف بنقش كلامو إبن الملك حاجا, والعبرية المبكرة والتي يرجع أقدم نقوشها إلى القرن التاسع قبل الميلاد أيضا ويسمي نقش الملك ميشع.

ومن الآرامية أشتقت أبجديات الشام القديم مثل التمدرية التي ترجع للقرن التاسع قبل الميلاد والسريانية, القرن الأول الميلادي, إلا ان كل هذه الأبجديات قد إندثرت باستثناء السريانية التي إنحصر إستخدامها علي نطاق ضيق, ومع لفظ الآرامية أنفاسها الأخيرة تمخضت عن العبرية المتأخرة او الخط المربع, وحدث ذلك بعد تخلي العبرانيون أثناء سبيهم في بابل عن أبجديتهم العبرية المبكرة – المشتقة من الفينيقية – وحل محلها الخط المربع.

وفي نهاية الأمر نشا عن الآرامية الأبجدية النبطية والتي نتج عنها الأبجدية العربية أو الخط العربي لاحقاً.

 

إلي إيران والهند

مع نبذ الفرس للخط المسماري العراقي  وإستخدامهم للخط الآرامي نجد أن اليهود قد قلدوهم بدوره بنبذ العبرية المبكرة وإستخدام الآرامية التي تحولت إلى الخط المربع بدورها, ومازال الخط المربع مستخدما حتي اليوم لدي اليهود وعن طريق بلاد فارس, ومنهم إلى الهند حيث أشتق الخط البراهمي السنسكريتي.

أوروبا وسائر العالم

«مصر شمعة مستقرة فى قاع النيل إذا أظلم العالم طفت على السطح لتنير العالم من جديد»

هيرودوت

هيرودوت
هيرودوت

كما علمنا سابقاً فقد إنتقلت الأبجدية الفينيقية إلى سائر بلاد اليونان وقد أعترف اليونانيون بذلك منذ عصور مبكرة وعرفوه, والأبجدية اليونانية بالكامل مشتقة من الفينيقية ولا زالت تحمل أسماء الحروف الفينيقية , ففي اليونانية: ألفا, فيتا, جما, دلتا والفنيقية: ألف, بيت, جمل, دالت ولكن اليونانييون غيروا إتجاه كتابة الخط فكتبوه من اليسار لليمين.

ومن المثير للطرافة أن الفنيقيون لم يطلقوا علي أنفسهم الفنيقيون وإنما هو مصطلح يوناني اطلقه اليونايون عليهم , بينما تمسك الفنيقيون بتسمية أنفسهم بالكنعانيون, وقد كان لهم عظيم الآثار نظراً لنشاطهم المستمر فلم يكونوا مجتمعات مغلقة وفدوا في الأصل كهجرات سامية إلى الإقليم السوري في موجات متتابعة منتصف الألف الثالث قبل الميلاد  وإستقروا منهم أقوام علي الساحل السوري وهم الذين أصبحوا الفينيقيون في نظر الإغريق لاحقاً, وقد إستمر نشاطهم في هذه المنطقة حتي منتصف القرن الاول قبل الميلاد, وكما تصفهم كتب التاريخ بناء علي نشاطهم التجاري الموسع ومهارتهم في ذلك الجانب فإنهم تحولوا وبشكل غير مباشر إلى سعاة بريد بين الحضارات وهو ما جعل تأثر اليونانيون بهم أمراً محتوماً وكما إستعمل المصريون سابقاً الخط القبطي للتواصل مع التجار والمرتزقة الإغريق, ففي ظروف مشابهة بعض الشي إقتبس اليونانيون أبجديتهم من الفنيقيون, ومع إنتشار إستخدام اليونانية في العالم القديم أصبح من المحتم أن يشتق منها جميع الأبجديات الأوروبية والتي تطورت عبر الزمن حتي العصر الحديث ومن ثم  أنتشرت في القارتين الأمريكتين وأجزاء من آسيا ومن ثم أستراليا وغرب وجنوب أفريقيا، خاضت اللغة المصرية رحلة طويلة عبر الزمان نشات فيها علي أرض مصر كابتكار مصري خالص ومع الإمتداد الزمني والنطاق الجغرافي والحضاري المصري المهول إنتقل جزء من الثقافة المصرية متسللاً عبر الحدود إلى آسيا ومن ثم تم تبنيه وتحويره بما يناسب مفاهيم الأقوام التي عاشت في تلك الأراضي وقتها حتي نشات منها أشكال أكثر متطورة عنها ظن البعض انها الأصل بينما الأصل كان علي أرض مصر منذ البداية كالعادة, وعلي الرغم من تلك التوضيحات العلمية والتي نشات في وقت مبكر  وعبر عملية شديدة التعقيد إستمرت لعقود طويلة من الجهود العلمية كما أوضحنا في ذلك المقال إلا أن ذلك في بعض الأحيان لا يتم إلقاء الضوء عليه بل وإغفاله في بعض الأحيان عند إستعراض التاريخ المصري, فحقيقة الأمر أن البعض بأخذ حتي العلم نفسه بالأهواء فنجد من يغفل بل ويهمل ذكر الحضارة المصرية ودورها وريادتها في ذلك الركب الحضاري وهو يقودنا لحقيقة مؤسفة وهي أن ما يتم ترديده باستمرار حتي وإن كان خاطئاً لربما يطغي في بعض الأحيان علي حقائق علمية راسخة.