في السادس من ديسمبر من عام 1912 وعند إكتشافه لتمثال رأس الملكة المصرية الجميلة “نفرتيتي” كتب عالم الآثار الألماني “لودفيج بورشارت- Ludwig Borchardt” يصف رأس نفرتيتي:
فجأة أصبح بين أيدينا أكثر الأعمال الفنية المصرية حياة, لا يمكن أن تصفها بكلمات
ومن ثم عمل جاهداً لكي يضمن لألمانيا الحصول علي تلك القطعة حتي أصبح مكانها الحالي في المتحف الجديد ببرلين.
أين إكتشف بورشارت تلك التحفة الفنية؟ وما هي قصة إكتشافها؟
هذا هو ما سنحاول معرفته في هذا المقال.
من هي نفرتيتي؟
“نفرتيتي” أو بالمصرية القديمة نفرت-إتي ويعني الجميلة أتت هي الزوجة الملكية العظمي للملك أمنحتب الرابع والمعروف بإسم إخناتون, لم تكن نفرتيتي ملكة عادية علي الإطلاق وإنما كانت شريكة حياة ودعوة وأعمال الملك إخناتون فظهرت بجواره في جميع المناظر تقريباً تقدم القرابين لإلههما “آتن”, لذلك يمكننا – إن جاز التعبير- أن نصف نفرتيتي بانها كانت نبية العهد الآتوني ولربما كانت مساوية لزوجها في الدعوة للإله “آتن” الذي دعا إخناتون لجعله الإله الرسمي للدولة المصرية.
أنجب إخناتون من نفرتيتي ست بنات ولم ينجب منها أى أولاد وهو ما يظهر واضحاً في مناظر وجداريات عائلة إخناتون التي تظهره هو ونفرتيتي وبناتهما, وهو ما دعا علماء الآثار لاستبعاد أن تكون نفرتيتي أم الملك توت عنخ آمون والي أنجبه إخناتون من زوجة ثانوية في أغلب الظن.
كانت نفرتيتي أيقونة للجمال في العالم القديم بدئأ من إسمها والذي يعني الجميلة أتت كما ذكرنا وهو إشارة واضحة لجمالها الأخاذ الذي لا يختلف عليه إثنان والذي أخبرتنا عنه تمثايلها وجدارياتها وخاصة تمثال رأس الملكة الموجود في متحف برلين والذي إكتشفه بورشارت أثناء العمل بمدينة تل العمارنة.
آخت آتون: المدينة المفقودة
وهي المدينة التي تقع علي الضفة الشرقية من نهر النيل بمركز ملوي , محافظة المنيا وقد كانت تلك المدينة – آخت إتن- أو أفق آتون هي العاصمة التي إتخذها إخناتون لنفسه بعدما فشل في تعميم عبادة إلهه “آتون” في سائر البقاع المصرية فقرر أن يبدأ من جديد في مدينة تل العمارنة بعيداً عن سلطان مدينة طيبة القديمة.
وقد إختار إخناتون تلك المدينة لموقعها المتوسط بين منف وطيبة وكذلك تخبرنا نصوص عصره أنها –كما ذكر- منطقة لم تعبد فيها آلهة أخري, وقد قام إخناتون بتشييد تلك المدينة علي الضفتين الشرقية والغربية من النيل ووضع لها لوحات حدود علي الجانبين, في الشرق من المدينة نجد المعابد والقصور الملكية والهيئات الحكومية والمدينة الجديدة نفسها, ولم ينتقل إخناتون إلى تلك العاصمة وحده هو عائلته فحسب وإنما إنتقل معه رجال بلاطه الموالون له وكذلك أخذ معه الكثير من وثائق الدولة المصرية وعلي رأسها أرشيف المراسلات بين ملوك مصر ورعاياها وحلفاؤها الاجانب في آسيا.
وللتلك المدينة العديد من الحكايات والقصص التي ألهبت خيال الفنانين والحالمين علي مر العصور وعلي رأسها المدرسة الفنية التي تنتمي لتلك الفترة والتي خرج منها قطعة فنية بجمال رأس نفرتيتي.
تنتهي قصة مدينة آخت إتن بوفاة إخناتون, ومن ثم عودة الامور لسابق عهدها في مصر , فانتقل مقر الحكم مرة أخري إلى ما كان عليه وتم هجر مدينة آخت إتن واعتبارها مكانا مشؤماً وذكري سيئة في وجدان المصريين.
وقد قام الملوك من بعد إخناتون بتحطيم تلك المدينة حتي أصبحت أنقاضاً وأطلالاً حتي نسي الناس في تلك المنطقة إسم إخناتون وعائلته وسيرته حتي حازت علي إسمها الحالى “تل العمارنة” أو “تل بني عمران”.
عند زيارة المرء لتلك المدينة المنسية يمكنه حتي الآن أن يري أطلالها وشوارعها ومنازل الموظفين الذين عملوا بها, ولا تزال توجد بها أطلال المعبد الكبير وبقايا بعض القصور الملكية أما أكثر الأماكن حفاظاً بها فكانت المقابر ومن ضمنها المقبرة الملكية الشهيرة لاخناتون وعائلته.
آخت آتون تنهض من تحت الرمال
قامت البعثات الأثرية تحاول كشف أسرار تلك المدينة المنسية, وعلي رأسها البعثة التي تولاها عالم الآثار فلندرز بتري عام 1891-1892, وقد كشفت الحفائر في تلك المنطقة عن الكثير من آثار العمارنة وعلي رأسها بقايا الرسوم الملونة التي كانت تغطى جدران القصور, ومن أشهر تلك الأمثلة أرضيتان من الجص الملون نجيتا باعجوبة من التدمير ويعرضان بالمتحف المصري بالتحرير, كما تم العثور علي قصر للملك إخناتون وقتاها تبعه العثور علي قصر ثاني ما بين الأعوام 1923 و 1925 حتي كانت النتيجة النهائية هي مخطط كامل لتلك المدينة بكامل تفاصيلها والتي كانت علي قدر عالي من التنظيم.
فنجد ان المدينة كان يقطعها ثلاثة شوارع رئيسية من الشمال للجنوب تتقاطع مع شوارع أخري متفرقة من الشرق للغرب, ومن الملاحظ عد الفصل بين الأحياء السكنية والمناطق الصناعية ووصنعت البيوت بلا ترتيب, فنجد منزل الكاهن بجوار الحرفي والوزير بجوار صغير الشان, إلا أنه ومع ذلك فكانت منازل النبلاء تتسم بالسعة وبحبوحة العيش فبها نجد حجرات نوم متعددة وحجرات للجلوس بالإضافة إلى غرف الغسيل والحمامات, وأجمل أمثلة البيوت في تل العمارنة كان منزل الوزير “نخت” الذي بلغت مساحته 65*85 قدماً مربعا.
مكتشفات المدينة المفقودة
وعلي رأس تلك الإكتشافات هي البطاقات أو اللوحات الطينية الصغيرة التي عرفت باسم رسائل العمارنة وعددها 377 رسالة موزعة ما بين متاحف العالم والمتحف المصري وقد تم الكشف عن تلك الرسائل لأول مرة عام 1887 عندما كانت إحدي انساء تقوم بنقل “السباخ” فوجدت تلك الألواح التي كان مصيرها سيصبح في وسط النيران لولا الإنتباه وقتها إلىها والذي أدي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تلك الألواح إلا أنها تمت معالجتها بشكل رديء وعدم الإنتباه لأهميتها الحقيقية.
وقد كانت تلك الألواح تحتوي علي مراسلات ملوك مصر والجانب الآسيوي وقد نقلت لنا بصورة مباشرة الظروف الحقيقية لتلك الفترة بل وامدتنا بمعرفة عن رعبات ووجهات نظر الملوك مرسلي تلك الرسائل لملك مصر, وقد ساعدت تلك الرسائل في التتبع الدقيق لسقوط الإمبراطورية المصرية في آسيا والدوي الكارثي الذي لعبه إخناتون في تقويض أركان الإمبراطورية المصرية مع عجزه عن السيطرة علي الوضع بل وتجاهله تماماً في أحيان كثيرة.
قصة إكتشاف رأس نفرتيتي
من أشهر القصص المتعلقة بمدينة تل العمارنة أو آخت آتون وكذلك الملكة نفرتيتي هي الرأس الشهير لها والموجود الآن بالمتحف الجديد بالعاصمة برلين, فلطالما ساورت الجميع الشكوك حول ظروف إكتشافها وأحقية ألمانيا في تلك القطعة الفريدة.
وقد بدأت القصة عندما حصلت “الجمعية الألمانية للشرقيات” Deutsche Orient-Gesellschaft علي إمتياز الحفر في مدينة تل العمارنة , وكانت تلك البعثة بقيادة “لودفيج بورشارت”, وفي ذلك الوقت كانت سلطات الآثار في مصر ممثلة في عالم الآثار الفرنسي الشهير “جاستون ماسبيرو” , وقد كان المفتش المسئول عن آثار مصر الوسطي وقتها هو الفرنسي “جوستاف لو فيبر” والذي كان مسئولاً أيضاً عن عملية إقتسام المكتشفات وقتها, ففي ذلك الوقت كان قانون الآثار المصري ينص أن المقب يحصل علي 50% من القطع المكتشفة بينما تحصل الدولة المصرية علي ال 50% الأخري مع الإحتفاظ للحكومة المصرية بحقها في إختيار القطع التي ستحتفظ بها.
وقد مرت الأمور علي ما يرام حتي إستطاع “بورشارت” العثور علي كنز ثمين قلب كل التوقعات.
إكتشاف ورشة الفنان تحتمس
في أثناء حفائر “بورشارت” في تل العمارنة إستطاع أن يكتشف ورشة لفنان مصري يدعي “تحتمس” وهو أحد أشهر فناني فترة العمارنة وحكومة إخناتون إن لم يكن أشهرهم, فقد كان تحتمس هو صانع رأس نفرتيتي, وقد أسفر العثور علي تلك الورشة عن العديد من القطع المذهلة وعلي رأسها رأس نفرتيتي.
حاز تحتمس علي مكانة مهمة في فترة العمارنة وقد حمل من الألقاب ما يخبرنا عن اهميته فقد كان هو المفضل لدي الملك وسيد الأعمال وهو ما يخبرنا بعلاقته المباشرة مع القصر الملكي بل والملك إخناتون نفسه, وكذلك سمعته الرنانة كنحات لا يضاهي أعماله أحد, وفي أوائل ديسمبر من عام 1912 أسفرت الحفائر عن الكشف عن ورشة ذلك الفنان ذو الأصابع الذهبية وقد تم العثور بداخل ذلك المبني علي إسم تحتمس وكذلك ألقابه.
وقد تم العثور علي رأس نفرتيتي الشهيرة والتي عثر عليها في المخزن وهو ما يرجح أنها كانت نموذج لفنانين آخرين ليقلدوه أو حتي تلاميذ تحتمس نفسه, ومما يدعم ذلك أنهم عقروا بداخل ذلك المبني أيضا علي 23 نماذج من الجص لرؤؤس مختلفة لشخصيات من العمارنة بل وحتي قوالب للوجوه , وكانت تلك القوالب تمثل أسرة العمارنة وافرادها مثل نفرتيتي وإخناتون وبناتهما, الملك أمنحتب الثالث والد إخناتون, الملك آى والذي حكم قبل الملك توت عنخ آمون مباشرة وكانت تربه صلة وثيقة بالملك إخناتون ولربما كان خاله, ووجوه أخري لشخصيات من العمارنة لم يتم التعرف عليها حتي الآن.
كيف سرق بورشارت رأس نفرتيتي؟
عودة للموضوع الأهم, كيف سرق بورشارت رأس نفرتيتي ؟ وهل سرقها من الأساس؟
كانت أول قطع البحث عن حل ذلك اللغز هي يوميات “بورشارت” نفسه والتي أشار فيها لتلك القطعة الفنية قائلا: “فجأة أصبح بين أيدينا أكثر الأعمال الفنية المصرية حياة, لا يمكن أن تصفها بكلمات”.
وبعدها وبحضور “لوفيبر” كممثل عن الحكومة المصرية تم إقتسام القطع المكتشفة مناصفة بين الحكومة المصرية والبعثة الألمانية حتي ظهرت نفرتيتي في متحف برلين ومن هنا أثيرت الضجة حولها وبدأ التقصي في كيفية خروجها من مصر.
وقد ظهرت أول الوثائق في عام 1924 وهي وثيقة ألمانية تخص البعثة نفسها, تؤرخ لفاء تم بين بورشارت وبين ممثل لمصلحة الآثار – لم تذكر الوثيقة إسمه- وتذكر أن ذلك اللقاء حدث في 13 يناير 1913 وبحضور سكرتير الجمعية الألمانية للشرقيات المسؤلة عن البعثة – وهو كاتب الوثيقة -ويذكر فيها :أن بورشارت إستخلص التمثال لصالحهم, ومن هان حامت الشكوك حول بورشارت وأنه أخفي قيمة الرأس وأظهرها بشكل أقل قيمة ليتمكن من الحصول عليها, وتم1ي الوثيقة لتذكر تلك الأشياء التي فعلها بورشارت منا أنه أظهر صورة للرأس في اضاءة سيئة تظهرها كقطعة عادية ليس ذات قيمة فريدة, بينما الرأس نفسها تم إخفاؤها في صندوق أثناء حضور لوفيبر القسمة وأضافت تلك الوثيقة أن بورشارت إدعي أن تلك الرأس مصنوعة من الجبس كغيرها من بعض النماذج وأن الإهمال في تلك الصفقة يقع علي عاتق لوفيبر لان الرأس كانت علي رأس قائمة القسمة التي وافق عليها لو فيبر, بل وتمضي لتذكر أن تلك الرأس تم توصيفها أنها رأس لاميرة من العمارنة وليس نفرتيتي.
كان من الواضح أن بورشارت قد فعل الأفاعيل ليحصل علي تلك الرأس ومن المستحيل وضع حسن النية في الحسبان, فهو أثري ومنقب محترف يعلم جيداً أن تلك الرأس لم تكن مصنوعة من الجبس وإنما الحجر الجيري – مادة صنع الرأس- وكذلك فهو لم يكن اميناً في عرض القائمة ومحتواها علي لو فيبر, وعلي الرغم من ذلك وطبقا للقانون رقم 14 لعام 1912 حصلت ألمانيا علي تلك القطعة بوثيقة قانونية.
هل تعود رأس نفرتيتي؟
طالبت الحكومة المصرية مراراً وتكراراً بفتح قضية تهريب رأس نفرتيتي, وطالبت بعودتها في أكثر من مناسبة عارضة عملية الخداع التي قام بها بورشارت إلا أن تلك الجهود لم تنجح في الضغط علي الحكومة الألمانية التي تتمسك بموقفها وذلك لأن رأس نفرتيتي هي درة المتحف الجديد وأهم القطع الموجودة به, وقد بلغ الأمر من الإستفزاز في بعض الأحيان لترديد تلك الحجة الواهية التي تقول بان ذلك الأثر تراث إنساني ملك للبشرية جمعاء, وهو نفس الرد الذي ردده المتحف البريطاني عنما طالبت بحجر رشيد – المسروق هو الآخر -.
ومما يؤكد سوء النوايا وعدم رغبة هذه الدول في إعادة تلك القطع الفريدة أنه حتي ومع إفتتاح المتحف المصري الكبير فقد رفضت ألمانيا حتي إعارة المتحف رأس نفرتيتي للعرض ولو بشكل مؤقت!
وهنا يتبق السؤال, هل تعود رأس نفرتيتي يوما ما للوطن؟