سر المومياء المشلولة والمستشار الخائن
سر المومياء المشلولة والمستشار الخائن

في عام 1898 يقوم عالم الآثار الفرنسي “فيكتور لوريت” بإكتشاف خبيئة للمومياوات في مقبرة الملك “أمنحتب الثاني” والتي تحمل رقم 35 في وادي الملوك, وبداخل تلك الخبيئة تم العثور علي العديد من المومياوات الملكية والتي كان عدداً منها مجهولاً وقتها كمومياء الملكة “تي”, ومومياء أم الملك توت عنخ آمون, ومومياوات بقيت مجهولة حتي يومنا هذا. وكانت واحد من أغرب مومياوات تلك الخبيئة هي مومياء لملك مصاب بشلل الأطفال فمن هو ذلك الملك؟ وماذا دون المصريون القدماء عن مرض شلل الأطفال؟

سبتاح: الملك الصغير

كان صاحب تلك المومياء هو الملك “سا-بتاح” أو “سبتاح” وهو الملك قبل الأخير من ملوك الأسرة التاسعة عشر , تلك الأسرة الحاكمة التي كان عميدها هو الملك “رمسيس الأول” قائد الجيش المصري وجد الملك “رمسيس الثاني”, الملك “سا-بتاح” والذي يعني إسمه “إبن الإله بتاح” تولي الحكم مع بلوغه عامه العاشر او الحادي عشر وقد حمل إسم “رمسيس سابتاح” في البداية ومع عامه الثاني  علي العرش غير إسمه إلى “مرنبتاح سابتاح”, وقد أثار هذا التغيير حيرة علماء الآثار في البداية والذين كانوا يظنون الإسمين لملكين مختلفين ولكن “رمسيس سابتاح” لا توجد له مقبرة ولا آثاراً بإسمه إلا المقترن ب”مرنبتاح سابتاح” وهو ما يرجح وبنسبة كبيرة ذلك الرأي الآن.

الملك سا بتاح

حكم ذلك الملك الصغير حوالى ستة أعوام فقط وذلك إستناداً علي نقش بمعبد “بوهن” في النوبة يؤرخ بالعام السادس من فترة حكمه وهو أقصي تاريخ مذكور لهذا الملك, وهذا يعني أنه توفي في عامه السادس عشر تقريباً أى أنه توفي وهو في سن أصغر من الملك توت عنخ آمون.

وقد شهدت فترة حكم الملك “سابتاح” ظروفاً صعبة وغامضة, فلا نعرف علي وجه اليقين من هم والدي الملك “سابتاح”, فلربما هو الملك “ٍسيتي الثاني” خامس ملوك الأسرة التاسعة عشر وإبن الملك “مرنبتاح”, أو هو إبن الملك “آمون مس” والذي لربما كان إبناً للملك “رمسيس الثاني” وقد كان الإثنان – سيتي الثاني وآمون مس- في صراع علي العرش حتي تم حسم الأمر لسيتي الثاني والذي كما ذكرنا لم يؤكد بشكل قطعي أنه والد “سابتاح”, أما بنوته لآمون مس  فاعتمدوا فيها على أن كلاهما أمضي شبابه في مدينة أخميم, وكلاهما أيضاً أغلفهم الملك “رمسيس الثالث” من موكب الملوك الأسلاف. ولكن هناك رأياً آخر له وجاهة يعتمد علي تغيير إسمه ل “مرنبتاح سا بتاح” وهو أنه كان إبنا مباشراً للملك “مرنبتاح” وبالتالي حفيد للملك “رمسيس الثاني”.

المستشار الخائن

وقد شهد عصر الملك “سابتاح” صعود شخص من أصول سورية يدعي إرسو أو “باي” والذي شغل منصب مستشار في القصر الملكي والذي كان من مخلفات عصر الملك “ٍسيتي الثاني” في خضم صراعه مع “آمون مس” وقد وصل “باي” إلى مكانة كبيرة سمحت له أن ينال شرف الدفن في وادي الملوك في المقبرة رقم 13 بوادي الملوك , علي أن طموح ومكانة “باي” هذا قد فاقت مجرد كونه مستشارا للملك فق قاد إنقلابا علي عرش مصر إنتهي بالفشل ومن ثم بالحكم عليه بالإعدام, وقد عرفنا القصة من البردية التي عرفت باسم “بردية هاريس الكبري” التي ذكرت المؤامرة وظن العلماء في البداية أن ذلك الإنقلاب كان ضد الملكة “تاوسرت” ولكن تم العثور علي أوستراكا في دير المدينة ذكرت أنه في العام الخامس من حكم الملك “سابتاح” قام بقتل عدوه الأعظم “باي”, وهو ما يوضح حتي تاريخ إعدام “باي” الذي حير علماء المصريين طويلاً

المومياء المشلولة

في عام 1905 كان إمتياز الحفر في وادي الملوك من حق عالم الآثار الأميركي “ثيودور ديفيس” وبينما يعمل عالم الآثار البريطاني “إدوارد إيرتون” لصالحه فإذا به يكتشف مقبرة أعطاها رقم 47 في وادي الملوك, وكانت تلك المقبرة تخص الملك “سابتاح”, وقد توقف العمل في المقبرة وتم إستكماله علي يد “هنري برتون” الذي نجح في الوصول لغرفة الدفن والتي كان بها التابوت الحجري في مكانه, وقد أعاق العمل الكثير من المخاطر واطنان التراب والركام الذي كان يملأ المقبرة بل وإنهيار أجزاء من السقف في بعض الأحيان, وقد شهدت أعمال الحفائر في تلك المقبرة صدفة عجيبة عندما إصطدم عمائل الحفائر أثناء الحفي بالمقبرة التي بجوارها وهي المقبرة رقم 34, وقد تم العثور علي العديد من المقتنيات البسيطة في المقبرة مثل تماثيل الأوشابتي – الخدم- وبعض الأشياء التي حملت خرطوش الملك “سابتاح”.

مومياء الملك سا بتاح

وبالطبع لم يتم العثور علي مومياء الملك بداخل التابوت لانه كان تم كشفها سابقاً في خبيئة المقبرة رقم 35, وهي المومياء التي تم فحصها لتكشف عن مفاجئة متعلقة بذلك الملك, فالملك كان مصاباً بشلل الأطفال ليضاف ذلك إلى عجائب وألغاز ذلك الملك الذي حكم مصر في فترة غامضة من تاريخ مصر, وقد حكمت بعده الملك “تاوسرت” لتكون آخر ملوك الأسرة التاسعة عشر وعلي ما يبدو فإن “تاوسرت” كانت زوجة أبيه ووصية علي عرشه ومن ثم تولت الحكم من بعده كملك منفرد.

وفي ابريل من العام 2021 تم نقل مومياء الملك “سابتاح” إلى المتحف القومي للحضارة المصرية من ضمن مومياوات موكب المومياوات الشهير, وعلي الرغم من ذلك فإن مومياء الملك “سابتاح” لم تكن هي الوحيدة التي كانت مصابة بشلل الأطفال كما أن المصريون القدماء قد سجلوا ذلك المرض في أكثر من مناسبة.

روما: حارس بوابة عشتار

في متحف “كارلسبرج” بالعاصمة الدانماركية “كوبنهاجن” توجد لوحة مصرية من الحجر تصور رجلاً مصاباَ بشلل الأطفال مع أسرته, ولتلك اللوحة قصة عجيبة تتلخص في صبي صغير من أصول سورية يدعي “روما” كان مصاباً بشلل الأفال منذ صغره ومن ثم إشتد عليه المرض فذهب به أبيه إلى معبد الإلهة “عشتار” طلباً للشفاء, وعلي ما يبدو أن ذلك تحقق ولذلك وهب ذلك الصبي نفسه لخدمة الإلهة عشتار وعمل حارساً لبوابة المعبد.

لوحة روما

ولربما يتسائل القاريء ماذا يفعله شخص سوري في مصر وماعلاقة الإلهة عشتار بالموضوع؟ وحقيقة الأمر أن عصر الدولة الحديثة ومع تحول مصر إلى إمبراطورية مترامية الأطراف جعل منها أيضا مركز جذب ومجتمع منفتح علي غيره من راغبي السلم وقد شهد ذلك إستقرار بعض الأجانب بمصر وإندماجهم في المجتمع المصري أيضاً وكان من ضمنهم “روما”, سجل “روما” تلك قصة مرضه ومعاناة وإنقاذ الإلهة له علي اللوحة التي صنعها ليهديها للإلهة عشتار ليشكرها علي إنقاذ حياته ويقدم لها القرابين, وعلي الرغم من ميل تلك الفترة التي صنعت فيها اللوحة إلى المثالية إلا أن “روما” تم تصويره بإعاقته الجسدية بناء علي شكله الحقيقي, وتعود تلك اللوحة إلى عصر الأسرة الثامنة عشر ولربما كانت أقدم تسجيل لمرض شلل الأطفال في التاريخ.

إخناتون مصاب بالشلل؟

في المتحف الجديد لمدينة برلين توجد العديد من آثار مدينة العمارنة والتي حكم منها الملك إخناتون وزوجته نفرتيتي, ويعج المتحف بالعديد من آثار تلك الفترة وعلى رأسها الآثر الشهير الذي لا مثيل له المعروف باسم “رأس نفرتيتي”, ولكن الأثر المقصود هنا في موضوعنا هو لوحة من الحجر الجيري تمثل ملك وملكة في كامل بهائهما والملكة تقدم للملك الزهور  وهي ترتدي ردائاً ضيقاً, بينما زوجها؟ يقف أمامها ببطن متدلية كعادة التصوير في فترة العمارنة, ولكن الأمر المثير للعجب هو إتكاء ذلك الملك علي عصا بيده اليمني مع غرابة تصوير قدماه.

إخناتون ونفرتيتي؟

وتلك الجدارية إن صحت تفسيرها بذلك الشكل تشكل بالفعل مشكلة كبيرة وذلك لغموض شخوصها بل وغموض شخوص العمارنة, فعلي سبيل المثال بعد وفاة “إخناتون” حكم بعده شخص لا نعرف صلته به وهو الملك “سمنخ كا رع” ثم بعده نجد سيدة حملت إسم-لقب “نفر نفرو إتن” (جميلة جميلات الإله آتون) ولربما كانت “نفرتيتي” التي حملت بالفعل ذلك اللقب سابقاً, أم هي إبنتها الكبري “ميريت إتن”؟

ومما يزيد من الأمور صعوبة أن تلك الجدارية لا يوجد ما يشير للزوج الملكي المصور عليها, فلا نعرف من كانا تحديدا؟ هل هما إخناتون ونفرتيتي؟ سمنخ كا رع وأميرة من العمارنة؟ لربما ميريت إتن؟ أم هم آخرون؟

وإن كان ذلك الزوج إخناتون ونفرتيتي بالفعل فذلك يزيد من صعوبة الأمر لأنه لم يعرف عن إخناتون إصابته بذلك المرض أو تصويره به في أى مناسبة بما يشير لإصابته به, ولربما كان تفسير تلك الجدارية أبسط من ذلك وأن الإتكاء علي تلك العصا هو مجرد شكل جمالى بينما شكل القدم هو نتيجة عدم تمكن الفنان أو إتقانه في صنعته,أو أن الجدارية لا تصور ذلك المرض علي الإطلاق.

 

سن نجم وعمال دير المدينة

في عام 1886 وأثناء العمل في قرية “دير المدينة” وهي قرية العمال الذين شيدوا وادي الملوك إكتشف العمال مقبرة بتلك المنطقة لتحمل الرقم واحد, وذلك في 31 من يناير من العام, وفي 1 فبراير وصل عالم الآثار الفرنسي “جاستون ماسبيرو” إلى الموقع ومعه عالم الآثار الفرنسي اورباين بوراين وبصحبهم الديبلوماسي الكاتالوني “إدواردو تودا”.

مومياء سن-نجم؟

وقد كانت تلك المقبرة كاملة وسليمة لم تمس وبها جميع كنوزها, وقد كانت تلك المقبرة تخص “سن نجم” والذي كان رئيساً للعمال في قرية دير المدينة في عصر الملك “سيتي الأول” وكذلك “رمسيس الثاني” وقد حمل لقب “الخادم في مكان الحق” وهو اللقب الذي حمله جميع عمال وفناني وحتي كبار موظفي قرية دير المدينة , وقد حوت الدفنة علي مومياء ومقتنيات “سن نجم”  وزوجته “إينفرت” وإبنهما “خونسو” بينما كان لهما إبن يدعي “خع بخنت” دفن في مقبرة جوال مقبرة أسرته وقد حملت رقم 2 هي الأخري.

كانت مقبرة “سن نجم” تحوي علي أكثر من عشرين دفنة لم يمكن تحديد علاقة بقية هؤلاء الأشخاص بعائلة “سن نجم”, وفي عام 2017 تم فحص اللمومياء التي كانت بداخل تابوت “سن نجم” ليكتشف الباحثون أنهم أمام مومياء يختلف طول أرجلها بالإضافة إلى شكل غير إعتيادي للقدم اليمني مما يوحي بإصابة بشلل الأطفال أدت إلى تلك الحالة.

وفي 2019 تم نقل مقتنيات “سن نجم” إلى المتحف القومي للحضارة المصرية ليتم عرض كنوزه هناك.