عندما تذكر حضارة مصر فإن المرء تلقائيا يفكر إما في أهرامات الجيزة العظيمة أو في الملك “توت عنخ آمون” وذلك لشهرة وأهمية الأهرامات ولروعة كنوز الملك “توت”, إلا أن مصر ليست أهراماً وكنوزاً فقط, والإكتشافات الأثرية لا حصر لها وكل يوم يضاف إليها الكثير والكثير,في هذه السلسلة نبحر سوياً مع أعظم الكشوف الأثرية في تاريخ مصر والتي تضاهي أهرامات الجيزة في أهميتها وكنوز الملك توت في قيمتها.
لغز المسلة الناقصة
في أحد محاجر الجرانيت الشهيرة والذي يقع في أسوان, ترقد مسلة في مكانها بداخل المحجر نفسه لم يقتطعها المصريون القدماء بالكامل وتركوها مكانها لسبب كان غامضاً في أوائل القرن العشرين, تلك المسلة تعرف باسم “المسلة الناقصة”. تلك المسألة في الأصل من أعمال الملكة “حتشبسوت” أحد ملوك الأسرة الثامنة عشر وأشهر ملكات مصر القديمة من اللائي حكمن مصر بشكل منفرد.
شهد عصر حتشبسوت أهتماماً خاصاً بالدعايا السياسية والتي كان على رأسها بعثة الملكة لبلاد “بونت” الشهيرة حيث أرسلت الملكة بعثة لتلك البقعة البعيدة عن مصر في أعماق إفريقيا- لربما الصومال حالياً- وكذلك مجموعة الإنشاءات الملكية التي تمت في عصرها, وعلي رأسها معبد الدير البحري والإضافات بمعبد الكرنك وغيرها.
كانت تلك المسلة في الأصل مقرر لها أن يتم إقامتها في معبد الكرنك, وهي ثالث أكبر مسلة مصرية تم تشييدها علي الإطلاق, مصنوعة من الجرانيت ويبلغ طولها حوالي 42 متر ووزنها ما يقرب من 1100 طن !
ومن المثير للدهشة أن تلك المسلة قد تم تركها كما هي بالمحجر بعد إنجاز جزء كبير منها وتوقف العمل بالمشروع, ومن هنا بدأت الفرضيات واحدة تلو الأخري وأثارت المسلة إهتمامات علماء الآثار لفترة طويلة جداً إلا أنه لم يتم عمل دراسات كافية عنها حتي بدايات القرن العشرين, بل أن الوثائق والصور تظهر المسلة مغمورة بالرمال حتي عام 1904.
لماذا أقام المصريون القدماء المسلات؟
المسلات واحدة من أشهر الرموز المصرية القديمة علي الإطلاق, وترتبط صورة المسلات في الحضارة المصرية القديمة بالهيئة الشهيرة لمسلتان عملاقتان علي مدخل الصرح الأول لأي معبد مصري, وهو الشكل الكامل شبه النهائي للمسلات في مصر القديمة, إلا أن المسلات في مصر القديمة تعود لعصور قديمة جداً ترجع للدولة القديمة وقد كانت المسلة ترمز للإله رع” المعبود الشمس الأشهر في مصر القديمة علي الإطلاق, فالمسلة بقمتها الهرمية تمثل ما عرفه المصري القديم بال “بن بن” وهو نقطة الخلق أو التل الأزلي الذي برز من المياه في لحظة الخلق الأولي والتي والذي وقف عليه الإله آتوم-رع نفسه بعدما خلف نفسه بنفسه ومن ثم خلق الموجودات طبقاً لنظرية الخلق في مدينة “أون” القديمة أو هليوبوليس وهي عين شمس والمطرية حالياً.
كان اللفظ المصري القديم للمسلة هو”تِخن”, أما اللفظ الإنجليزي للمسلة Obelisk فقد تم تعميمه في جميع اللغات تقريباً بعد وصف هيرودوت لها وإستخدام ذلك اللفظ, أما في العربية فهي تعرف بإسم “مسلة” وهي لفظ عربي للإبرة, والعجيب في الأمر أن تعريف العربية لتلك الآثار بالإبر قد إنتقل إلى المستشرقين الذين أطلقوا عليها المعادل للفظ بالإنجليزية وهو Needle.
المهندس الذي فتنته المسلة الناقصة
بناء علي نصائح الأطباء يسافر المهندس الإنجليزي “ريجنالد إنجلباخ” إلى مصر لقضاء فترة نقاهة في عام 1910 بعدما إضطر إلى ترك دراسته في الهندسة بسبب مرضه المتكرر وعدم قدرته علي إتمام الدراسة, وقبل أن يمضي عام واحد كان “ريجنالد” قد فْتن بحضارة مصر كما حدث للكثيرين من قبله, ومثل كثيرين أيضاً قرر قضاء أيامه في مصر بل ودراسة الحضارة المصرية , بالفعل يتخصص “إنجلباخ” في علم المصريات ووفي خلال سنة واحدة فقط يستطيع الإلتحاق بالعمل مع عالم الآثار الأسطوري “فلندرز بتري” ويصبح أحد مساعديه ويعمل معه في الحفائر داخل وخارج مصر, وفي عام 1920 يظهر “إنجلباخ” إهتماماً كبيراً بالمسلة الناقصة ويعكف علي دراستها حتي يقدم دراسة مفصلة كاملة عن تلك المسلة وتفسيره لتركها بهذا الشكل, علي أية حال يكمل “إنجلباخ” مسيرته وعطائه لعلم المصريات فيعمل لحساب المتحف المصري ويساهم في وضع سجلاته ويقوم بتسجيل المعروضات حتي يتوفي في النهاية في القاهرة في فبراير 1946.
أسرار المسلة الناقصة
لعد دراسة “إنجلباخ” توفرت العديد من المعلومات حول المسلة بشكل إستطعنا منه إلقاء الضوء علي تلك الطريقة في إقتطاع الحجارة وتشييد مثل تلك المسلات العملاقة, من أغرب الأشياء التي أخبرتنا بها المسلة الناقضة أن المصريون القدماء كانوا يقتطعون المسلات قطعة واحدة من المحجر مباشرة ,أى أنها لم تكن تبني أو يتم إقتطاع أحجارها ثم نحتها في الموقع, بل كات تقطع مباشرة من المحجر ولكن بدون القاعدة التي كانت تقطع بشكل منفصل.
أثار “إنجلباخ” ملاحظة مهمة وهى وجود العديد من احجار الدلوريت (الدياباس), وقد كانت تلك الأحجار علي شكل كرات يتم بها الكشط حول بدن المسلة في طريقة غاية في الصعوبة لتفريغ ما حولها وهو ما يظهر في المحجر نفسه حول بدن المسلة وأسفلها حتي يتبق ما يشبه قاعدة بطول المسلة باكملها يتم تفريغها رويدا رويدا حتي تصبح بسمك قليل للغاية مما يجعل مجرد قلب المسلة علي أحد جوانبها كفيلاً بفصلها تماماً من المحجر.
ولم تكن تقنية إستخدام الأحجار الأصلد لهزيمة أحجار بعينها مثل الدلوريت والجرانيت هي الوحيدة, فقد تمت تجارب علي تقنيات فصل الأحجار في مصر القديمة وبناء علي آثار أخري فإن المصريين قد إعتمدوا أيضاً في إقتطاع الجرانيت علي مناشير يوضع بها سنون من احجار صلدة وكذلك وسيط لتسهيل الإقتطاع مثل الرمال مع وجود إمداد مستمر علي مدار الساعة لشحذ تلك المناشير, كما عرف المصريون أيضاً أسلوب فصل الحجارة عن طريق الحرارة فيتم عمل فراغات في الحجارة يوضع بها بعض المواد البسيطة القابلة للإشتعال ومن ثم يتم أشعال النار فيها حتي تصل لدرجة حرارة عالية ومن ثم يصب عليها الماء في صدمة حرارية لفصل الحجر من مكانه.
وقد ترك المصريون القدماء تلك المسلة في مكانها وذلك لوجود شرخ واضح بها, علي الأرجح حدث أثناء العمل علي فصلها من مكانها فتركها المصريون كما هي وبدأوا في العمل في منطقة أخري وتركوا تلك المسلة كما هي لتقدم لنا كنز من المعلومات في العصر الحديث لم ليكن ليتوفر لولا ذلك الخطأ.
في عام 2005 تم العثور علي قاعدة مسلة في نفس المحجر وكانت غير مكتملة , وهو ما أخبرنا أن المسلات في مصر القديمة كانت تقطع بشكل منفصل وكذلك قاعدتها, أى انها تخرج من المحجر في هيئة قطعتين, بدن وقاعدة.
كيف تعامل المصري القديم مع الأحجار ونقلها؟
وقد ظهر نقل الجلاميد الصخرية هائلة الحجم في مناظر وجداريات من عصور مبكرة في مصر القديمة مثل التي صورت في الطريق الصاعد لمعبد الوادي الخاص بالملك “ونس” من الأسرة الخامسة, والذي إكتشفه عالم المصري الراحل “زكريا غنيم”, وظهرت علي جدران الطريق الصاعدة أعمدة حجرية يتم نقلها علي مراكب مخصصة لهذا الغرض.
وقد كان تطور صناعة السفن في مصر القديمة له دور هائل في تسهيل نقل الأحجار من المحاجر, ولدينا من الوثائق والمكتشفات الأثرية التي تؤكد ذلك , فيروي لنا حجر باليرمو إرسال الملك “سنفرو” أول ملوك الأسرة الرابعة لأسطول سفن إلى “جبيل” في لبنان لجلب خشب الأرز , وقد ظهر بعض تلك الأخشاب بداخل الهرم الأول الذي شيده الملك في “دهشور” والذي عرف بإسم الهرم المنحني, ولكننا لم نعثر علي سفن تعود لعصر الملك سنفرو, إلا أن إبنه وخليفته “”خوفو” قد تم العثور علي سفينتان من الحجم الهائل من خشب الأرز المجلوب من لبنان , والتي أطلق عليها إسم “مراكب الشمس” وقد بلغ طول المركب الأولي التي تم إنتشالها 42 متراً.
مراكب خوفو وسنفرو
ومن هذه المراكب ظهر لنا أن المصريون القدماء قد تقدموا في صناعة المراكب لجميع الأغراض ومن عصور مبكرة , وفي عصر الملك “خوفو” أيضاً خرج لنا أثراً غاية في الأهمية وهي برديات وادي الجرف التي تحكي عن يوميات مشرف يدعي “مرر” عاش في عصر الملك خوفو وعمل في مشروع الهرم الأكبر وكانت مهمته هي نقل احجار الحجر الجيري الأبيض من محاجر البر الشرقي “طرة” إلي موقع بناء الهرم الأكبر, وكانت تلك الأحجار تستخدم في الكسوة الخارجية للهرم, وقد ذكر مرر أنه هو وفريقه كانوا يستخدمون المراكب للذهاب إلى المحجر ومن ثم يقضون عشرة أيام بالمحجر نفسه لقطع الحجارة وتحميلها علي الرماكب والعودة بها لموقع العمل وهي التقنية التي إتبعها المصريون القدماء لآلاف السنين فكانوا يقومون في اغلب الأحيان بالتحجر في الموقع وتشكيل الحجارة مبدئياً ومن ثم نقلها لإستخدامها في موقع العمل مباشرة.
حتشبسوت ونقل المسلات
ومن ثم تكرر ذلك مع مناظر الطريق الصاعد التي عثر عليها “زكريا غنيم” في مجموعة الملك “ونس” الهرمية, ومع مرور آلاف السنين نجد أن تلك التقنية قد ظهرت بشكل مشابه حيث صورت جدران معبد الملكة حتشبسوت المعروف باسم “الدير البحري” , فيظهر أسطول سفن ضخمة الحجم وفي مؤخرتها سفينة محمل عليها مسلة كاملة بقاعدتها, وتلك السفنية مجهزة خصيصاً لنقل المسلات, وهو ما يعني أن المصريون القدماء قد صنعوا سفناً بعينها لهذا الغرض.
تظهر المسلة ترقد علي سطح السفينة أسفل ما يشبه كابينة كبيرة, مربوطة بالحبال ويحطها ما يسندها من الجانبين مثلما نفعل في عمليات الشحن الآن لتأمين الشحنة وضمان وصولها سليمة, ومن ثم بعد الوصول إلى المعبد يتم إستقبالها في الميناء ومن ثم إقامتها في مكانها.
كيف أقام المصريون القدماء المسلات؟
وقد شكلت إقامة المسلات مشكلة كبيرة لدي علماء المصريات في العصور الحديثة فلم يوجد ما يكفي من الأدلة ليخبرنا بالطريقة المصرية القديمة لإقامة المسلات, إلا أن بعض الأدلة مكنت العلماء من تقديم إفتراضات لهذا الأمر, وكان أشهرها هو إحاطة قاعدة المسلة بطريق صاعد من الطوب اللبن من جهة, ومن الجهة الأخر ما يشبه جدار عازل, وقد ظهرت تلك التقنية في العديد من المباني المصرية القديمة وعلى رأسها معبد الكرنك نفسه والذي لا يزال يحوي بقايا من طريق صاعد من الطوب اللبن تركه المصريون القدماء كما هو بعد عدم إكتمال ذلك الجزء.
بعد إحاطة المسلة بذلك العازل,يتم وضع الرمال في المنتصف بينهما لملء ذلك الفراغ لتعمل الرمال لاحقاً كوسيط لوضع المسلة بشكل بطيء دون أن تنكسر,, وبعداه يقوم العمال بسحب المسلة باستخدام الحبال علي الطريق الصاعد حتي تصل إلى الفراغ في المنتصف وتصبح قاعدتها مباشرة فقو الفراغ الموجود في المنتصف.
بعد ذلك تبدأ مرحلة إقامة المسلة حيث يتم ربطها بالحبال وسحبها من الجهلة الأخري للطريق الصاعد كي تستقيم علي قاعدتها مع تفريغ الرمال ببطء حتي تستقر المسلة علي القاعدة وبعدها يتم إزالة الطريق الصاعد – المؤقت- وكذلك الجدار العازل الذي صنع خصيصاُ لإقامة للمسلة.