لا يوجد إنسان علي كوكب الأرض لم يسمع بإسم الملك “توت عنخ آمون”, فمنذ إكتشاف مقبرته في نوفمبر عام 1922 علي يد الآثري البريطاني “هوارد كارتر” حتي أصابت العالم أجمع صرعة الملك “توت عنخ آمون” الذي تم تلقيبه بالملك الذهبي, وقد كانت شهرة الملك “توت عنخ آمون” ليست لإنجازاته أو أعماله أو معابداً شيدها وإنما للكنوز التي لا تقدر بثمن والتي تم العثور عليها في مقبرته وعلي رأسها قناعه الذهبي الذي يزن قرابة 11 كيلوجراماً وأحد توابيته الذهبية الذي يتجاوز 110 كيلوجرام من الذهب الخالص, وليست الكنوز فحسب هي ما جذبت العالم وإنما أسطورة اللعة المزعومة التي إرتبطت بالكشف والتي أطلق عليها “لعنة الفراعنة”.
ولربما يظن البعض أن إكتشاف المقبرة قد تم بنتهي السلاسة والسهولة, ولكن علي العكس فإن لإكتشاف مقبرة توت قصة مثيرة سنتعرف علي فصولها في هذا المقال.
من هو هوارد كارتر؟
ولد كارتر في التاسع من مايو عام 1874 في “كينزنجتون” بالقرب من لندن وكان والده “صامويل جوج كارتر” رساماً قام بتعليم “هوارد” – أص
غر أبنائه- فنون الرسم وساعده عل صقل موهبته التي بدأت مبكراً ليخرج لوحات رائعة في سن صغيرة.
السفر إلى مصر
وفي سن السابعة عشر إلتقى ببارونة أمهرست “ماري سيسل” والتي كانت عائلتها علي علاقة صداقة بعالم الآثار “بيرسي نيوبيري” والذي كان يعمل في “بني حسن” بالمنيا وقتها, وساعدت هوارد الشاب علي الإلتحاق بالبعثة هناك ليعمل رساما لدي “نيوبيري”,يصل هوارد إلى مصر ويتسلم عمله في عام 1892.
ظهرت مهارة كارتر جلية في توثيق عمل البعثات بالرسم, وإستطاع نقل العديد من الجداريات في لوحاته وتتلمذ هناك علي يد عالم الآثار الأيقوني “فلندرز بتري” والذي عمل لديه في مدينة “تل العمارنة”, ومن ثم إنتقل للعمل أربع سنوات ما بين 1894-1899 بصحبة ” إدوارد نافيل” في الدير البحري وساعده علي توثيق ورسم جداريات معبد حتشبسوت.
وعلي الرغم من نجاح كارتر في مهامه إلا أنه لم يكن يجيد العمل الأثري بإحتراف مما جعله يترك العمل في البعثات, وعلي الرغم من تلك الإنتكاسة إلا أن القدر كان يخبيء لكارتر العديد من المفاجآت المستقبلية.
كارتر مفتش آثار
بعد ترك كارتر العمل لدي “نافيل” واتته الفرصة ليحصل علي منصب رسمي في مصلحة الآثار المصرية وتم تعيينه “مفتشاً لآثار مصر العليا” في عام 1899, وهناك تعرف “كارتر” علي أعمال الحفائر في وادي الملوك لآول مرة ورأي عن قرب أعمال حفائر عالم الآثار الأميركي “ثيودور ديفيس”, وفي ذلك الوقت كانت أعمال الحفائر على أوجها في الوادي وبدا للكثيرين أن الوادي لن يجود بمقابر أخري لأنه لم يوجد حجراً إلا وقلبه علماء الآثار وقتها, وكانت الحقيقة الأكثر وضوحاً ان لصوص المقابر قد توصلوا للمقابر الملكية منذ زمن طويل ونهبوها جميعاً.
إستمر تنقل كارتر ما بين المواقع الأقرية عدة أعوام حتي حل العام 1905 والذي قدم فيه كارتر إستقالته من مصلحة الآثار, وقد كانت تلك الإستقالة نتيجة مباشرة للصراع الإنجليزي-الفرنسي علي أعمال الحفائر والسيطرة علي مجال الآثار المصرية, ففي سقارة إشتبك كارتر مع مجموعة من السائحين الفرنسيين ورفض الإعتذار لهم علي الرغم من مطالبة السلطات الفرنسية وقتها له الإعتذار, ومن قم عاد “كارتر” مرة اخري إلى الأقصر ولكن هذه المرة بلا عمل وإن إستمر في العمل كرسام هاوي يبيع لوحاته لمن يرغب فيها.
ثيودور ديفيس وإكتشاف مقبرة توت عنخ آمون؟
في موسم الشتاء من عام 1906 اكتشف عالم الآثار الأميركي “ثيودور ديفيس” في أحد المخابيء الصخرية في وادي الملوك إناء من الفخار مطلي بالأزرق يحمل إسم الملك “توت عنخ آمون” وفي العام الذي تلاه عثر علي بئر يبلغ عمقه 7 أمتار- شمال مقبرة “حورمحب” والتي سيكتشفها لاحقاً ويعطيها رقم 57- وكان البئر مردوماً بالكامل وما أن تم تنظيفه تم العثور بداخله علي صندوق مهشم من الخشب مطلب بالذهب وعليه يظهر الملك توت عنخ آمون وزوجته عنخ سن آمون ومعهما الملك آى, وبعد بضعة أيام فقط إستطاع علي العثور علي عدد من الأواني الفخارية كان بعضها مختوماً بختم الملك “توت” وأحدهما عليه تاريخ العام السادس من حكم نفس الملك وقد كانت تلك الدفنة تحتوي علي أكياس وأقمشة كتانية من بقاياً عمليات التحنيط والتكفين,.
وقد إقتنع ديفيس وقتها أنه قد عثر علي قبر الملك “توت” وكان مقتنعاً أن واحداً من المقبرتين 54 أو 57 كانت تخص الملك “توت” وتم نهبها عن آخرها, وفي الفترة ما بين 1903 و 1909 إكتشف ديفيز سبعة مقابر عليها نقوش وتسع أخريات تخلو من أى كتابات ومع نهاية حفائره في وادي الملوك ختم ديفيس تقريره عن حفائره قائلاً :أخشي أن يكون وادي الملوك قد تم إستنفاذه الآن.
I Fear that the valley of the kings is now exhausted
أين دفن الملك توت عنخ آمون؟
علي الرغم من تقارير “ديفيس” وإعلانه عن الكشف عن مقبرة “توت” بل والكشف عن جميع مقابر وادي الملوك تقريباً إلا أن هذا الرأي كان له تفسيراً من عالم الآثار الفرنسي الأيقوني “جاستون ماسبيرو” والذي ذكر أن الملك توت لربما دفن في الجهة الغربية من وادي الملوك ومن ثم تم نهب تلك المقبرة لاحقاً, وبعدها قام بعض المخلصين للملك وأرسته بإعادة دفن ما تبقي في تلك المخابيء التي كشف عنها “ديفيس”.
ووقتها بات الإتجاه العام موافقاً علي ذلك , أو حتي إتفقوا علي أقل تقدير أن ما عثر عليه ديفيس لا بد أن تكون دفنات ترجع لنهاية الأسرة الثامنة عشر ونهاية عصر توت عنخ آمون, ومما دعم تلك الفرضية عثور “ديفيس” نفسه علي المقبرة رقم 55 والتي كان بها العديد من المقتنيات التي تعود لعصر العمارنة وعائلة الملك توت.
كارنارفون يلتقي كارتر
لم يكن لورد كارنرفون من علماء الآثار المصرية وأتي إلى وادي النيل في عام 1902 بناء علي تعليمات طبيبه الذي نصحه بالإستجمام في مكان جاف, ومع إقامته بمصر نجد أن كارنرفون قد كون صداقة مع لورد كرومر الذي نصحه بالإستثماؤ في الأبحاث الأثرية, ومن هنا بدأت قصة “كارنرفون” مع وادي الملوك.
مع نصيحة “كرومر” قام كارنرفون بالتواصل مع جاستون ماسبيرو والذي كان رئيس مصلحة الآثار وقتها وطلب منه منحه تصريحاً بالتنقيب في الوادي, لم يمنحه ماسبيرو التصريح فحسب وإنما قام بتعريفه علي “هوارد كارتر” والذي وجد فيه “كارنرفون” ضالته لتحقيق إستثماراته وأعماله المستقبلية.
ولربما يستغرب القاريء من لفظة إستثمار المذكورة , وذلك لأن في ذلك الزمن كانت الحفائر الاثرية عبارة عن إستثمار يموله كبار الأثرياء طمعاً في الحصول علي قسمة من المقتنيات التي سيعثرون عليها حيث كان القانون المصري وقتها يسمح بذلك, وبالتالي مع بيع تلك المقتنيات سيعود ذلك الإستثمار أضعافاً مضاعفه لمموليه.
الكوبرا تطارد كارتر
علي الفور بدأ كارتر وكارنارفون مموله عملهما في غرب طيبة في الفترة من 1908 إلى 1912, وقد قام كارتر بنشر أبحاثه في عام 1912 تحت عنوان “خمس سنوات من البحث في طيبة” , ومن أبرز إكتشافات كارتر في تلك الفترة هو ما سمي بلوحة كارنارفون والتي تحكي عن الإنتصارات وبعض أحداث عصر الملك “كامس” وحروبه ضد الهكسوس, ومع إزدحام طيبة بالمنقبين وسيطرة كثيرين وعلي رأسهم ديفيس علي وادي الملوك قرر كارتر وكارنرفون نقل أعمالهما إلى الدلتا وتوجهوا إلى مدينة “سايس” – صا الحجر حالياً- ولكن وبعد وقت قصير توقفت أعمال الحفائر هناك بسبب حرارة الجو وهجوم عدد كبير من ثعابين الكوبرا علي منطقة الحفائر مما جعل كارتر يهجرها هو الىخر ويعود لطيبة لتجربه حظه مرة أخري, وقد ساعدته الظروف وقتها إنتهاء أعمال ديفيس وإعلانه عن خلو وادي الملوك من أى مقابر أخري لتكتشف, وفي تلك الفترة عاد “كارنرفون” إلى إنجلترا مرة أخري وحالت الحرب العالمية الأولي بينه وبين العودة إلى مصر, ولربما كانت مطاردة الكوبرا حظ سعيد لكارتر لانه أعادته إلى طيبة في أفضل ظروف ممكنة ليقوم بأعظم الكشوف الأثرية علي الإطلاق.
البحث عن توت عنخ آمون
علي الرغم من إكتشافات “ديفيس” وتفسير “ماسبيرو” إلا أن كارتر كانت لديه قناعة أن الملك “توت” لا يزال بالوادي , بل أنه موجود قريباً جداً من أماكن حفائر ديفيس, وقد قام كارتر باعامال حفائر منهجية في الفترة ما بين 1919 و 1921 وقد أسفرت أعماله عن كشف مقبرة الملك “أمنحتب الأول” ولكنه كان منهوباً عن آخره, أتبعه بكشف المقبرة التي كانت مخصصة للملكة حتشبسوت قبل أن تتولي عرش مصر, وعلي الرغم من أن تلك الكشوفات كانت مبشرة بالخير إلا أنها لم تكن كافية لإشباع رغبة كارتر في إثبات ذاته وكذلك طمع كارنرفون في زيادة ثروته.
إتجه “كارتر” بعد ذلك إلى التركيز علي القطاع الواقع ما بين مقابر “مرنبتاح” ,”رمسيس الثالث” و”رمسيس السادس”, ووقتها لم يبقي علي إنتهاء تصريح الحفر إلا أسابيع قليلة, ومما زاد الأمر تعقيداً أن لورد كارنرفون وقتها قد أصابه الملل وظل يتساءل إن كان من الحكمة الإستمرار في عملية التمويل أم لا.
العثور علي المقبرة
إلا أن ذلك كله إنتهي في الرابع من نوفمبر عام 1922, وبينما بعثة كارتر يقومون بتنظيف آخر ركن مغطي بالأنقاش تحت مدخل مقبرة الملك “رمسيس السادس” حتي بدا صخر الوادي واضحاً, ومن ثام قاموا بإزالة مساكن بعض العمال كان قد تم إقامتها في عصر الأسرة العشرون كانت أسفل مدخل المقبرة حتي تم العثور علي درجة من الصخر كانت بداية درجات عديدة إنتهت بجدار من الحجر مطلياً بالملاط وعليه ختم الجبانة الملكية.
صدقت ظنون كارتر الذي لم يشك للحظة أن الملك توت لا يزال مدفوناً بالوادي, وعلي الرغم من نهب جميع مقابر وادي الملوك عن بكرة أبيها إلا أن مقبرة توت قد إختفت عن أعين اللصوص ومن ثم نساها حتي العارفون بالوادي وذلك لأن مقبرة الملك توت كانت تقع أسفل مقبرة الملك رمسيس السادس وعلي ما يبدو أن مشيدي مقبرة رمسيس السادس لم يكونوا علي علم بوجود مقبرة الملك توت, فنجد أن مساكن للعمال قد تم تشييدها في تلك المنطقة من الوادي وهي التي أزالها كارتر.
ومع المضي قدماً في الكشف يجد “كارتر” إسم “نب خبرو رع” وهو لقب تتويج الملك “توت” مدوناً علي الحائط الأخير الذي كان يفصل الدفنة عن العالم الخارجي, وهنا بدأ كارتر في الإستعداد لفتح المقبرة بشكل رسمي, وفي السادس من نوفمبر أبرق إلى “لورد كارنرفون” يطلب منه المجيء فوراً إلى طيبة ووقتها كان اللورد منهمكاً في الصيد بضيعته في “هايكلير” ليبرق بعدها إلى “كارتر” يبلغه بوصوله إلى الإسكندرية في اعشرين من نوفمبر ويصل بعدها إلى الأقصر في الثالث والعشرين برفقة إبنته ” إيفلين هربرت”, وكان ذلك اليوم الذي وصفه كارتر في مذكراته بأنه أروع أيام حياته علي الإطلاق, ومع الكشف عن المقبرة تكللت جهود كارتر بالنجاح ليحفر إسمه في تاريخ علم الآثار إلى الأبد.