اصطف الحرس الجمهوري الفرنسي في مطار “لو بورجييه” في 26 سبتمبر عام 1976 لأداء مراسم استقبال مومياء رمسيس الثاني في مطار لو بورجييه بالعاصمة الفرنسية باريس في مشهد لم ينساه العالم حتى يومنا هذا.
في ذلك اليوم أدت فرنسا المراسم لرمسيس الثانى باعتباره ملكا واستقبلوه فور وصوله للأراضى الفرنسية استقبال الملوك والروؤساء في زيارة استثنائية قام بها ذلك الملك العظيم بعد آلاف الأعوام من وفاته.
لماذا سافر رمسيس الثاني إلى باريس؟
مع حلول عام 1974 وبعد انتصار السادس من أكتوبر في العام الذي سبقه كانت مصر تشهد وضعًا استثنائيًا وبداية عهد جديد مع الرئيس الراحل محمد أنور السادات، تعالت الأصوات وقتها أن المومياوات الملكية الموجودة بالمتحف المصري حالتها تتدهور بسبب سوء الحفظ في متحف القاهرة، خاصة مومياء رمسيس التي هاجمتها الفطريات بلا رحمة حتى كادت تفنيها.
مع زيارة الرئيس الفرنسى جيسكار ديستان للأراضي المصرية في عام 1975 قدم عرضا على الرئيس المصري الراحل بسفر مومياء رمسيس الثاني للعلاج في باريس وهو الاقتراح الذي لم يلقَ قبولا في الأوساط المصرية ولم يتقبله الرئيس الراحل في البداية إلا أنه لم يلبث أن وافق مع زيارته هو و”ديستان” لمدينة “بورسعيد” مع تعهد الجانب الفرنسي بـ أمرين في غاية الأهمية.
الأول: استقبال مومياء رمسيس الثاني استقبالا رسميًا مثلما يحدث مع الملوك والرؤساء.
والثاني: عدم إلحاق أي ضرر بالمومياء مع عمليات الفحص والعلاج.
وبالفعل في 26 سبتمبر 1976 سافر رمسيس إلى باريس بصحبة موظفين من مصلحة الآثار المصرية وقتها، وتم تشكيل فريق فرنسى على أعلى مستوى لعلاجه.
كان يرأس الفريق الفرنسى أمنية متحف اللوفر وقتها كريستيان نوبلكور ومعها د. ليونيل بالو مدير متحف الإنسان، اللذان كوّنا فريقا تعدى عدد أفراده 100 فرد من المتخصصين في جميع المجالات المتعلقة بفحص وعلاج المومياء.
لفتة تكريم
مع وصول رمسيس إلى باريس، ذكرت نوبلكور مرارًا وتكرارًا في كتبها ولقائاتها التلفزيونية، أن الموكب كان يدور حول ميدان كونكورد في العاصمة الفرنسية ليتمكن رمسيس من زيارة المسلة الموجودة بالميدان، وهي المسلة التي كانت موجودة بمدخل معبد الأقصر يومًا ما حتى أهداها محمد علي إلى فرنسا في غفلة من الزمان، ومع هذه اللفتة رأى رمسيس أثره الذي شيده قبله بـ 2000 عام في لفتة عرفان بالجميل من نوبلكور لرمسيس التي كانت تعشقه وتعشق تاريخه بجنون.
آلام رمسيس
مع الفحص الشامل الذي أجراه الفريق للمومياء تبين لهم العديد من الحقائق المتعلقة بالمومياء، سن رمسيس وقت وفاته يتراوح ما بين آخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات وهو ما يتطابق مع المصادر المصرية القديمة التي قدرت عمره بـ 92 عاما وقت وفاته وأعطت له فترة حكم مدتها 67 سنة.
الملك كان مصابًا بتصلب المفاصل وانسداد الشرايين بشكل متدهور يحتم استحالة حركته لمدة آخر 10 سنين من حياته على الأقل، كما يبدو أن سبب الوفاة هو عدوى متدهورة بالأسنان أصابته بخراريج في فمه بل أن عظام الفك نفسها يبدو أنها تأثرت بالعدوى هي الأخرى ما اعتبره العلماء في فرنسا إصابة قاتلة أدت للوفاة بدون تأكيدات حاسمة بالطبع ولكنه السبب المحتمل الأكبر.
سبب العدوى التي أصابت المومياء هي فطريات استطاع متدرب من أصول مصرية بمتحف الإنسان تحديدها، لينقذ أحد الأحفاد المصريين جده القديم.
توصل الفريق الفرنسي إلى أن أمثل أسلوب لعلاج المومياء هو أشعة جاما التي أثبتت فاعليتها من قبل في عينات أخرى، ليتم بالفعل تعريض المومياء لهذا الأسلوب العلاجي الذي نجح بالفعل في إيقاف العدوى الفطرية.
وبعد رحلة دامت 6 شهور خارج أراضي الوطن، غادر رمسيس باريس مرة أخرى متجها إلى أرض الوطن لمرة أخيرة ولتقرر الحكومة المصرية بعدها عدم سفر أي مومياء مصرية بالخارج مرة أخرى وأن أي دراسة مستقبلية ستتم بداخل أرض مصر وبأيدي مصرية.
هذه الأحداث تم تدوينها في العديد من المراجع العلمية والتغطية التلفزيونية حتى أصبحت واحدة من أشهر أحداث تاريخ باريس على الإطلاق ولكن بداخل أرض مصر ظهرت مشكلة أخرى، فتلك الراوية لا يعلم عنها أحد تقريبا وهناك رواية أخرى مكذوبة لما حدث، والأهم من ذلك أنها تلقى انتشارا واسعا جعل مصداقيتها تقترب من القداسة.
رمسيس والطبيب الفرنسي
في عام 1974 يظهر على الساحة طبيب فرنسي يدعى موريس بوكاي – والذي لم يحمل أي صفة علمية أو أكاديمية باستثناء كونه طبيب باطنة – فحص بعض المومياوات الملكية داخل المتحف المصري بتصريح من الرئيس السادات شخصيا وانتهت تلك الفحوصات بنشره كتاب عام 1976 تم ترجمته بعنوان “القرآن والتوراة والإنجيل والعلم”.
وفيه يذكر أن تحديد هوية فرعون موسى لن تكون سوى بأدلة علمية طبية بعد فحص المومياوات تقدم أدلة تتطابق مع العهد القديم والقرآن الكريم فيما يخص قصى موسى وخروج اليهود من أرض مصر، وبالفعل وضع الملك “مرنبتاح” ابن “رمسيس الثاني” في قفص الاتهام مسبقا ثم حاول إثبات أنه هو فرعون الذي واجه النبي موسى عليه السلام عن طريق افتراضات نظرية يقول إنه سيحسمها بأدلة طبية علمية لا تقبل الشك.
العجيب فى الأمر أن “بوكاى” ختم كتابه بأن نتيجة أبحاثه العلمية على المومياوات لم تصدر بعد حتى صدور كتابه فلم يرفق أي دليل طبي واحد على افتراضه، وحقيقة الأمر أن الرجل أصابته خيبة الأمل لأنه بالفعل لم يجد دليلا في النهاية يمكن أن يدعم فرضيته فخرج الكتاب بهذا الشكل الذي انتقده هو في البداية، وذكر مرارا وتكرارًا أن كل النظريات التي حددت هوية فرعون موسى ينقصها دليلا علميا ففعل مثلهم في النهاية ولم يقدم شيئا.
على الرغم من أن “بوكاي” لم يكن ضمن الفريق الفرنسى الذى عالج مومياء رمسيس في باريس، وأن طلبه للانضمام للفريق رُفِض، بل أنه لم يسمح له بزيارة المومياء ولا استقبالها ولا وداعها ولا حتى لمسها ـو مجرد الحضور لرؤيتها طوال تواجد رمسيس في باريس، إلا أنه ظهرت في مصر رواية شعبية تم تأليفها بالكامل تقول إن المومياوات الملكية المصرية كانت جميعها حالتها متدهورة وتحتاج جميعها للعلاج فورا وتم توزيع المومياوات على دول العالم لتعالجها فجاءت مومياء “رمسيس” من نصيب فرنسا، وبينما كبير الأطباء الشرعيين الفرنسيين والذي يدعى موريس بوكاي يفحص المومياء فإذا به يجد ملح في حلق المومياء فيصرخ قائلا: “هذا الرجل مات غرقا”، ليفاجئه المصريون الموجودين حوله بالرد: “نحن نعلم ذلك، لأن هذا هو فرعون الذي أخبرنا عنه القرآن!”، ومن ثمّ طبقا لتلك الرواية يصاب ذلك الطبيب بالدهشة وينغمس في رحلة طويلة لدراسة القرآن الكريم تنتهى بإسلامه بسبب ما رأى من تطابق الاكتشافات العلمية مع آيات القرآن!
وعلى الرغم من عدم ذكر ذلك في أي مصدر علمي أو تاريخي، أو حتى في كتب “بوكاي” نفسه ما يقترب من تلك الرواية، وعلى الرغم من عدم وجود أي مادة مرئية، أو مسموعة، او مقروءة يذكر فيها “بوكاي” أنه أسلم وهو ما لم يحدث بالفعل حتى توفي “بوكاي” عام 1998، إلا أن تلك الرواية المكذوبة بالكامل أصبحت هي الأكثر شعبية بداخل أرض الوطن، والأغرب من ذلك أن تلك الرواية يتم تداولها على نطاق أوسع سواء بإضافات أجزاء إضافية مشوقة لها لجعلها أكثر جذبا لمسامع الناس، لينتهي الأمر أن تكون نتيجة الزيارة هي خرافة شعبية تنضم إلى مثيلاتها من المغالطات والخرافات المتعلقة بتاريخ مصر القديم دوما بداخل أرض مصر وحتى خارجها.