كيف تعمل عقول العباقرة؟ كيف تنتج أذهان النابغين كلّ هذه الأفكار؟ ما القاسم المشترك بين طريقة التفكير التي أنتجت لوحة الموناليزا وطريقة التفكير التي أفرزت النظرية النسبية؟ ما الذي يمكن أن نتعمله من خصائص إستراتيجيات تفكير أينشتاين ودافينشي وبيكاسو وداورين وبيتهوفن ومايكل أنجلو وجاليليو وفرويد وموتسارت؟
إذا كانت لديك النية لتصبح أكثر إبداعًا في عملك وفي حياتك الشخصية، في هذا المقال نستعرض 9 إستراتيجيات تعلّمك كيف تصبح مفكرًا مبدعًا، مع توضيح لكيفية تطبيقها كي تصبح أكثر إبداعًا على مستوى التفكير الشخصي وعلى المستوى العملي والمهني.
تكمن أهمية هذه الإستراتيجيات في أنها توضّح لك كيف يولّد العباقرة مجموعة متنوّعة وثريّة من الرؤى والتصورات الحدسية من خلال تمثيل مشكلتهم بطرق كثيرة متباينة، متضمّنة مجموعةً من المبادئ السرمدية القوية حول كيفية إنتاج كمية من الأفكار عبر تنويعات جديدة. إليك هذه الإستراتيجيات التسع:
1- أن تعرف كيف ترى
غالبًا ما تأتي العبقرية عبر إيجاد منظور جديد لم يسبق لأحد اعتناقه من قبل. اشتهر ليوناردو دافنشي بأنه كان يعيد هيكلة أي مشكلة تعترضه من خلال النظر إليها من منظورٍ ما ثم الانتقال إلى منظور ثانٍ ثم ثالث وهكذا. ومع كل منظور كينتقل إليه كان فهمه يزداد تعمقًا باتجاه جوهر المشكلة.
العباقرة لا يقتربون من المشكلات بالطريقة الاستعادية التكرارية (أي لا يعيدون تكرار تفس الطرق التي سبق لهم تجربتها)؛ فهذا من شأنه أن يضلّل الشخص المبدع المفكّر، ولكي يتم حل المشكلة بطريقة إبداعية يحب على المفكّر/ المبدع أن ينبذ المدخل أو المنهج المبدئي النابع من الخبرة السابقة المجرّبة، ويعيد تصوّر المشكلة من جديد.
2- أعطِ تفكيركَ شكلاً مرئيًا.
في عصر النهضة الأوروبي، ارتبط تفجّر الإبداع بتسجيل ونقل كمّ هائل من العلوم والمعارف بواسطة لغة موازية، هذه اللغة الموازية كانت لغة الصور والرسوم البيانية والتخطيطية. كمثال: الثورة التي أحدثها جاليليو من خلال إعطاء تفكيره شكلاً مرئيًا ومنظورًا عن طريق الرسوم والخرائط والأشكال البيانية. وكان أينتاين يتمتع بعقل بصري جدًا، فكان يفكّر من منظور الأشكال البصرية والمكانية، وليس من منظور التفكير الرياضي أو اللفظي.
عندما تكتسب حدًا أدنى في مهارة لفظية معيّنة، فإنه يتسنى لك معها اكتساب قدرات بصرية ومكانية تمنحك المرونة اللازمة لعرض المعلومات بطرق وأساليب مختلفة.
3- فكّر بسلاسة وطلاقة.
الإنتاجية الغزيرة الهائلة واحدة من أهم الخصائص المميّزة للعبقرية. العلماء والمبدعون الأكثر تمتعًا بالاحترام وجدارةً بالتقدير، لم يكونوا كذلك لأنهم أنتجوا فقط أعمالاً عظيمة، بل لأنهم أنتجوا أيضًا الكثير جدًا من الأعمال الرديئة، ومن بين هذا الكم الغزير الهائل لأعمالهم جاءت الجودة الرفيعة.
أنتج توماس إديسون عددًا قياسيًا من براءات الاختراع بلغ 1.93 براءة اختراع. أنتج الموسيقار موتسارت أكثر من 600 قطعة موسيقية. نشر أينشتاين قرابة 250 ورقة علمية، كانت النسبية مجرّد واحدة منها.
4- اِصنع توليفات مبتكرة.
اسمح لأفكارك وخواطرك وصورك الذهنية بالامتزاج ببعضها بعضًا بصورة عشوائية، ومن بين هذه التوليفات الكثيرة انتقِ التوليفات الأروع واحتفظ بها.
يسمّي أينشتاين أسلوبه في التفكير بـ”اللعب الامتزاجي”، ويؤكّد دين كيث سيمونتون في كتابه “العبقرية العلمية أنّ سبب عبقرية العباقرة أنهم يكوّنون توليفات مبتكرة، أكثر من الأشخاص الموهوبين فقط.
5- أوجد صلات بين ما ليس متصلاً.
يتميز العباقرة المبدعون بقدرتهم على “وصل ما لا يكون متصلاً”، وإنشاء تجاورات يستعصي على سائر البشر فهمها وإدراك مغزاها، ويتمّ هذا من خلال إيجاد علاقات تمكّنهم من رؤية أشياء لا يستطيع الآخرون رؤيتها.
توصّل دافينشي إلى الطبيعة الموجية للصوت عبر الربط بين صوت الجرس وصوت اصطدام حجر بالماء، وتوصّل كيكول إلى تصميم شكل جزيء البنزين الحلقي من خلال إيجاد علاقة بحلم لثعبان يعض ذيله.
6- اُنظر إلى الجانب الآخر.
من الخلاصات التي نقلها لنا الفيلسوف ديفيد بوم، أنّ قدرة العباقرة على التفكير في أفكار وخواطر مختلفة، ترجع بالأساس إلى قدرةٍ أصيلةٍ لديهم على تقبّل التناقض أو التضارب بين موضوعات متعارضة أو غير متوافقة.
أيضًا، كان نيلز بور يعتقد أن الإنسان إذا جمع اعتقادًا في رأيٍ ما مع نقيضٍ له معًا، فإنه يوقف التفكير المؤقت، وينتقل عقله إلى مستوىً جديدٍ، وهو ما يفسح المجال لوجود ذكاءٍ يتجاوز الفكر القائم ليخلق شكلاً جديدًا.
توافرت هذه القدرة على النظر إلى الجانب الآخر، في نخبة من العباقرة والنابغين، مثل: أينشتاين ومتسارت وأديسون ولويس باستير وبيكاسو.
7- انظر داخل العوامل الأخرى.
اعتقد أرسطو أنّ الفرد الذي يمتلك القدرة على إدراك أوجه التشابه بين ناحيتين منفصلتين في الوجود، هو شخص يتمتع بمواهب خاصة. ذلك أن الأشياء غير المتشابهة تشترك في بعض النواحي، فربّما تكون مشتركةً أيضًا في نواحي أخرى.
اخترع توماس أديسون الفونوجراف في يومٍ واحد، بعد أن عقد مقارنة بين قمع لعبة وحراكت إنسان ورقيّ وذبذبات الصوت. أيضًا، أمكن تنفيذ إنشاءات تحت الماء بإنشاء أنابيب أولاً، بناءً على ملاحظة الطريقة التي تحفر بها دودة السفن أنفاقًا في الخشب.
8- تعلّم كيف تعثر على مالا تبحث عنه.
العباقرة النابغون لا يقعدون في انتظار قدوم الصدفة، بل يسعون بدأبٍ ويقظة وراء الاكتشاف التصادفي. من المبادئ التي أرساها سكينر في المنهجية العلمية: إذا وجدتَ شيئًا مثيرًا للاهتمام، دع كلّ شيءٍ آخر وادرسه. ومن المهم هنا أن تنتبه لئلا تتورّط في الفخّ مثل الذين يخفقون في الاستجابة للفرصة عندما تطرق بابهم لأنهم يكونون ملتزمين بخطةٍ مسبقة.
عندما تفشل في إنجاز أمرٍ، لا تسارع إلى التفكير في شيء آخر، أو تسأل السؤال المعتاد: لماذا فشلت؟ الأفضل أن تتبع مبدأ المصادفة الإبداعية التي تثير سؤالاً مختلفًا: ماذا فعلت؟
وإجابة هذا السؤال بطريقة جديدة وغير متوقعة، هو عمل إبداعي أساسي لا يعتمد على الحظ أو المصادفة بقدر ما يعتمد على نفاذ البصيرة الإبداعية بالدرجة الأولى.
احصُل على أفكار إبداعية جديدة ومبتكرة من خلال إدراح عنصر الصدفة أو العشوائية في العملية الإبداعية بهدف زعزعة أنماط تفكيرك المعتادة او القائمة، وإعادة تنظيم أفكارك بطرق وأساليب جديدة.
9- أيقظ روح التعاون.
رغم أنه من الصعب أن يجتمع أفراد مجموعة أو فريق ما، في مناخ يسمح بنمو التفكير من خلال التعاون المفتوح والصادق، إلا أن التجربة البشرية (العملية والمهنية) وفّرت عوامل مهمة لإنجاح هذا المسار. وذلك عبر تنفيذ هذا الأمر بحرصٍ ودقّة وحرفية تسمح للمشاركين بالاحتفاظ بفرديتهم في الوقت الذي تتمازج وتتضافر فيه جهودهم ومواهبهم ومهاراتهم وأدواتهم في إطار جماعي، وفق طرق وأساليب ذات أهمية حيوية.
أخيرًا، يكمن سرّ عبقرية المبدعين في أنهم يعرفون (كيف) يفكّرون، وليس (فيم) يفكّرون. فإذا كانت لديك النية لتصبح أكثر إبداعًا في عملك وفي حياتك الشخصية، لتطبّق هذه الاستراتيجيات، فإنك ستصبح أكثر إبداعًا. ربما لا تصبح دافينشي جديدًا أو تكون أينشتاين آخر، لكنك حتمًا ستصبح أكثر إبداعًا من غيرك ممن لا تتوافر لديهم النية أو المعرفة. وكما يضيف ميشال ميكالكو “لا توجد طريقة لمعرفة إلى أي مدىً يمكن أن تأخذك هذه الأشياء، فنحن نعيش في عالم لا يقدّم أية ضمانات، بل فرصًا فقط”.
المصادر
– كيف تكون مفكرًا مبدعًا: أسرار العبقرية الإبداعية، ميشال ميكالكو، ترجمة: علا أحمد صالح، 2011م.