ونستون تشرشل يعتبره الإنجليز القائد البريطانيّ الأعظم على مرّ العصور، وأسطورةً حيّة يندر أن يوجد لها مثيلٌ في العصر الحديث. فالرجل سليل أسرة لندنية عريقة من القادة السياسيين والعسكريين، وحارب في جبهات بريطانية عديدة وفي المستعمرات المختلفة، وذاعت شهرته كأشهر مراسلٍ حربيّ بريطاني من قلب المعارك، وأسِر وهرب من الأسر، وعاد إلى بلده منتصرًا بلا خدشٍ واحد.
ريادية ونستون تشرشل في السياسة
بعد عودة ونستون تشرشل من الأسر، سُجّلت باسمه عددٌ من المحطات الريادية التي لا زالت تحتسب له، فقد انتُخِب وهو في السادسة والعشرين كأصغر برلمانيٍ في عصره، وترقّي في المناصب الوزارية، وعلى مدى سنواته التالية أسّس جهاز استخبارات داخلية، وسلاح الجويّة الملكية، وطوّر سلاح البحرية، وسلاح المدرّعات بالكامل، وبعد خروجه من الوزارة قاد بنفسِه فرقة المشاة الأسكتلندية.
بعد عودة تشرشل إلى الوزارة مجدّدًا، كان أوّل بريطاني على الإطلاق يحذّر من الخطر النازي القادم، ليتولّى رئاسة الوزراء بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية بفترة وجيزة، ويردّ على القصف الألماني لجنوب بريطانيا بقصف مماثل على ضواحي برلين، ليكون أوّل من يضرب هتلر في عقر داره، ثم صار تشرشل أوّل مَن تتغلّب قوّاته الجويّة على سلاح الجوّ النازيّ، ويقود الأمّة البريطانية عبر سنوات الحرب العصيبة، من الصمود في وجه آلة الحرب النازيّة الرّهيبة، إلى نصرٍ مضمّح بالدموع والعرق والدّماء، وليحصل على جائزة نوبل في الآداب بعدها بسنوات.
تستقرّ صورة تشرشل في الأذهان، حسبما يؤكّد هيج مارتن في كتابه “ونستون تشرشل: حياته، سياسته، ومعاركه”، باعتباره سياسيًا داهيةً ومحارِبًا جاهزًا، وخطيبًا عاتي البلاغة، ورسّامًا رائعًا، وأديبًا متمكّنا.
حتى في قراراته السياسية الحاسِمة الصادمة، كان لا يتردّد فيها إذا استلزم الأمر، مهما بدا فيها من وحشية أو من تجاوز للخطوط الحمراء، كما في قراره بإحراق بناية يتترّس بها معارضون بريطانيون في لندن، في يناير 1911م، وكان وزيرًا للداخلية حينها، وكما في تأييده – حين كان وزيرًا للطيران- لاستخدام الغاز السام ضدّ متمرّدي المستعمرات، وكما فعل في موقفه ضد انتفاضة الماو في كينيا ضدّ الاستعمار البريطانيّ، حين كان رئيسًا للوزراء.
ونستون تشرشل في الشرق الأوسط
من المراحل المهمة في سيرة ونستون تشرشل، تلك المرحلة المرتبطة بالفترات التي قضاها في الشرق الأوسط، حيث حفلت بالمواقف المهمّة والفارقة في تكوين تشرشل، محاربًا أو مراسِلاً عسكريًا، أو حتى رئيسًا للوزراء فيما بعد وقائدًا أعلى للقوات البريطانية في الشرق الأوسط.
من هذه المواقف ما هو سياسيّ يقتضي التصنّع في المعامَلة، كما في المواقف المتكرّرة التي أوردتها “مذكرات اللورد كيلرن 1934 – 1946” إبّان عمله في مصر في عهد الملك فاروق. مِن هذه المواقف مثلاً، ما جرى أغسطس 1942م، حين التقى تشرشل بالملك فاروق لقاءً مبشّرًا، وخرج عنه بانطباع نقله عنه اللورد كيلرن “إن هذا الغلام – يقصد الملك فاروق- شخصية تافهة وغير محترم”، ولابدّ من اتخاذ خطوة معه.
وبالفعل، في يناير 1943م، مرّ تشرشل بالقاهرة عائدًا من الدار البيضاء، متنكرًا تحت اسم الكومودور فرانكلاند، يرافقه وفد بريطاني رفيع المستوى، والتقى الملك فاروق مرّتين، مرة في القصر ومرة في مقرّ القنصلية، وتعامَل تشرشل مع الملك فاروق بأريحية وتواضع واضِحين، قاطعًا عليه كلّ آماله في ضمّ السودان وجغبوب إلى السيادة المصرية بعد انتهاء الحرب. جرى هذا، بالرّغم من انطباع تشرشل الذي أكّده للورد كيلرن بعد هذه المقابله أيضًا بقوله عن الملك فاروق “إنه شخصية وقِحة لا تناسِب رقّة زوجته”.
القيم الأخلاقية عند ونستون تشرشل
بعض المواقف التي أخذها ونستون تشرشل في حياته كان دافعها أخلاقيًّا بالأساس، من ذلك حملته الصحفية التي شنّها على الجنرال كيتشنر بعد معركة “أم درمان” في السودان، التي جرت في 2 سبتمبر 1898م، وانتهت بهزيمة المقاومة السودانية التي يمثّل عمادها الدراويش، على يد الحملة الإنجليزية الاستعمارية، ويحكي تفاصيلها هيج مارتن في كتابه “ونستون تشرشل.. حياته، سياسته، ومعاركه”.
بعد انتهاء المعركة، أمر الجنرال كيتشنر بهَدم مقبرة المهدي – القائد السابق للثورة السودانية ضد الاحتلال الإنجليزي-، والتمثيل بجثّة المهدي، وإلقائها في النيل، وإرسال رأسه إلى لندن كعلامة على الانتصار والثأر لمقتل الجنرال جوردن. هنا أبدى تشرشل امتعاضه وتنديده بهذه الفِعلة بقوله “إن هذا العمل الدنيء مثير للاشمئزاز”، وترك خدمة الجيش بعدها، وشنّ حملةً صحفية على كيتشنر صنعت قطيعة بينهما لعشرات السنين.
الأبعاد الثقافية الحضارية لدى ونستون تشرشل
في حياة ونستون تشرشل، وجدت مواقف اتخذت أبعادًا ثقافية حضاريةً عميقة وممتدّة في تكوين تشرشل. من ذلك أن “تشرشل كان مفتونا بالثقافة الإسلامية التي كانت شائعة في أوساط الفيكتوريين”. هذا ما يؤكّده وارن دوكتر، الباحث في التاريخ في جامعة كامبريدج، في تصريحٍ له حول رسالة كُشِف عنها أخيرًا، تدعو فيها عائلة ونستون تشرشل، سليلَها إلى مقاومة رغبته في اعتناق الإسلام.
كان تشرشل قد أرسل رسالة خطية إلى الليدي جويندولين بيرتي (زوجة شقيقه جاك)، في عام 1907م، يخبرها فيها أنه تمنى لو كان “باشا”، وهي رتبة كبيرة في الإمبراطورية العثمانية حينها.
ولأن تشرشل كان عاشقًا لارتداء اللباس العربي، برفقه صديقه الشاعر المستعرب “ويلفريد بلانت”، فقد ولّدت رسالته قلقًا لدى الليدي بيرتي، فأرسلت إليه سريعًا في أغسطس من العام ذاته “رجاء لا تعتنق الإسلام. لاحظتُ حقا في سلوكك ميلا للاستشراق، ورغبة في أن تصبح مثل الباشاوات”، مضيفة أنه “إذا أصبحت قريبا من الإسلام فسوف يكون تحولك إلى هذا الدين أكثر سهولة مما تتوقع، حاوِل أن تقاوم ذلك”.
ونستون تشرشل في الدراما
ظهر خلال الأعوام الأخيرة، ثلاثة أفلام درامية تناولت سيرة أو شخصية ونستون تشرشل. الأول فيلم (Secret Churchill’s)، وهو من إنتاج عام 2016م، من بطولة الممثل الأيرلندي السير مايكل هاركورت، وإخراج تشارلز ستوريدج، يحكي وقائع مرور تشرشل بأزمة صحية في صيف العام 1953م، والتي ظلّت تفاصيلها سريّة لفترات طويلة.
الفيلم الثاني (Churchill)، وهو من إنتاج عام 2017م، من بطولة الممثل الأسكتلندي القدير بريان كوكس، وإخراج جوناثان تيبليزكي، يحكي وقائع الأربعة أيام التي تسبق مباشرةً عملية الإنزال الكُبرى في نورماندي، في الحرب العالمية الثانية، وموقف تشرشل من العملية.
الفيلم الثالث (Darkest Hour)، وهو من إنتاج عام 2017م، وبطولة الممثل بريطاني الأصل جاري أولدمان، وإخراج جو رايت، ويتناول اللحظات المبكّرة من تولّى تشرشل رئاسة الوزراء، واللحظات التي سيقرّر فيها قراره المصيريّ، إما بالتفاوض مع هتلر، أو بالانخراط في كفاحٍ ضدّه، تتوّقف عليه مصير أوروبا بالكامل.
كما نُشِر فيلم وثائقي بعنوان “كلب تشرشل الأسود”، يعرض سيرة تشرشل منذ ولادته وحتى وفاته، معتمدًا على محطات الاكتئاب الثلاثة أو الأربعة في حياته، ذلك الاكتئاب الذي أسماه تشرشل بـ”الكلب الأسود”، والذي كان كلّما هاجمه ضاريًا، تركه أقوى وأمضَى، لينهض من جديد محرزًا في حياته مجدًا جديدًا.
يظهر ونستون تشرشل أيضًا في المسلسل الدرامي الطويل (The crown)، الذي يستعرض حياة الملكة إليزابيث الثانية، ومن بين علاقاتها السياسية والاجتماعية، يتناول العمل علاقتها مع رئيس الوزراء ونستون تشرشل، وقد أدّى دوره الممثل الأمريكي القدير “جون ليثجو”.