مضى زمنٌ على ما جرى. وحِمل الحادثة يزداد في قلب الرجل، يجرجر معه الذكرى، وتتساقط معه بقايا ندمٍ لا زال يحاول إخماده. كان له نصيبٌ من وأد البنات في الجاهلية، ولا يدري إن كان سيقدرُ أن يغفرَ لنفسِه يومًا، ولا يعلم إن كانت ضحيّته ستغفر له، ولا إن كان الله سيعفو عنه. بعضُ البَوحِ قد يفيد، ويا حبّذا لو كان البَوحُ بينَ يدي خبيرٍ أمينٍ.
بين يدي النبيّ الأمين طرح الرجلُ آلامه، وباح بما فاضت به قريحته الثكلى، وقدّم بين يدي شكواه، بأنّ ما جرى منه كان في عصر جاهلية البشر، حيث لا وازع ولا ديانة ولا أملَ في ربٍ كريمٍ. واستطرد مستحضرًا صورةَ ابنته التي أنجبها، وربّاها حتى كبرت ونضجت أمام عينيه، واستوت أنثىً على أعتابِ الشباب، لا يرى منها إلا ما يسرّ قلبه؛ تربّت على قلبه بإطلالتها، وتأتيته مسرعة مبتهجةً إذا دعاها. كان يعلم منزلته في قلبها، وكان عليه أن يطأ كلّ ما في قلبه من مشاعر تجاهها، لينحطّ إلى حالةٍ تطاوعه نفسه فيها على أن يغدر بها.
هكذا كان وأد البنات في الجاهلية
دعاها ذات يوم، فأتته كعادتها مسرورة مبتهجة، وبدون كلام مضى في طريقه إلى أطراف بلدته، وتبعته الفتاةُ مطمئنةٍ لا تفصح عن شيء، ولا تراجعه في شيء. على أطراف البلدة كان البئر الذي توقّفوا عنده. لا يذكر الرجل كم توقّف من الوقت ليتفكّر ويشدّ من رباطة جأشه لينفّذ قراره. كلّ ما يذكره أنه بلا مقدّماتٍ، انتزع ابنته من يدها وطوّح بها في قلب البئر. لا يذكر تعبيرات الصدمة واللوعة والارتياع على وجهها، ولا صوت ارتطامها وتمزّق ملابسها في رحلة سقوطها إلى أعماق البئر. كل ما حمله معه من جريمته ذِكرى صرخاتها الراجية المكلومة اللائمة “يا أبتاه! يا أبتاه!”.
مثل هذه الحكايات كانت معروفة، لكن أن تسمعَ حكايةٍ كهذه من أحد أطرافها، فهذه تجربة شعورية تأتيكَ آلامها على إيقاعٍ خاصٍ. لذا ترقرت الدموع في عيني النبيّ الأمين، وهو يستحضر مع حكاية الرجل تفاصيل ما جرى، وكيف جرى، وكيف كانت نفس الإنسان في الجاهلية تطاوع صاحبها على مثل هذا. تكاثف الدمع وسال على وجه النبي، وهو لا زال صامتًا لا يجيب. يعلم أنّ هذه ليست الضحيّة الوحيدة التي وُئدَت، وأنّ هذه ليست الحادثة الوحيدة التي جرت. كان تقليدًا قديمًا أودى بحياة المئات، وربّما الآلاف من أرواح الإناث البريئات، لم تجد من ينجدها، وما جرى قد جرى، ولم يعدّ متاحًا إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
جلّل الحُزن المكان، ولم يتحمّل أحد أصحاب النبيّ أن يرى وجه نبيّه عليه كل هذا الألم الصامت والدمع الغزير، فعاتبَ الرجلَ لأنه تسبّب في إحزان نبيّه إلى هذا المدى. ولأنّ النبيّ يعلم أنّ حزنَ الرجل على ابنته، وندمه على ما جرى، لا زالا يقضّانه ويثقلان كاهله وينغّصان عليه حياته، أمرَ صاحبه أن يدَع الرّجلَ وأحزانه، فالرجلُ جاء طارحًا آلامه وأحزانه، سائلاً ومسترشدًا عن سبيلٍ للغفران.
الإسلام يجُبّ ما قبله
طلبَ منه النبيّ أن يُعيدَ حكايته، عسى الرجلُ أن يتخفّف من آلامه قليلاً، فأعاد الرجلُ حكايته كما هي. وزادت جُرعة الألم وتضاعف الحُزن، وانهمر الدمعُ من عيني النبيّ الرحيم، حتى وصل لحيته. لكنّ ما جرى قد جرى وانقضى، ولله الأمر. والرجلُ أمامه به من الحزن والألم والخزي والندم مالا يُحتَمَل، يرجو رحمة الله وغفران ابنته، وطاقةً نفسيةً تعينه على أن يغفر لنفسِه ما فعَل.
الحُزنُ قَيدٌ والندمُ حِصارٌ، ورسولُ الله يعلمُ أن ألمَ الرجلَ قد يعطّله عن أن يواصلَ أيامَه في هذا الحياة على النحو الذي يليق. غفرانُ الله حاضرٌ، وأثرُ الإسلامِ باقٍ، ولا جريرةَ باقيةٌ بعده على إثرَ ما جرى قبله. “فاستأنِف عملَك“.
انصرفَ الرجلُ متخفّفًا؛ في صدره يتصاعد بردُ الطمأنينةِ، وفي سمعه يتردّد صدى كلماتُ النبيّ الكريم…
وفي قلبه تمدّدَ الأمل.
المصدر
– سُنن الدارمي، باب فرض الوضوء والصلاة، حديث رقم 2.