في هذا الواقع المتسارع، يطاردنا قلق خبيث، يفسد علينا مساحات شاسعة من حياتنا. قلق مدفوعٌ بخوفنا من الفشل في مجاراة قيم النجاح التي وضعها المجتمع والسلطة والمؤسسات، والفشل في الحفاظ على مكتسباتنا اللاهثة نحو المنزلة والاعتبار. هذه المنزلة التي يعرف الجميع أن طريقها صعب، وأنّ الإخفاق في الوصول إليها أو الحفاظ عليها سيغرقنا في مستنقعٍ من الإحساس بالمهانة والأسى. في كتاب (قلق السعي إلى المكانة.. الشعور بالرضا أو المهانة)، الذي نشره آلان دُو بوتون عام 2017م، وصدرت ترجمته العربية بترجمة محمد عبد النبي عام 2018م، يستعرض المؤلف الأسباب التي أدّت إلى تكريس هذا القلق الخبيث المتوطّن، ويطرح عددًا من الحلول لاستيعاب هذه الأزمة والتحدث عنها، وإيجاد علاج لها.
متعة كتاب قلق السعي إلى المكانة
من المهم الإشادة بالمبادرة إلى ترجمة هذا الكتاب إلى العربية، والتي تعتبر خطوة تحترم في أي مجال معرفي أو أدبي أو حتى ترفيهي، وبالأخص لأن الترجمة كانت سلِسة ورائقة.
قراءة كتاب قلق السعي إلى المكانة، تعدك مع نهاية كل فصل، بحصول تحوّل في مكوّن شخصيّ أو فكريّ بداخلك، ويأخذ بيدك إلى مزيدٍ من الانكشاف لما أنت عليه، والسبب في كونك كذلك. يرجع هذا إلى أن مؤلف الكتاب “آلان دو بوتون” كاتبٌ من العيار الثقيل، عندما يناقش أمرًا فإنه يفرش أمام عينيه خمسة أو ستة مجالات معرفية على الأقل يستخلص منها، ويدلّل، ويفكّك، ويربط ما بينها بشكل محترف.
لهذا، ستجد نفسك مرارًا وتكرارًا أثناء القراءة، أمام توليفة – تزيد أو تقلّ- من التحليل النفسي والتاريخ الاجتماعي والاجتماع الاقتصادي والتحليل الطبقي وعلم الاجتماع المقارن والفلسفة الاجتماعية وتاريخ الأفكار ونقد الأديان وتاريخ الفنون والتحليل الفني وغيره. كل هذا بأسلوب سلِس مترابط، طويل النفَس في بعض الأحيان، لدرجة تجعلك تتشكّك أحيانًا في أن خيوط المناقشة انفلتت من يده، إلا أنه سرعان ما يعيدك إلى جوهر المناقشة، لتكتشف أن مثل هذه الاستطرادات كانت ذات ضرورة بنيوية ماسّة للفكرة التي يناقشها. كل هذا يجعل بعض أفكار الكتاب تبدو وكأن المؤلف أحكمها بقبضةٍ من حديد.
اضطراب قلق السعي إلى المكانة
اضطراب قلق السعي إلى المكانة وحيازتها، لا يكاد يخلو منه واحد منا إلا نادرًا. لذا ينطلق الكتاب في مسارين:
المسار الأول: ما أسباب هذا الاضطراب المزعج لنا جميعًا؟ يقدّم المؤلف آلان دو بوتون الإجابة في خمسة أسباب كبرى: افتقاد الحب، والغطرسة، والتطلّع، والكفاءة، والاعتماد. ربّما يبدو سطحيًا ومبهمًا أن نكتفي بذكر هذه الأسباب بهذه الصيغة المقتضبة، إلا أنّ قراءة ما كتبه المؤلف تحت كل عنوان من هذه العناوين يعرّي الذات والتاريخ والمجتمعات والاقتصاد والأيديولوجيا. ورغم أنه اهتمّ بالاشتغال على المجتمعات الأوروبية والأمريكية بالأساس، إلا أن ما يقوله ويناقشه لا زال ينطبق علينا وعلى مجتمعاتنا وتجاربنا بطريقة أو أخرى.
المسار الثاني: ما الذي يمكن أن يشكّل علاجًا في حالةٍ أو أخرى؟ يشتغل آلان دو بوتون على الإجابة المتنوعة لهذا السؤال بشكلٍ مكثّف، مستعرضًا خمسة حلول علاجية، وهي: الفلسفة، والفن، والسياسة، والدين، والبوهيمية. وجاءت الإجابات مكثّفة بسبب استدعاء المؤلف لخبرته الثقيلة في كتابه السابق والناجح “عزاءات الفلسفة”، وكثّفها، وكرّر على منوالها في باقي الحلول. غالبًا ستجدُ نفسك أو واحدًا ممن تعرفهم من معارفك أو أصدقائك أو أقاريك في هذه الإجابات.
أخيرًا، لا يمكن اعتبار الكتاب من نوعية كتب التنمية البشرية، كما لا يمكن الاكتفاء بقراءة مراجعة أو مقال عن الكتاب، واعتبار أنها ستغنيك عن قراءة الكتاب واستكشاف أفكاره.