بالرغم من وجود اعتقاد سائد لدي كثيرين، بأنّ العلاقات الإنسانية، خصوصا الحميمية منها، هي المصدر الرئيسي للسعادة البشرية، في حين أن حياة المبدعين تأخذ نهجًا مختلفًا، بل مضادًا، لهذا الاتجاه. يخبرنا بهذا مؤلف الكتاب، “أنطوني ستور”، وهو طبيب نفسي بريطاني، ذو خبرة عريقة في العلاج النفسي، وواحد من أبرع محلّلي الشخصيات التاريخية نفسيًا، وله عدد من المؤلفات المؤثرة، من بينها هذا الكتاب الجليل (الاعتكاف: عودة إلى الذات)، الذي جاء بترجمة عربية أنيقة ليوسف ميخائيل أسعد.
أهمية كتاب الاعتكاف
يقدّم كتاب الاعتكاف مفهوم الاعتكاف وممارسته، باعتباره مدرسة العبقرية، مستقَرّ الطمأنينة، مضمار الحرية، أتون المخيّلة، قربان القيمة الذاتية، محضن الفرادة، ملاذ المبدعين. يخبرك الكتاب أن الاعتكاف / العزلة / التوحّد (أن تكون وحيدًا).. مفهومٌ ثريّ رفيع، تكتشفُ أنه يحتاج – على المستوى النفسي- إلى ما يمكن أن نعتبره تأهيلاً وقدراتٍ ذاتيةً، فليس كلّ الناس لديهم المقدرة على ولوج التجربة، وإن كنّا جميعًا نحتاج إليها، بمقادير متفاوتة بطبيعة الحال.
عبر 12 فصلاً ومقدّمة قبلهم، يطوّف “ستور” بالقارئ في وقارٍ وتمكّنٍ وإحكامٍ، في الذات الإنسانية والعلاقات مِن حولها، وكيف تتأتى القدرة على الاعتكاف، ومَن يصلح له ومَن لا يصلح، وفيم يفيد، ومعيار الحرية والاختيار في تجربته، وحدود الكمال الذي يقرّبنا منها.
عبر فصول الكتاب، يوظّف “أنطوني ستور” خبرته في التحليل النفسي للشخصيات التاريخية، في كل مقام، مستثمرًا كلّ شاردة وواردة ليوطّنها في موطن الاستشهاد والتجربة. ويقدّم تحليلات مثيرة فارقة، شديدة التكثيف والانضباط، لأسماء كُبرى كثيرة، من بينها: نيوتن، كانط، بيتهوفن، جويا، فاجنر، فرويد، كارل يونج، كافكا، فتجنشتاين، كبلنج، وكثيرين آخرين.
يشكّل الكتاب أهمية لجميع أنواع القرّاء بشكل عام، ولكنه بالنسبة بالنسبة للمفكّرين والمبدعين والفنانين يمثّل أهميّة قصوى لدرجة تكاد تكون مصيرية، أيًا كانت ممارساتهم الإبداعية.
ما سيستشعره قارئ كتاب الاعتكاف، أنّ خبرة قراءة هذا الكتاب لوحدها: خبرة فارقة. ويكفي أن تطّلع على آراء ومراجعات مَن اهتموا بقراءته، لتجدهم يجمعون على أنه من الكتب التي تجعلك بعدها مختلفًا عمّا كنت عليه قبلها، وبعضهم يذكره ضمن أهمّ وأكثر خمسة كتب أثّرت في حياته.
خلاصات مهمة من كتاب الاعتكاف
فيما يلي بعض الخلاصات المهمّة والمفيدة جدًا من الكتاب، وهي إن كانت لا تغنيك عن قراءته بحالٍ من الأحوال، إلا أنها كافية على الإقل لإخبارك ببعض قيمة محتواه:
– إحراز الموهبة الإبداعية هو نعمة مثيرة للريبة، أو هو منحة ملعونة، يمكن أن تضفي على صاحبها الشهرة وتكسبه الثروة، ولكنها لا تتمشى مع ما يجلب السعادة للشخص العادي.
– أكثر اللحظات أهمية هي تلك اللحظات التي يتوصل المرء خلالها إلى بصيرةٍ جديدةٍ معينةٍ واكتشافٍ جديد. هي تلك اللحظات التي يكون المبدع منفردًا فيها بنفسه.
– تدلّ القدرة على التوحّد (المرتبطة باكتشاف الذات وتحقيقها وبأن يقف المرء على أعمق حاجاته ومشاعره ودوافعه) على الطمأنينة الداخلية التي بنيت شيئًا فشيئًا خلال التنشئة.
– الصلاة والتأمل يسهّلان تحقيق التكامل، وذلك بإتاحة الوقت للاتصال مباشرة بأكثر أفكار ومشاعر المرء عمقًا، وإتاحة الوقت لها كي تعيد تجميع صفوفها في أشكال جديدة وترابطات جديدة.
– ابتعاد المرء بإرادته عن بيئته التي اعتادها، يساعد على تحقيق تفهّم المرء لنفسه، وعلى أن يكون على اتصال مباشر بتلك الأعماق الداخلية لوجوده التي تفوته ملاحظتها في حياة الهرج والمرج التي تطارده كل يوم.
– العقل المبني بناءً مَكينًا، الخاضع لنظام ذاتي داخلي لا يحيد عنه: يمكن أن يظلّ سليمًا لا ينهار تحت وطأة تجربة العزل القهري على يد أشخاص قساة يتعمدون إلحاق الأذى بالمرء.
– الانفصال عن مثيرات الحياة اليومية العادية، يمكن أن يكون وسيلة علاجية، ويمكن أن يعمل على تفسّخ الشخصية، وذلك تبعًا لما إذا كان ذلك الفصل برغبة المرء أم مفروضًا عليه.
– يمرّ المبدع بفترات يأس يحسّ خلالها كما لو أن قدرته على إبداع شيء جديدٍ قد فارَقته. هذا يحدث غالبًا لأن قطعةً معينةً من العمل قد اكتسبت أهمية غامرة بحيث لم يعد من المحتمل أن يتسنى اللعب بها.
– عندما يعتبر الفرد العالم الخارجي مجرّد شيء عليه أن يتكيف معه، بدلاً من أن تتحقّق ذاتيته فيه، فإن فرديته تتلاشى وتصير حياته بلا معنى أو عبثًا من العبث.
– مهما كانت العلاقات الشخصية هامة بالنسبة للشخص الموهوب بمواهب إبداعية، فإن الحالة الغالبة هي أن ميدانه الخاص بإبداعه يظل هو الأكثر أهمية في نظره.
– الأصالة تتطلب أن يكون المرء جريئًا بدرجة كافية بحيث يذهب إلى ما هو أبعد من نطاق المعايير المقبولة. وكلما كان المرء أقل اعتمادًا على الآخرين وارتباطًا بهم، كلما سهل عليه أن يضرب صفحًا عن المتعارف عليه.
– الشخص الاكتئابي الموهوب قد يجد أن أفضل طريقة يعبر بها عن ذاته الحقيقية، إنما تكون في شكلٍ ما من أشكال العمل الإبداعي، وليس في الاحتكاك بالآخرين.
– الفنانون المبدعون يتجّهون إلى اختيار علاقاتاهم الاجتماعية التي تعمل على دعمهم، بدلاً من إقامة علاقات مشبعة عاطفيًا. كما أنهم حالَما يقيمون علاقة حميمية مع غيرهم، فإنهم يفقدون جانبًا من الدافع التخيّلي لديهم.
– جوع المخيلة الذي يدفع المرء إلى البحث عن فهم جديد وعن روابط جديدة في العالم الخارجي، هو في الوقت ذاته جوع للتكامل والوحدة الداخلية.
– ممارسة الكتابة أو تأليف الموسيقى أو الرسم، أشكال من العلاج الذي لا يستدعي وجود معالج غير الشخص الذي يعاني نفسه.
– عملية التعبير عن الانفعال في حد ذاتها، تمنح الشخص المكتئب بعض الإحساس بالسيطرة على الموقف، حتى لو لم يكن موهوبًا بدرجة ممتازة.
– بعض المبدعين يصبون اهتمامهم الرئيسي على السعي نحو الترابط النفسي والبحث عن معنى الحياة، ويضحّون بازدهارهم الشخصي في سبيل إثراء المعرفة الإنسانية.
– لا يهتم الشخص العجوز كثيرًا بالعلاقات مع الآخرين. بل يصير أكثر ارتياحًا إذا ما تُرك وحده، ويصير مشغولاً باهتماماته الذاتية الداخلية.
– الحنين إلى الماضي يرتبط ارتباطًا حميمًا بالنزعة العاطفية، وهو تعبير دائم عن فقدان الفرص المتاحة، وليس أسفًا على إنجازات الماضي أو ملذّات الماضي.
– حالَما يصير الفنان أكثر ثقة بنفسه، فإنه يحوز الشجاعة التي تمكّنه من التخلّص من ترسّبات الماضي التي لا تناسب شخصيته، ويدخل في مرحلة تكون فيها سيطرته وفرديته كأوضح ما يكون.
– السعادة المطلقة لا تؤدي إلى الإبداع؛ فجوع المخيّلة والرغبة والسعي نحو الاكتمال، تستمد أصولها من إدراكنا أن معرفةً ما مفقودة، ومن الإحساس بالنقصان.
– طالما تستمر حالة الحب في قلب الإنسان، فلا تكون ثمّة مفارقة بين واقع العالم وبين المخيلة؛ فما يعتمل من “جوع في المخيلة” يكون مشبعًا بصفة مؤقتة، وهو أمرٌ مختلف تمامًا عن الشبع الجنسي.