محمد إقبال فيلسوف الشعر العظيم
الشاعر الفيلسوف الهندي محمد إقبال

كان يعرف أنّ الحريةَ هي غايته الأولى؛ لذا لم يكفّ عن طلبها. في الوقت الذي كان فيه نابغ الذكاء والعلم والبيان بما يؤهله للوصول لأعى الدرجات في مهنته بالمحاماة، لم يسمح لمهنته أن تقيّده عن أداء دوره ورسالته. وحين كان يدرّس الفلسفة وآداب العرب والأدب الإنجليزي في الكلية الحكومية، وجدَ أن عمله لدى الإنجليز يعوقه عن أن يقول ما يريد قوله لهم في وجههم؛ لذا قرّر الاستقالة ليقول لهم ما يريد وليفعل معهم ما يشاء.

هكذا كان فيلسوف الشعر، الهندي محمد إقبال، في أغلب شئونه، بل وصل إلى أن رأى أنّ خير وسيلة إلى السلام في الهند في ظل الاضطرابات الداخلية التي كانت تحياها، أن تُقسَّم البلاد على قواعد جنسية ودينية ولغوية، بحسب تعبيره في رسالته إلى محمد علي نجاح، الذي سيصبح أول رئيس لباكستان.

حياة فيلسوف الشعر محمد إقبال

ينحدر فيلسوف الشعر محمد إقبال من براهمة كشمير، وقد ولد بمدينة سيالكوت بمقاطعة البنجاب الهندية، في 9 نوفمبر 1877م، ونشأ في عناية والديه الذين اهتما بتعليمه وتربيته، ثم ألحقاه بكتّاب ليحفظ القرآن ويتعلم العربية والفارسية، وبعدها تم إلحاقه بمدرسة الإرسالية الإسكوتية الإنجليزية، التي تخرّج منها في 1985م.

حصل محمد إقبال على عددٍ من الشهادات المرموقة، من بينها شهادة (B.A.) من الكلية الحكومية في لاهور عام 1897م، وشهادة (M.A.) في الفلسفة بامتياز، وتعيّن على إثرها أستاذاً للفلسفة والتاريخ بالكلية الشرقية في لاهور عام 1902م، وشهادة الدكتوراة في الفلسفة من جامعة ميونخ الألمانية عام 1908م، وشهادة الدكتوراة من الجامعة العثمانية في حيدر أباد عام 1937م، كما منحته جامعة “إله أباد” الدكتوراة الفخرية في الآداب قبل وفاته بعام.

الفيلسوف محمد إقبال في مناسبات متنوعة
الفيلسوف محمد إقبال في مناسبات متنوعة

عُرف عن محمد إقبال اهتمامه الشديد بأمور السياسة، وهو ما أهّله للحصول على لقب “سير” من الحاكم الإنجليزي للبنجاب عام 1923م، كما انتُخب عضوًا للبرلمان عن إقليم البنجاب عام 1927م، وبعدها بثلاث سنوات انتُخب رئيسًا للمؤتمر السنوي لحزب الرابطة الإسلامية في “إله أباد” عام 1930م، وبعدها بخمس سنوات انتُخب رئيسًا لفرع الرابطة الإسلامية في البنجاب.

توفي محمد إقبال في 21 إبريل عام 1938م، وشُيّعت جنازته ودُفن في جانب فناء المسجد الجامع “شاهي مسجد” في مدينة لاهور.

إقبال مجددًا لمنهج دراسة الفلسفة الإسلامية

اعتني محمد إقبال بالتجديد المنهجي لدراسة الفلسفة الإسلامية، انطلاقًا من المدوّنات والممارسات التراثية الإسلامية، ولم يكتف بالجانب التنظيري، وإنما انتقل إلى التطبيق على بعض الموضوعات التي انتقاها. وقد أوضح في كاتبه “تجديد الفكر الديني في الإسلام” أنّ هذه المرحلة هي أنسب مرحلة لهذا التطبيق، وأنه يحاول أن يبني الفلسفة الإسلامية بناءً جديدًا، واضعًا في اعتباره المدوّنات المأثورة من الفلسفة الإسلامية، إلى جوار ما دخل على المعارف الإسلامية من تطوير في جوانبها المختلفة.

جاءت البنية الإجرائية التطبيقية لهذا التجديد لدى إقبال، على الترتيب التالي:

– اختار إقبال مواضيع معيّنة، تجسّد نظرياتٍ محوريةٍ في تاريخ الفلاسفة والمتكلمين المسلمين الأوائل، كنظرية الجوهر الفرد لصدر الدين الشيرازي، ونظريات أخرى لدى المتكلمين مثل: ختام النبوة، وإثبات النبوة، وفلسفة الزمان، وفكرة الاجتهاد.

– أعاد إقبال تناول هذه النظريات وفق أسلوب علميٍ حديث، قائم على التحليل النقدي الصارم، واستبعاد عناصر الضعف والتهافت فيها، مع إبراز ما فيها من عناصر القوة والفاعلية.

– قارن إقبال بين ما انتهى إليه من نتائج، وبين ما توصّلت إليه مدارس الفكر الأوروبي الحديث، لإظهار قيمتها إنسانيًا وعالميًا.

وقد أظهر منهج إقبال قيمةً مطمورةً للتراث الإسلامي القديم، تمثّلت في مضاهاة نتائجه مع نتائج أحدث المدارس الفكرية والعلمية في أوروبا الحديثة.

لقطات من الحياة الشخصية للفيلسوف محمد إقبال
لقطات من الحياة الشخصية للفيلسوف محمد إقبال

فلسفة الذات عن محمد إقبال

مثّلت فلسفة محمد إقبال حول الذات، تصوّرًا مركّبًا، انقلب فيه على ما كان شائعًا في فلسفات الفرس والترك والهنود حول الذات. فقد كانوا يرون أن غاية الإكرام للإنسان أن يضيع في ذات الإله ضياع قطرة المياه في البحر، وعلى إثر هذا التصوّر سلكَ الصوفية سلوكيات تقطع الأسباب بينهم وبين الحياة التي اعتبروها شرًا خالصًا يجدر تجنّبه، فانعزلوا وأنكروا ذواتهم، وقدّموا فناءهم على بقائهم.

جاءت فلسفة إقبال، التي مثّلت تطويرًا نقديًا لفسلفة صدر الدين الشيرازي، مضادةً لهذا التوجّه، وأقامها على محورين: (الأول) أن طريق تحقيق الذات المفردة “الفرد” وقدرتها واكتمالها: يكون من خلال معرفة الإنسان لذاته واعتزازه بها، وفصلها تمام الفصل عن ذات الإله، و(الثاني) أن تطوّر الذات الكليّة “المجتمع” وارتقاءها، طريقه هو [تطوّر الذات المفرّدة “الفرد” + إنكار جزئي للذات من خلال اندماجها عمليًا وشعوريًا مع الآخرين]. وقد توسّع إقبال في شرح فلسفته هذه عبر ديوانيه (أسرار الذات، ورموز نفي الذات)، المنشورَين في عامي 1915 و1918م على الترتيب.

تتوافق رؤية إقبال الفلسفية، مع رؤية رائد علم النفس الفردي “ألفريد أدلر”، الذي يرى أن المعني الحقيقي للحياة لدى “الفرد” يتحقق من خلال “التعاون”، بدايةً من استعداده لتطوير نفسه بطريقة تجعله قادرًا على المساهمة في تحقيق مصلحة الآخرين، وقادرًا على تطوير شعوره الاجتماعي. وقد توسّع أدلر أيضًا في توضيح رؤيته هذه في كتابه “معنى الحياة”.

فلسفة الفن عند محمد إقبال

مهمة الفن الأساسية عند محمد إقبال هي البحث عن الجمال، وغايته أن يقوّي الروح، ويعبّر عن نفسٍ قوية لا تستنسخ الطبيعة أو تحاكي غيرها، وإنما تعيد صياغة الفن من قلبها لتؤثر به في الحياة، ولابدّ للفنّ – عند إقبال- كي يكون فنًا أن يسمو بالروح، ويلهم الأمل، ويولّد الشجاعة، ويوجّه إلى العيش بشرف،

وفيما يخصّ الفنون الإسلامية، يمثّل فن العمارة الإسلامية التجلّي الأبرز لتخلّق بني آدم بأخلاق الله، وللعشق الذي يوحّد بين القوة والجمال، ويمنح وعدًا بإلهامٍ ممتدّ، ثم هو يجسّد خلافة الإنسان لخالقه في هذه الأرض بالعمران.

مؤلّفات محمد إقبال

ترك محمد إقبال تراثًا ذاخرًا من المؤلفات، تنوّعت بين الكتب الفلسفية المتخصصة، ودواوين الشعر، وخطبه ومقالاته ورسائله المجموعة، باللغات الإنجليزية والفارسية والأردية. وفيما يلي استعراض لمؤلفاته، وفق تاريخ صدورها، بحسب ما أكّده ابنه جاويد.

من مؤلفات محمد إقبال
من مؤلفات محمد إقبال

1- “تطوّر ما وراء الطبيعة في إيران” (باللغة الإنجليزية): رسالته للدكتوراة، نشرت في لندن عام 1908م، وتُرجمت للعربية عن مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة عام 1986م.

2- ديوان أسرار خودي “أسرار الذاتية” (باللغة الفارسية)، 1915م.

3- ديوان رموز بي خودي “رموز نفي الذاتية” (باللغة الفارسية)، 1918م.

4- ديوان پيام مشرق “رسالة المشرق” (باللغة الفارسية)، 1923م.

5- ديوان بانگ درا “صلصلة الجرس” (باللغة الأردية)، 1924م. ويحتوي على أغنية “حديث الروح” التي غنتها أم كلثوم بعد تعريبها.

6- ديوان زبور عجم “أناشيد فارسية” (باللغة الفارسية)، 1929م.

7- “تجديد التفكير الديني في الإسلام” (باللغة الإنجليزية): طُبع أولاً عام 1930م، وأعادت جامعة أكسفورد طباعته عام 1934م، ونشرته مترجمًا لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة عام 1955م.

8- ديوان جاويد نامه “كتاب الخلود” (باللغة الفارسية)، 1932م.

9- ديوان مثنوي مسافر (باللغة الفارسية)، 1934م.

10- ديوان بال جبريل “جناح جبريل” (باللغة الأردية)، 1935م.

11- منظومات بسجه بايد كرد اي أقوام شرق “ما ينبغي أن نعمل يا أمم الشرق” (باللغة الفارسية)، 1936م.

12- ديوان ضرب كليم “عصا موسى” (باللغة الأردية)، 1937م.

13- ديوان أرمغان حجاز “هدية الحجاز” (باللغتين الفارسية والأردية)، 1938م.

14- ديوان سرود رفته “أنشودة الماضي” (باللغتين الفارسية والأردية)، 1959م.

15- “علم الاقتصاد“، صدرت طبعته الأولى بدون تاريخ، وكانت طبعته الثانية في كراتشي عام 1961م، ثم طبعته أكاديمية إقبال بلاهور طبعة ثالثة عام 1977م.

16- “الأفكار المختلفة“: تم نشره بعد وفاة محمد إقبال، عام 1961م.

17- كتاب ثبت مراجع إقبال، إعداد ك. أ. وحيد، صدر عن أكاديمية إقبال بكراتشي، عام 1965م.

18- “مراسلات إقبال“: إعداد بي آر وار، صدر عن أكاديمية إقبال بكراتشي، في العام 1967م.

19- “خطب وتصريحات إقبال“، صدر في لاهور، بدون تاريخ.

أقوال عن محمد إقبال

قال عنه جواهر لال نهرو – أول رئيس وزراء الهند-: (شرفت بلقاء إقبال وكان مستلقيًا على فراش المرض؛ كان لفكره العالي ونزعته الحرّة في قلبي أثرٌ بليغ.. لقد فقدت الهند بفقد إقبال كوكبًا لألاءًا مضيئًا).

ضريح الفيلسوف محمد إقبال
ضريح الفيلسوف محمد إقبال

وقال عنه المستشرق البريطاني رينولد نيكلسون – المختصّ بالتصوف الإسلامي والأدب الفارسي-: (لقد جَاءَ إقبالُ كرسولٍ؛ إن لم يكن لعصرِه فلسائرِ العُصورِ).

قال عنه محمد علي جناح – مؤسس دولة باكستان-: (كان شاعرًا منقطع النظير، طبّق صيته الآفاق. وستبقى كلماته حيّة أبدًا، وإن مساعيه لأمته وبلده لتضعه في صفّ أكبر كبراء الهند).

وقال عنه الشاعر الهندي طاغور – صاحب جائزة نوبل في الآداب-: (ترَكَت وفاة إقبال في أدبنا خلاءً يُشبه جرحًا مُهلِكًا، ولن يُملأ إلا بعد مدّة مديدة. إن مكانة الهند في العالم ليست مكينة، فموت شاعر عالمي كهذا مُصيبة لا تحتملها البلاد… ولا ريب عندي أن ما ناله شعر إقبال من قبول وصيت يرجع إلى ما فيه من نور الأدب الخالد وعظمته).

وقال عنه المفكر الهندي أبو الحسن الندوي: (إنني أعتقد أنه – يقصد إقبال- كان صاحب فكرة واضحة وعقيدة حازمة عن خلود الرسالة المحمّدية وعمومها، وعن خلود هذه الأمة وصلاحيتها للبقاء والازدهار، وعن كرامة المسلم، وأنه خلق ليقود ويسود، وعن تهافت المبادئ والفلسفات والدعوات التي ظهرت في هذا العصر كالقومية والوطنية والشيوعية، وووجدتُ في من وضوح الفكرة وشدّة الاقتناع بها والتحمّس لها والشجاعة في نشرها، وفي نقد الفلسفات، مالَم أجده مع الأسف في كثيرٍ من رجال الدين؛ لعدم اكتناههم بحقيقتها واطّلاعهم على نواياها، وأهدافها، وأسسها، وتاريخها).

 

المصادر

– فلسفة إقبال والثقافة الإسلامية في الهند وباكستان، محمد حسن الأعظمي والصاوي علي شعلان، دار إحياء الكتب العربية، 1950م.

– تجديد الفكر الإسلامي عند محمد إقبال، د. عبد المقصود عبد الغني، مجلة دراسات عربية وإسلامية، ج4، مطبعة التقدّم، القاهرة، 1985م.

– النهر الخالد: كتاب عن حياة شاعر الشرق والإسلام العلامة محمد إقبال، جاويد إقبال، معزوًا إليه من قبل د. زكي الميلاد.

– ثلاثة مناهج حديثة في دراسة الفلسفة الإسلامية (مصطفى عبد الرازق – محمد إقبال – إبراهيم مدكور)، د. حامد طاهر، مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء72، القاهرة، مايو 1993م.

– محمد إقبال وتجديد الفكر الديني والفلسفي، د. زكي الميلاد، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت، 2008م.

– من أعلام المسلمين ومشاهيرهم، أبو الحسن الندوي، دار ابن كثير، دمشق – بيروت، الطبعة الأولى، 2002م.

– محمد إقبال.. سيرته وفلسفته وشعره، عبد الوهاب عزّام، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2014م.

– موسوعة علماء ومفكرون معاصرون، المركز العربي للدراسات الإنسانية، القاهرة.