للجيش المصري تاريخ ضارب في القدم منذ أقدم العصور, فهو أقدم جيش نظامي في العالم وكذلك فالخطط الحربية للملوك والقادة العسكريين المصريين محل دراسة حتي يومنا هذا ولا يوجد خير مثال علي ذلك إلا خطط الملك والقائد العسكري “تحتمس الثالث” الذي كان أول إمبراطور في تاريخ مصر, إلا أن هناك قائداً عسكريا يسبق تحتمس بما يقارب ألف عام عاش وخدم مصر في عصر بناة الأهرام وحقق إنتصارات عديدة علي حدود مصر , في هذا المقال نتعرف علي القائد العسكري “وني”.
الجيش في مصر القديمة في العصور المبكرة
في العصور المبكرة للحضارة المصرية لم يكن هناك مفهوماً واضحاً للجيش , فالقوات المحاربة في وقت المعارك هي المواطنون الذين ما أن يتم الغرض من المعركة يعودوا لممارسة حياتهم الطبيعية فلم يوجد إنخراط كامل أو حياة جندية بالمفهوم الحالى, وقد كانت قوات الأمن في مصر القديمة هي نفسها قوات الجيش فعلي سبيل المثال كانت مصر مقسمة إلى مقاطعات أو أقاليم (مثل المحافظات حالياً) ولكل مقاطعة منها قوات أمن خاصة بها
الحملات العسكرية خارج الحدود
, أما عن الحملات خارج الحدود فلدينا من الأدلة الأثرية علي خروج مصر خارج حدودها من عصور مبكرة تسبق الأسرات فهناك بعض المنتجات التي تم العثور عليها لا توجد إلا بالخارج وكذلك في عصر الملك “مينا” (نعرمر) تم العثور علي آثار له في فلسطين مما يوحي إما بحركة تجارية أو أعمال عسكرية في ذلك الوقت.
إلا أن الدليل علي الخروج خارج الحدود في اعمال عسكرية قد ظهر واضحاً في عصر الملك “دن” من الأسرة الأولي والذي حكم حوالي 2790 ق.م فيظهر علي بطاقة عاجية يضرب عدو آسيوي.
وفي الأسرة الثالثة ظهر أول ملوكها وزوسر يصور الآسيويين علي قاعدة التماثيل في وضع الخضوع وهو الذي يشير لتبلور فكرة حماية الحدود والحملات التأديبية في تلك الفترة المبكرة وتوجه أنظار ملوك مصر إلى الحدود الشمالية الشرقية التي تربط مصر ببقية القارة الآسيوية.
وقد تم ترسيخ فكرة تأمين الحدود الشمالية الشرقية في بقية عصور الدولة القديمة فنجد أن هناك العديد من الملوك قد تم تصويرهم في منطقة “وادي المغارة” بجنوب سيناء, فقد صور ملوكاً من عصور مختلفة وعلي رأسهم الملك “سخم-غت” خليفة الملك زوسر من الأسرة الثالثة ومن ثم ظهر الملك “سنفرو” مؤسس الأسرة الرابعة وتلاه إبنه الملك “خوفو” مشيد الهرم الأكبر , ومن الأسرة الخامسة “ساحو رع”, “ني وسر رع” , “من كاوو حور” , “جد كا رع إسسي” وظهر هؤلاء الملوك في أوضاع ضرب الأعداء التي تم نحتها في قلب الجبل كرسالة بسط نفوذ علي تلك المناطق طوال تلك الفترة.
أما الحدود الجنوبية وكذلك الغربية فق كان يتم تأمينها هي الأخري وإرسال الحملات تلو الأخري , فعلي سبيل المثال يذكر لنا “حجر باليرمو” قيام الملك “سنفرو” بحملات علي ليبيا القديمة والنوبة القديمة عاد منها ب 11 الف أسير و13 ألف رأس من الماشية كما دون المصدر, وقد ساهمت حملات سنفرو في إخلاء تلك المناطق الحدودية وتراجع ما سمي بثقاة المجموعة أ النوبية إلى الجنوب أكثر فأكثر وإنهاء تواجدهم في المناطق الحدودية المصرية.
القائد وني
“وني” أو “وني الكبير” Weni the Elder هو واحد من أهم موظفي الدولة القديمة إن لم يكن أهمهم علي الإطلاق بسبب نصوص سيرته الذاتية التي تعد أطول نقش يحكي سيرة ذاتية لشخص كما أن سيرته الذاتية هي من أهم نصوص فترة الدولة القديمة.
وقد بلغ وني” مكانة عليا بعد ترقيه لأرفع المناصب فأصبح “أر بعت” ( من الصفوة) , حاكم الجنوب , نائب الملك في نخن, سيد “نخب” , السمير الوحيد للملك وغيره من الألقاب والمناصب.
كنت طفلاً لا يزال يرتدي الحزام في الملك “تتي” وكنت أشغل منصب مدير بيت الزراعة ومدير ضياع القصر الملكي
وقدأ بدأ “وني” حياته المهنية في عصر الملك “تتي” أول ملوك الأسرة السادسة ومن ثم إنتهت حياة الملك “تتي” بمؤامرة علي الأرجح من داخل القصر أدت لاغتياله وخلفه الملك “وسر كا رع” ومن ثم الملك “ببي الأول” “ومرنرع الأول”.
القائد وني ومؤامرة الحريم الملكي
لقد أصبحت المشرف علي الزينة في عصر جلالته, وبعد ذلك توليت منصب قاشي نخن ورئيا لمحلس الستى العظماء, وقد كان قلبه متحمساً لي أكثر من كل موظفيه الآخرين, لقد حققت في قضاياه وليس بجواري سوي الوزير بكل تكتم بإسم الملك, وكان ذلك خاصاً بالحريم الملكي, وكذلك في مجلس الستة العظماء.
من أهم الأحداث التي ذكرتها السيرة الثاتية للقائد “وني” هو أحداث المؤامرة التي جرت بداخل قصر الملك “ببي الأول”, في وقت ما من عصر الملك جرت مؤامرة داخل القصر الملكي كان من أهم أشخاصها هو زوجة الملك التي أشارت لها النصوص بلقبها ” ورت-يامتس”, وقد كان “وني” أحد الموظفين القضاء المسؤلين عن متابعة سير القضية ومحاكمة المذنبين, وعلي الرغم من أن السيرة الذاتية للقائد “وني” قد ذكرت هذا الأمر إلا أن وقائع تلك المؤامرة والمحاكمة غير واضحة علي الإطلاق وعلي ما يبدو فإنها كانت قضية غاية في السرية وتدوين “وني” للمحة من هذا الأمر فقد ليظهر مدي ثقة الملك به ومدي أهميته داخل البلاط.
وبمناسبة قضية الحريم الملكي ضد الزوجة الملكية “ورت-يامتس” فقد أدريت سراً, ومنحني جلالته الإذن بعمل تحقيق .. ولم يحدث أن فرداً مثلي قد حقق في قضية سرية خاصة بالحريم الملكي من قبل, ولكن جلالته أعطان تلك القضية للتحقيق فيها لأني كنت ذا مكانة في قلب جلالته أكثر من كل خدامه العظماء.
القائد وني قاهر بدو الرمال
بعد ذلك نجد أن مهام “وني” قدا توسعت لتشمل تكليفاً من الملك لتجهيز قوات محاربة للحرب خارج الحدود, وهي أول إشارة في النصوص المصرية لتجميع قوات منظمة من أنحاء مختلفة تحت إمرة قائد واحد وهو “وني”, وعلي الأرجح فإن تلك الحملة قد كانت لغرض حماية الحدود أو لظهور قلاقل في تلك المنطقة وخطر علي الأمن القومي المصري وقتها لربما لوجود تجمعات مكثفة أو حتي هجرات شغلت تلك البقعة من الأرض وشكلت تهديداً علي مصر.
ولقد وضع جلالته الجيش تحت قيادتي وفيه الأمراء وحاملي أختام الشمال والجنوب, وكذلك سمراء الملك ورؤساء القلاع ونواب الشمال والجنوب, مديري القوافل والكهنة ومديري القوات الأجنبية , وقد كان كل منهم علي رأس قوة وكذلك قوة من النحسو (السود) من البلاد الأجنبية, وقد كنت أنا مشغولا بنظامهم علي الرغم من كوني المسئول عن أوقاف القصر, وبسبب حسن تدبيري لم يأخذ أحد مكان أخيه, ولم يسرق أحدا منهم عجيناً أو نعلاً ولم يأخذ واحداً منهم ملابس من أى بلدة أو يسرق عنزة من أى شخص, وقد قدت هؤلاء الجنود عبر طريق الجزير الشمالية وباوبة إمحوتب وضياع سفرو … تم إستعراض فيالق الجنود أمامي ولم يحدث أن موظفاً لدي الملك قد استعرض جنوداً من قبل مثلي أنا.
يظهر هذا النص وبوضح مسؤلية وني عن قوات منظمة تم تجميعها من أنحاء البلاد تحت قيادته, وقد كانت تلك القوات مقسمة إلى فيالق يرأس كل منها واحد في تسجيل لأول جيش منظم في تاريخ مصر, كذلك تخبرنا نصوص “وني” عن أخلاقيات الجيش المصري وقتها فلا ينازع أحدهما الآخر ولا يعتدون علي المدنيين أو يسرقون منهم في مثال رائع لأخلاق الجنودية في تلك العصور المبكرة.
عاد الجيش منتصراً
وكما يخبرنا النص فقد قاد “وني” حملة عسكرية ضخمة شمال شرقي الحدود المصرية (علي الأرجح فلسطين حالياً) لمحاربة “بدو الرمال” كما أطلق عليهم وقد حقق “وني” نصراً ساحقاً عاد علي إثره لمصر مدوناً أناشيد النصر والتي دونها علي جدران مقبرته
عاد هذا الجيش بسلام وقد مزق البدو علي الرمال
عاد هذا الجيش بسلام وقد دمر حصون الأعداء
عاد هذا الجيش بسلام وقد أشعل النار في أرض عدوه
عاد هذا الجيش بسلام وقد قتل عشرات الآلاف من جنود الأعداء
عاد هذا الجيش بسلام وقد أسر آلاف الجنود
يستكمل “وني” حملاته فيقول: ولقد أرسلني جلالته خمس مرات لقيادة هذا الجيش نحو بلاد البدو، في كل مرة
يتمردون فيها، ومعي كتائب الجنود، وقد أثني علي جلالته لحسن أعمالي.
القائد وني والأعمال المدنية
لم يكتف “وني” باعماله وحملاته العسكرية فنجده يكمل المسيرة كطرف موثوق لدي الملك لإنجاز المهام الصعبة , ففي عصر الملك “مرنرع الأول” نجد “وني” حاكم الوجه القبلي بأكمله, وهنا يوجه إهتمامه ناحية الجنوب ويكلفه الملك بإحضار الجرانيت من الجنوب من منطقة في النوبة القديمة وذلك للمساهمة في بناء هرم الملك “مرنرع”, وقد ذكر وني نقل تلك الاحجار عن طريق السفن الخشبية ووصف بدقة عددهم وهو ست سفن ناقلة, وثلاثة قوارب جر يعمل عليها ستة عشر رجلاً.
وبعد ذلك يتجه “وني” إلى محاجر “حتنوب” (المنيا حالياً شمال شرق تل العمارنة) ليحضر الألباستر (المرمر) من هناك, وقد إستغرقت مهمة “وني” سبعة عشر يوماً, وقد تم بناء سفينة ناقلة خصيصاً لهذا الغرض أخبرنا حتي “وني” بطولها الذي كان ستون ذراعا مصريا قديما وعرضها ثلاثون, وكانت تلك الأحجار أيضاً للمساهمة في بناء هرم الملك “مرنرع”.
قاهر النهر: آخر أعمال “وني”
توالت مهام القائد “وني” الإستثنائية فنجده هذه المرة يعود جنوباً ويقوم بمشروع عظيم كان عبارة عن حفر خمس قنوات موازية للنيل عند الشلال الأول, وذلك لتسهيل طرق التجارة وسير السفن التي كان يعيق تقدمها جلاميد الصخر, ونجح وني في إنجاز تلك المهمة في سنة واحدة وقد كان حفر تلك القنوات آخر أعمال “وني” قبل تقاعده , وبلغ هذا العمل من العظمة أنه مهد الطريق للموظفين من بعده لاستكشاف أفريقيا وقد حدث ذلك لاحقاً علي يد موظف مصري آخر يدعي “حرخوف”.
إكتشاف مقبرة وني وضياعها أسفل الرمال
في عام 1889 قام عالم الآثار الفرنسي الشهير “أوجوست مارييت” بالعثور علي مقبرة “وني” في أبيدوس, وقد أستخلص منها اللوحة الشهيرة التي تحكي سيرته الذاتية وهى محفوظة الآن بالمتحف المصري بالتحرير, إلا أن “مارييت” لم يوثق جيداً مكان المقبرة مما أدي إلى غرقها مرة أخري أسفل الرمال وضياعها.
وفي عام 1999 قامت عالمة الآثار الأمريكية “جانيت ريتشاردز” باعادة إكتشاف المقبرة بعد رحلة بحث مضنية ومعاناة مع الطلاسم التي تركها “مارييت” لوصف مكان المقبرة.
ومن المثير للإعجاب أن “وني” لم يكن له مقبرة في ابيدوس فقط, فمع الحفائر في سقارة في الجبانة المحيطة بهرم الملك الملك “ببي الألو” تم العثور علي مقبرة أخري حملت إسم “وني” وقد ظنوا في البداية أنه موظف آخر يحمل نفس الإسم إلا أنه تم العثور علي نص يحكي عن صاحب المقبرة ويحكي سيرته الذاتية ووجدوه شبه متطابق مع السيرة الثاتية للقائد “وني” نفسه.