ابن خلدون عبقريّ العلم وداهية السياسة
ابن خلدون عبقريّ العلم وداهية السياسة

كان ابن خلدون خبيرًا في كل شيءٍ تقريبًا. نشأ متقنًا للعلوم والفنون، ومارسَ خبرةً هائلةً في السياسة والحكم والقضاء، ونجى من الطاعون والسجن والدسائس والانقلابات والمطاردات، وتحمّل تقلّبات أحوال الملوك والحكام والبلاد. ثم عكف على تدوين خلاصة خبرته وعصارة حياته في مقدّمة كتابه الشهير “العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومَن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”.

 

ابن خلدون ونشأته المتوهجة

هو وليّ الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي، جدّه العشرون هو خالد بن عثمان، الذي قدِم إلى الأندلس فأطلق عليه الأندلسيون “خلدون” جريانًا على عادتهم في إلحاق الواو والنون بآخر الاسم للتعظيم، كما في زيدون وسعدين. وينتهي نسب ابن خلدون إلى الصحابي اليمني وائل بن حُجر.

تمثال ابن خلدون في تونس
تمثال ابن خلدون في تونس

وًلد ابن خلدون في 27 مايو 1332م (1 رمضان 732هـ)، في تونس، في دارٍ ما تزال معروفة إلى اليوم بشارع تربة الباي. وتبعًا للمعتاد حينها، فقد بدأ بحفظ القرآن وتجويده في مسجد القبة، وكان أبوه معلّمه الأول، وكانت تونس مركز العلماء والأدباء في بلاد المغرب العربي.

بعدها درس ابن خلدون العلوم الشرعية (التفسير والحديث والفقه المالكي والأصول والتوحيد)، والعلوم اللسانية (اللغة والنجو والصرف والبلاغة والأدب)، ثم درس المنطق والفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضية فيما بعد، وانتزع إعجاب كل أساتذته ومعلميه.

عندما كان عمره 18 عامًا توفّي والده إثر وباء الطاعون الأسود الجارف الذي انتشر عام 749هـ، وكان والده قد زهد السياسة التي كانت الأسرة ضالعةً في شئونها، واهتمّ بالفقه والعربية، ومنه ورث ابنه عبد الرحمن شغفه بالعلم، بخلاف إخوته الباقين الذين تولّى أحدهم الوزارة بالفعل.

وعلى إثر الطاعون المذكور، هاجر معظم العلماء والأدباء من تونس، فانقطع ابن خلدون عن الدراسة والتعلّم، وأراد أن يشغل باله عن المآسي التي جرت، فاتجه إلى العمل بالسياسة مثل سائر أسرته، فاستحوذت الوظائف الحكومية والديوانية والمغامرات السياسية على وقته ونشاطه لمدة 25 عامًا من حياته (من 751هـ إلى 776هـ)، وإن كان يتحيّن الفرص أثناء ذلك في الدراسة والتدريس.

 

مقدّمة ابن خلدون

لما بلغ ابن خلدون 45 عامًا، كان قد اكتفى من تجربته قرابة ربع قرن في دهاليز السياسة ودسائسها ومغامراتها، فقرّر التفرّغ للكتابة والتأليف. فمنذ عام 1374م (776هـ)، انقطع ابن خلدون مع أسرته في قلعة بني سلامة بالجزائر لتأليف كتابه الشهير “كتاب العبر”.

كتاب ابن خلدون
كتاب ابن خلدون

كان ابن خلدون قد نضجت معارفه، واتسعت دوائر اطلاعه، وارتقى تفكيره، وأفاد غزير الإفادة من تجاربه ومشاهداته في شئون الاجتماع الإنساني، وفي غمار السياسة بين القصور والدول المغربية والأندلسية، يدرس أمورها ويستقصي سيرها، ويتغلغل بين القبائل يتعرّف على طبائعها وأحوالها وتقاليدها.

وقد حمله ذهنه المتوقّد، وتفكيره الخصب، وملاحظته الشديدة، على التعمّق في تأمل كل هذه الظواهر، واستخلاص أنماطها، والبحث في أسبابهان والتمييز بين العارض منها والمتأصّل، ثم استنتاج القوانين العامّة الحاكمة لها. من هنا جاءت مقدّمة كتابه في تاريخ العبر، والتي باتت تعرف بشكل مستقل باسم “مقدّمة ابن خلدون”، باتت مرجعًا تأسيسيًا وفتحًا عظيمًا في البحوث الاجتماعية.

استغرق الكتاب من ابن خلدون أربع سنوات انتهت في أواخر عام 780هـ، بينما لم تتجاوز المقدّمة ذاتها أكثر من خمسة أشهر فقط، في منتصف عام 779هـ، وقد أبدى هو نفسه عن دهشته وإعجابه من مدى التوفيق الذي حالفه في إتمام المقدّمة على هذا المستوى الرفيع خلال هذه المدة القصيرة.

بعدما أنهى ابن خلدون تأليف كتابه، احتاج في مرحلة المراجعة والتنقيح إلى الرجوع إلى الكتب والمصادر الموسّعة الضرورية، لذا كان لابدّ له من العودة إلى مسقط رأسه تونس حيث المكتبات الزاخرة. وفي تونس، عكف ابن خلدون على البحث والتدريس حتى أتمّ تنقح كتابه وتهذيبه، وأهدى نسخة الكتاب إلى السلطان أبي العباس في أوائل عام 1382م (784هـ)، وهي النسخة المعروفة الآن باسم النسخة التونسية.

 

ابن خلدون في مصر

كان السلطان أبو العباس في تونس، قد احتاج من ابن خلدون أن يتعاون معه في أمور السياسة والحرب، لكن ابن خلدون كان عازمًا على عدم التورّط في شئون السياسة مجددًا، فاحتال لنفسه حيلةً واستأذن السلطان أن يسمح له بالخروج لأداء فريضة الحجّ، وبالفعل خرج ابن خلدون من تونس في سفينة متوجهة إلى مصر، ولم يعد أبدًا.

تمثال ابن خلدون في مصر
تمثال ابن خلدون في مصر

وصل ابن خلدون الإسكندرية في نوفمبر 1382م (1 شوال 784هـ)، وأقام فيها شهرًا لإعداد مؤونته لإكمال مسيرة الحجّ، أو ربما كان يتظاهر بذلك لأنه لم يكمل رحلة الحجّ بالفعل. وانتقل بعدها إلى القاهرة التي انبهر بها وكتب عنها في كتابه التعريف “فانتقلت إلى القاهرة… ، فرأيتُ حاضرةَ الدنيا، وبستان العالَم، ومحشَر الأمم، ومَدرَج الذّرِّ من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسيّ المُلك”.

في ذلك الوقت، كان ابن خلدون في عُمر 52 عامًا، وكان لا يزال موفور النشاط والقوّة، ومتطلّعًا إلى مراتب العزّة والنفوذ، في ظل دولة المماليك الذين يقدّرون العلم والمعرفة، لكن عن طريق عبقريته العلمية هذه المرة، لا عن طريق المغامرات السياسية التي عافتها نفسه، وهاجر من تونس فرارًا من ويلاتها.

في القاهرة، تهافتت قلوب العلماء وأهل العلم إلى ابن خلدون واحتل منزلةً جليلة بينهم، وتصدّر حلقة للتدريس في الجامع الأزهر، فظهر للجميع غزارة علمه وسعة اطلاعه وقوّة بيانه، وعمق تأثيره، ولباقة لسانه، وروعة محاضرته، وبلاغة عباراته.

كان السلطان برقوق في عامه الأول من الحكم، وأعجب بابن خلدون، فعيّنه لتدريس الفقه المالكي، ثم ولاه منصب قاضي قضاة المالكية في العام 786هـ، فكان صارمًا في هذا المنصب، متوخيًا العدالة في أدق معانيها، حريصًا على المساواة بين جميع الناس، عازفًا عن طرائق الحيل والالتواء والمحاباة.

لكن وقع حادثٌ أليم. فقد أرسل ابن خلدون يستقدم أسرته من تونس، فغرقت بهم سفينتهم في البحر قبالة الإسكندرية بما فيها من مال ومتاع وكتب، فاشتد حزن ابن خلدون، وزهد في المنصب، وعلى إثر بعض الوشايات لدى السلطان، أعفيَ من منصبه في القضاء في 787هـ.

ظلّ ابن خلدون قرابة 14 عامًا بعيدًا عن منصب قاضي قضاة المالكية، ينتقل بين وظائف التدريس المختلفة، حتى عيّنه السلطان برقوق في المنصب مجددًا في النصف الثاني من عام 801هـ، وظلّ في المنصب عامين، حتى عزله السلطان فرج ابن برقوق. ثم عاد وتولّى المنصب أربع مرّات خلال ثماني سنوات، بسبب صراعات بينه وبين خصومه على المنصب.

 

التنقيح الأخير لكتاب ابن خلدون

بلغت مدّة إقامة ابن خلدون في مصر قرابة 25 عامًا هجريًا، لم ينقطع فيها عن مراجعة كتابه الضخم “العبر وديوان المبتدأ والخبر”، ومقدّمته العبقرية. وإضافة إلى النسخة التونسية التي أشرنا إليها، أضاف ابن خلدون عدّة فصول، وتوسّع في ذكر تاريخ الدول الإسلامية في المشرق وتاريخ الدول القديمة والأعجمية، وواصل سرد التاريخ حتى قبل زمن وفاته بأمدٍ قصير.

كذلك نقّح المقدّمة، وأضاف فيها فصولاً وفقرات، وأعاد تحرير بعض فصولها تحريرًا جديدًا. ونقّح أيضًا كتاب “التعريف” الذي ألحقة بكتاب العبر، ودوّن أخباره وسبرته حتى قبل وفاته بشهور قليلة.

وقد أهدى ابن خلدون نسخة من كتابه إلى السلطان برقوق، ثم نسخة أخرى أكثر تنقيحًا إلى السلطان أبي فارس سلطان المغرب الأقصى، ولعلّ هذا هو سبب تعدّد نسخ الكتاب، واختلاف حجمها.

تمثال ابن خلدون في روسيا
تمثال ابن خلدون في روسيا

تلويحة الرحيل

في 16 مارس 1406م (26 رمضان 808هـ)، توفّي ابن خلدون فجأة، عن عمر 76 عامًا، ودُفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر في القاهرة، في الجهة المؤدية إلى منطقة العباسية الآن، ولا يُعرف الآن على وجه اليقين مكان قبره.

 

طباع ابن خلدون المدهشة

مما يثير الدهشة والتأمّل، اختلاف طباع ابن خلدون ونزعاته السلوكية، باختلاف فترات حياته والبيئة التي ينخرط فيها، حتى إنه يكاد ينتقل من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال.

من ذلك على سبيل المثال، سلوكه التقيّ في مرحلة النشأة والتكوين، وانقطاعه للعلم والتعلّم، وشغفه الشديد بالالتزام بأخلاق طلبة العلم وأبناء العلماء والنبلاء.

بينما نجده في المرحلة التالية، التي انخرط فيها في دهاليز السياسة والحكّام، قد تحكّمت فيه نزعة الوصولية وانتهاز الفرص. وهي نزعة صرّح هو نفسه بها ولم يحاول إخفاءها، وإن كان يلتمس لها المعاذير والمبررات. فقد كان ينتهز الفرص بأية وسيلة، ويدبّر الوصول إلى مقاصده من أي طريق. فكان لا يمانع في سبيل أن يحصل على مراده وغايته الخاصة أو في سبيل تفادي ضرر متوقّع، أن يسيء إلى مَن أحسنوا إليه، ويتآمر ضد مَن غمره بفضلهم، ويدسّ الدسائس، ويتنكّر لمن قدّموا له المعروف. وظلّت هذه النزعة رائدة في مغامراته السياسية وعلاقاته بالملوك والأمراء منذ انخرط في سِلك السياسية وحتى انقطع عنها.

بينما نجده في مرحلة تالية، وخصوصًا في مصر، وقد فرض على نفسه بصرامةٍ وحزم، ألا ينخرط في شئون السياسة ودسائسها مجددًا، فأدّى به ذلك إلى التزام الصرامة في أداء واجباته كقاضٍ لقضاة المالكية، دون مجاملة أو محاباة لأحد، مع تقصّي الحقائق وعدم التغافل، ودون أن ينخدع بألاعيب الفسدة والمرتشين، كما حكى هو بنفسه بتفصيل في كتابه “التعريف”. رحم الله ابن خلدون.

 

مصادر

  • التعريف بابن خلدون ورحلته شرقًا وغربًا، عبد الرحمن بن خلدون، منشورات دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، بيروت، 1979م.
  • عبقريات ابن خلدون، علي عبد الواحد وافي، مكتبات عكاظ للنشر والتوزيع، الرياض، 1984م.