أرتور شوبنهاور، فيلسوف التشاؤم وباعث البوذية في الفلسفة الحديثة. أرجع مؤرّخو الأفكار ميول مزاج شوبنهاور إلى هذه التصوّرات الفلسفية إلى حالات مرض عقلي في أسرة أبيه وأسرة أمه، واعتبره نيتشه نموذجًا للفيلسوف المربّي المثالي الذي يحلم بتوافره في عصره. فيما يلي نتعرّف على شوبنهاور وتكوينه الحياتي والنفسي وأبرز ملامح فلسفته ومؤلفاته.
شوبنهار: التكوين الحياتي
ولد أرتور شوبنهاور في دانزج في 22 فبراير 1788م، وكان أبوه تاجرًا مقتدرًا حادّ الطباع، وبينما كان في الخامسة من عمره، غادر أرتورو مع أسرته دانزج بعد الاحتلال البولندي لها في 1793م، ومات والده منتحرًا عام 1805م، كما توفيت جدته بعدما أصابها الجنون.
يحكي شوبنهاور أنه ورث عن أبيه خُلقه وإرادته، وعن أمه ذكاءها، وكانت علاقته بأمه مرتبكةً بسبب علاقاتها المتحررة، وهو ما تسبّب لاحقًا في تأزّم علاقته بالنساء مطلقًا، بل ومقته الشديد لهنّ.
لاحقًا، درس شوبنهاور الفلسفة في جامعة جوتنجن (1809 – 1811)م، ثم جامعة برلين (1811 – 1813)م، واهتم بدراسة الفلسفات الغربية والفلسة الهندية.
بدأ شوبنهاور بوضع أسس مذهبه في نظرية المعرفة، فدوّن رسالة الدكتوراة في “الأصول الأربعة في مبدأ السبب الكافي” عام 1811م، ثم عكف على تفصيل المذهب فأخرج المجلد الأول في كتابه الأكبر “العالم إرادةً وتصوّرًا” عام 1819م متضمنًا نظرية المعرفة ونظرية العالم، وبعد 25 عامًا أخرج المجلد الثاني في الفن وفي الأخلاق ليتمّم بهذا مذهبه من كل جوانبه.
خلال تدريسه في جامعة برلين في الفترة من 1820م إلى 1831م، لم يحقق شوبنهاور أي نجاحٍ كمدرّس للفسلفة، وعزى ذلك إلى ائتمار أساتذة الفلسفة عليه، وشن هجومًا عليهم، وصدّر نفسه باعتباره وريثًا للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، وباعتباره أو فيلسوف كبير يعده ينقطع عن التعليم ويستمر في التأليف والكتابة.
ووفق هذا المسار، نشر شوبنهاور كتابه “الإرادة في الطبيعة”، الذي جمع فيه من العلوم الطبيعية ما اعتبره شواهد على نظريته في الإرادة الكلية، ثم كتاب “المشكلتان الأساسيتان في فلسفة الأخلاق” عام 1841م، الذي فصّل فيه آراءه الأخلاقية، وهو ما ترتب عليه ذيوع صيته وانتشار شهرته.
كيف مات شوبنهاور
اعتاد شوبنهاور على العيش وحيدًا نزيلاً في فندق، وظلّ على هذه الحال خلال آخر 30 سنة من حياته. وفي صباح أحد الأيام، (21 سبتمبر 1860م)، لاحظت مدبّرة الفندق أنه لا زال جالسًا في مكانه كما هو على نفس وضعيته بعدما أنهى إفطاره. وعندما ذهبت لتتفحّصه اكتشفت أنه بقي مكانه، فقط لأنه قد فارق الحياة.
شوبنهاور: التكوين النفسي
كان شوبنهاور ساخرًا مرتابًا كئيبًا، دائمَ القلق، تحيطه المخاوف دائمًا، ويخشى على نفسه من شرور الناس وغدرهم، وكان ينام دائمًا ومسدسه محشوّ بالرصاص إلى جانبه. كانت لديه شهوة جامحة يعجز عن ضبطها، مع نزعة قوية إلى التأمّل، وكان لا يحتمل الضوضاء والضجيج، ويعاني من عقدة الاضطهار والعظمة؛ يحسّ في أعماق ذاته بعظمته، على الرغم من عدم اعتراف الناس به.
عاش شوبنهاور منعزلاً وحيدًا بلا أم أو زوجة أو أبناء، بلا أسرةٍ أو صديقٍ أو وطنٍ، ولم يعتبر نفسه محظوظًا، ولم يتلقّ تربيةً تجعله باحثًا، بل أمضى مراحل من نشأته في تجارة أبيه، وهو الأمر الذي جعله يحترم البشر في المقام الأول، وليس الكتب.
أيضًا، ساعده هذا في أن ينشأ متحررًا من إلحاح البحث عن لقمة العيش، ولاحقًا كان متحررًا من سطوة الأكاديمية الجامعية، كما كان متحررًا من النزعات القومية الضيقة نظرًا لسفره الدائم مع أسرته في كثيرٍ من الدول، وهو ما أشعره بتسامٍ عن القيود، أهّله لنقد وتقييم الروح الفاسدة لعصره.
موجز فلسفة شوبنهاور
بالنسبة إلى شوبنهاور، فإن جوهر العالَم هو الإرادة العمياء واللاعقلانية، والمثالية الإرادية في هذا العالم هي مجرّد شكل من أشكال اللاعقلانية. وبالمقابل، فالإرادة الحاكمة للهالَم تستبعد قوانين الطبيعة وقوانين المجتمع، وبالتالي تستبعد حقيقة إمكان المعرفة العلمية.
ينظر شوبنهاور إلى العالم متشائمة للغاية، مشبعة بكراهية للثورة وللناس، رافضة للتقدّم التاريخي. وبالمقابل، كانت السكينة المطلقة هي قمّة الفلسفة عند شوبنهاور، وهي تعني بالنسبة له “وأد إرادة الحياة”، وقد استمدّها من الفلسفات الهندية، وهي المعاني التي شكّلت لاحقًا محاور أساسية في فلسفة نيتشه.
شوبنهاور والجمال
ارتبط مفهوم الجمال عند شوبنهاور بالميتافيزيقا المثالية التي كان يتبناها. ففي كتابه “مذهب الفنون الجميلة”، يعرض شوبنهاور موقفه الجمالي، حيث يسمو بالقيمة الجمالية ويضعها في أعلى مستوى يمكن أن يرقى إليه الإنسان.
تأتي فلسفة شوبنهاور الجمالية تفريعًا على مذهبه الفلسفي العام، الذي يقرر فيه أن العالم إرادةً وتمثّلاً، والفنان في هذا السياق مثله مثل الفيلسوف، يشاركه في عبقريته التي تتمحور حول القدرة على التأمل الميتافيزيقي من خلال صور عقلية.
الغاية من الفن عند شوبنهاور هي الوصول إلى نوعٍ من الفناء التام أو الغبطة الشاملة التي تتحقق إرادة الفنان عن طريقها، وذلك من خلال إبداعه الفني.
يضع شوبنهار الموسيقى على قمة الفنون جميعها، فالعالم في نظره موسيقى متجسّدة عن إرادةٍ نقيّة تحَقّق تمثّلها ووجودها في العالم. ويرتبّ شوبنهاور الفنون بعد ذلك كالتالي: فن العمارة ثم فن النحت، ثم الرسم، ثم شِعر التراجيديا.
العبقرية كما يراها شوبنهار
في كتابه “شوبنهاور مربيًا”، تساءل الفيلسوف الألماني الشهير فريدريك نيتشه: كيف يمكن للإنسان أن يربّي نفسه في هذا العصر القائم؟ كيف يمكنه انتشال ذاته في من القلق المرافق لانعدام المعنى؟ بل مِن أين لنا بهذا الفيلسوف الذي نقتدي به مُربّيًا وفق هذا الاعتبار؟ كانت الإجابة على كل هذه الأسئلة تتمثّل عند نيتشه في كلمة واحدة: “شوبنهاور”.
وفقًا لنيتشه، فقد كان أبرز ما ميّز شوبنهار باعتباره الفيلسوف المُربّي المثالي، هو الصدق الهائل الحاضر بقوة في لغة شوبنهاور المترفّعة عن التصنّع والالتفاف حول الحقيقة؛ وهو الأمر الذي تسبّب في عزلة شوبنهاور عن الأوساط العلمية والثقافية، وحرمانه من القبول الذي يستحقه بين أقرانه.
يرى شوبنهاور أنّ الغاية الكبرى للمجتمع يجب أن تتوافق مع الإرادة النهائية للطبيعة، متمثلةً في “تصنيع العبقري الذي يحقق عملية العثور على المعنى ويواظب على الشغف نحو الكمال”. هذا التصنيع للعبقري يتمّ داخل وسَط “الثقافة”، بحيث يكون العبقري واحدًا من ثلاثة أنماط: الفيلسوف الذي يحسن الإدراك، والفنان الذي يجيد الإحساس، والقديس الذي يُفني ذاته من أجل هذا الإحساس والإدراك.
يقول شوبنهاور “كلما كان الكاتب أو الفيلسوف عبقريًا ويكتب للأجيال القادمة، أو بعبارةٍ أوضح للإنسانية بوجهٍ عام، كان غريبًا بالنسبة إلى معاصريه الذين يعيش بينهم؛ لأنّ كتابه ليس موجّهًا لهم وحدَهم، بل يخاطبهم كجزءٍ من الإنسانية عامةً. بالتالي ستكون كتابته خاليةً من الصبغة المحلية التي تستهويهم وتسترضيهم وتنال قلوبهم”.
أبرز مؤلفات شوبنهاور
- الأصول الأربعة في مبدأ السبب الكافي، 1811م.
- العالم إرادةً وتصوّرًا، 1819م.
- فن أن تكون دائمًا على صواب، 1931م.
- الإرادة في الطبيعة، 1836م.
- المشكلتان الأساسيتان في فلسفة الأخلاق، 1841م.
- العالم إرادةً وفكرًا، 1844م.
- مشكلة الأخلاق الأساسية، 1849م
- النتاج والفضلات، 1851م.
أقوال شوبنهاور
- يصعب على المرء أن يبقى هادئًا إذا لم يكن لديه ما يفعله.
- يندُر أن يفكّر المرء في يملك، بل يفكّر فيما ينقصه.
- المهارة هي أن تصيب هدفًا تصعُب إصابته، لا يسهل لأيّ أحدٍ أن يصيبه؛ بينما العبقرية فهي أن تصيب هدفًا تصعب رؤيته.
- فقط، عندما يكون المرء وحده، يمكنه أن يكون على طبيعته.
- في سبيل أن نصير مثل الآخرين، نتخلى عن ثلاثة أرباع ذواتنا.
- أن تضحّي باللذة في سبيل أن تتجنّب الألم؛ هذا مكسبٌ حقيقي.
مصادر
- شوبنهاور بين الفلسفة والأدب، كامل محمد محمد عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993م.
- شوبنهاور مربيًا، فريدريك نيتشه، ترجمة قحطان جاسم، منشورات الاختلاف، العراق، 2016م.
- شوبنهاور وفلسفة التشاؤم، وفيق غريزي، دار الفارابي، بيروت، 2008م.