نقدّم لك جورج سانتيانا فيلسوف علم الجمال
نقدّم لك جورج سانتيانا فيلسوف علم الجمال

لا تزال فلسفة جورج سانتيانا في الفن والجمال، حيّةً حتى اليوم في الحوارات الأكاديمية والثقافية بشكل واسع في الثقافة الأمريكية والغربية، خصوصًا وأنه تمكّن من بعث أفلاطون وأرسطو في فلسفته وتقديم نوعٍ من الحياة الروحية التي تعتمد على العاطفة الشعرية دون أن يكون مؤمنًا بشكلٍ حصريٍ. الأمر الذي جعل إنتاجه الفلسفي والأدبي قِبلةً يقصدها المبدعون والكُتّاب والمفكّرون للتزوّد منها في مرحلة ضرورية من مشاريعهم الإنتاجية. وهو ما يفسّر أيضًا تأثّر كثيرٍ من الاتجاهات الجمالية والنقدية بفلسفة سانتيانا في الفن والجمال، حتى وإن لم يصرّح أصحاب هذه الاتجاهات بذلك. فيما يلي نتعرّف سريعًا على تكوين جورج سانتيانا وفلسفته في الجمال والقيم.

حياة جورج سانتيانا الثرية

ولد جورج سانتيانا (اسمه بالكامل: خورخي رويث دي سانتيانا)، في 16 ديسمبر 1863م في مدريد بإسبانيا. كان أبواه ينظران إلى كل الأديان على أنها من صنع الخيال البشري، وأنّ القرابين والكنائس وقصص الخلود قد اخترعها القساوسة ليتحكموا في الحمقى. وهكذا تشكّلت النزعة الطبيعية المادية الإلحادية لدى سانتيانا منذ نعومة أظفاره.

نشأ جورج سانتيانا بنزعة مادية طبيعية إلحادية متأصّلة
نشأ جورج سانتيانا بنزعة مادية طبيعية إلحادية متأصّلة

في التاسعة من عمره انفصلت أمه عن أبيه، وهاجرت إلى أمريكا عام 1872م بصحبة جورج وثلاثة أبناء لها من زواجٍ سابق، كانوا يكبرون جورج بفارق كبير. نشأ جورج منعزلاً بدرجةٍ واضحة، وكان زاده العقلي هو قصص المغامرات الخيالية وبلاد الجان الساحرة، والتفكير في عجائب البشر وخوارق الأشياء.

تلقى جورج دراسته الأولية في مدرسة بوسطن اللاتينية، وعاش في أجواء متحفظة، ثم لما انتقل للدراسة في جامعة هارفارد تخلّص من قدرٍ من هذا التحفّظ، وإن ظلّ هادئًا متباعدًا، باقيًا على نزعته المادية الطبيعية المتأصّلة منذ الصغر. وفي تلك المرحلة كان يحب التحدّث أكثر مع النساء، في حين كان موقفه من الرجال موقف الساخر المتسامح، وانسحب موقفه هذا على أساتذته في هارفارد، فكان قليل التعظيم لآرائهم.

عاش سانتيانا كأميرٍ هائمٍ في العوالم السحرية، شاعرًا يحاول التحدث بطريقة العلماء، محاولاً التعايش مع قدره الذي وضعه في هذا الزمان بينما كان يتمنى أن يعيش في زمن أفلاطون وأرسطو وديموقريطس ليتحاور معهم.

لم يتزوّج جورج سانتيانا، واحتفظ بشغفٍ واضح لكرة القدم. وبعدما تخرّج في هارفارد في 1886م، انضم إلى سلك التدريس فيها عام 1889م، وظلّ حتى قدّم استقالته من التدريس في هارفارد عام 1912م، وغادر أمريكا في العام التالي إلى أوروبا، وأقام في روما التي اعتبرها بيته الذي يحتفظ عبق الماضي الجليل الذي يشعر بالانتماء إليه، وظلّ فيها متفرّغًا للبحث والتأليف والترجمة حتى توفي في 26 سبتمبر 1952م.

فلسفة الجمال عند سانتيانا

كان جورج سانتيانا معاصرًا للكثير من الفلاسفة الكبار الذين تركوا بصمات واضحة على تاريخ الفكر الفلسفي، إذ عاصر ظهور المذهب النفعي (البرجماتي) على أيدي وليم جيمس وبيرس وجون ديوي، كما عاصر ضهور الفلسفات التحليية والوضعية وفلسفات الوجود. وفي وسط كل هذا كان سانتيانا يدعو إلى التحرر من وهم سيطرة الأفكار القديمة، ويقدّم نقده العميق للنزعة الطبيعية.

الجمال عند جورج سانتيانا يتمثّل في الانسجام والكمال
الجمال عند جورج سانتيانا يتمثّل في الانسجام والكمال

كانت فلسفة جورج سانتيانا بشكل إجماليّ مزيجًا فريدًا من الأفلاطونية والارتيابية والكاثوليكية. فهو يشبه أفلاطون في إيمانه بعالم الأفكار، ويرى الكاثوليكية كأنها حلم جميل، ويرى أنها مع صدقها من الناحية الشعرية فهي كاذبة من الناحية العملية.

وبالنسبة لفلسفته الجمالية، فقد كان سانتيانا متحفظًا رافضًا لإدخال فلسفة الفن ضمن فروع الفلسفة الأخرى، بل إن فلسفة الجمال ذاتها التي يتدارسها الناس لا تعدو أن تكون مجموعة من الدراسات المختلطة التي عملت على إيجادها بعض الظروف التاريخية والأدبية، ولذا نجد أن الظاهرة الجمالية يشترك في بحثها: الفيلسوف وعالم النفس ومؤرخ الفنّ والناقد الأدبي. هنا لابدّ من التعامل مع الجمال باعتباره عِلمًا مستقلاً.

مفهوم الجمال عند سانتيانا يماثل نفس المفهوم عند أرسطو وأفلاطون، وهو أن الجمال يتمثّل في الانسجام والكمال. فالجمال قيمة إيجابية خالصة للوظائف الحيوية بالأساس. يحصُر سانتيانا مقوّمات الجمال في ثلاثة عناصر:

  1. المادة: ويشير بها إلى اللذات الحسية التي توفرها لنا الحواس المختلفة مع ملاحظة اختلاف كل منها في درجة ونوع اللذة، وأشدها لذة البصر.
  2. الصورة: حيث يستند إدراك العنصر الصوري إلى فسيولوجية الأجهزة الحسيّة.
  3. التعبير: الذي هو مجموعة من التأثيرات الانفعالية التي تضفي على المضمون الجمالي لأي عملٍ فنّي، دلالةً وجدانية خالصة، تختلف باختلاف الذكريات والارتباطات التي تتولّد في ذهن المتذوّق لهذا العمل.

فلسفة القيم عند سانتيانا

بالنسبة لجورج سانتيانا، فإنه لا يرى فيلسوفًا حقيقيًا عاش في القرون الأخيرة يستحق أن يسمّى فيلسوفًا سوى سبينوزا. ثمّة مقولة لسبينوزا يقول فيها “إننا لا نرغب في الشيء لكونه خيرًا، بل إن الشيء يكون خيرًا لأننا نرغب به”. هذه المقولة تعتبر جوهر التوجّه الذي يراه سانتيانا.

يرى سانتيانا أن القيم تلازم التقدير والتفضيل، وتنبع من الاستجابة المباشرة للدافع الحيوي، التي هي استجابة لا يمكن تفسيرها عقلانيًا، لكونها تنبع من الجانب اللاعاقل من طبيعة الإنسان. ولذا من الواجب أن تردّ القيم جميعها إلى التذوق المباشر، أو إلى النشاط الحيوي الحسّي.

يردّ جورج سانتيانا مرجعية القيم كلها إلى التذوق المباشر
يردّ جورج سانتيانا مرجعية القيم كلها إلى التذوق المباشر

يميّز سانتيانا القيم الجمالية عن كل من القيم الأخلاقية والقيم العملية. فالقيم الجمالية قيمٌ إيجابية تمدّنا بلذّاتٍ حقيقية. والقيم الأخلاقية قيمٌ سلبية تقتصر مهمتها على تجنّب الألم ومحاربة الشر. وهكذا يكون عالم الأخلاق هو عالم الواجب والإلزام والتكيّف والصراع ضد الخطيئة، بينما عالم الفن هو عالم الحرية والانطلاق والاستمتاع واللذة الخالصة النقية. وهذا أيضًا تقترن الأخلاق بالنشاط الجدّي الشاقّ، بينما يقترن الفن باللعب والنشاط الحرّ المنطلق.

أهم مقولات سانتيانا

  • «مَن لا يقرأ التاريخ، محكومٌ عليه أن يكرّره».
  • «التملّك يستعبد الإنسان».
  • «إنني كالبابا؛ أزارُ ولا أردّ الزيارة».
  • «ليس للمَولِد والممات من علاجٍ سوى الاستمتاع فيما بينهما».
  • «الحقيقةُ قاسية، لكن بالإمكان أن نحبّها، وهي تجعل مَن يحبونها أحرارًا».
  • «لا حاجةَ بنا إلى فلسفةٍ جديدةٍ؛ بل نحن بحاجةٍ إلى الشجاعة في أن نعيش متمسّكين بأقدَمِ المُثُل وأحسنِها».
  • «يحدثُ في لحظاتٍ أقلّ توفيقًا أن تخضعَ الرّوحُ لما هي تعملُ فيه، فتفقد قدرتَها على الأمل والتصوّر المثالي. وحينئذٍ ننتقدُ أنفسَنا على نحوٍ مُحزنٍ غير معقول، ونعاقبها لما في طبيعتها من نقص».
  • «إنّ الأصالةَ التي مصدرها ضعفٌ في إحدى الملَكات، توجَد في ألف شخص، بينما الأصالةُ التي منبعها العبقرية لا توجّدُ إلا في فردٍ واحد. وفي البحثِ عن الجمال – كما هي الحال في البحث عن الحقيقة-، يوجد عددٌ لا يُحصى من السُبُل يؤدّي إلى الفشل، بينما يوجد طريقٌ واحدٌ للنجاح».
  • «إذا شغَلَت خيالَ المرءِ صُورةُ شخصٍ واحدٍ، كانت لصفات [ذاكَ الشخص] القدرة على إيجاد هذه الثورة في نفسِ هذا المرءِ؛ إذ تتجمّع القيمُ في هذه الحالة حول هذه الصورة، ويصبح موضوعَ اهتمام المرءِ كاملاً في نظره، وحينئذٍ نقول “إن هذا المرء في علاقة حُب».

أبرز مؤلفات سانتيانا

ترك جورج سانتيانا العشرات من المؤلّفات باللغة الإنجليزية، تنوّعت بين الشعر والفلسفة والسيرة الذاتية والراوية والرسائل، وأعمال الترجمة. من أبرز هذه المؤلّفات:

  • الإحساس بالجمال. (1896م)
  • حياة العقل. (1905)
  • أنا والعقل في الحسّ المشترك.
  • العقل في المجتمع.
  • العقل في الدين.
  • العقل في الفن.
  • العقل في العلم.
  • مقدّمة في أخلاقيات سبينوزا. (1910م)
  • حوارات في عالم النسيان. (1926م)
  • رواية المتطهّر الأخير. (1936م)
أعاد جورج سانتيانا إلى الفلسفة بعض الجمال المفقود
أعاد جورج سانتيانا إلى الفلسفة بعض الجمال المفقود

أخيرًا، يصرّح الفلاسفة المعاصرون لجورج سانتيانا أنّه منذ أفلاطون، لم ترتدِ الفلسفة رداءً جميلاً موشّىً بجمال الألفاظ وإبهار الشِعر، حتى جاء جورج سانتيانا بأسلوبه الممتزج بالحكمة، وعباراته السلسة التي تفوح ذكاءً ويحوطها العقل والنقد.

مصادر

  • العمدة في فلسفة القيم، د. عادل العوا، دار طلاس للدراسات والنشر والترجمة، دمشق، 1986م.
  • الإحساس بالجمال: تخطيط لنظرية في علم الجمال، جورج سانتيانا، ترجمة محمد مصطفى بدوي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2011م.