يوصف الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون بأنه أعظم الفلاسفة المعاصرين، وأنه شكّل خطًا فارقًا في الدرس الفلسفي، بحيث صار ما كان قبل برجسون، مختلفًا عما بعد برجسون، سواءً في قضايا الفلسفة والدين، أو في قضايا الزمان والوجود. فيما يلي نتعرّف على الفيلسوف هنري برجسون، ومذهبه الفلسفي، وأبرز آرائه في القضايا الفلسفية المتنوّعة.
هنري برجسون سيرة موجزة
ولد هنري برجسون في باريس في 18 أكتوبر عام 1859م، من أبويين فرنسيين يهوديين، وكان طالبًا متفوقًا، وتخصّص في البداية في الرياضيات والعلوم الطبيعية، ولكن نظرًا لقدرته التحليلية العالية، وجد نفسه في مواجهة مع المشاكل الفيزيقية الكامنة وراء كل علم من هذه العلوم، فاتجه إلى دراسة الفلسفة.
في عام 1898م، التحق برجسون بمدرسة المعلمين العليا، ثم تخرّج منها، وعيّن أستاذًا للفلسفة، ثم أستاذًا في الكوليج دي فرانس، وفي تلك الفترات كان كتب أول مؤلّفاته “الزمن والإرادة الحرّة”، ثم “المادة والذاكرة” الذي يعدّ أصعب كتبه.
في 1907م، ذاع صيت برجسون في العالم، بعد أن نشر كتابه “التطوّر المبدع”، وصار واحدًا من أوسع الشخصيات شعبية في أوساط الفلسفة، بعد أن سدّد ضربةً قويّة للمذهب المادي. بعدها بسبعة أعوام، انتخب برجسون عضوًا في الأكا]يمية الفرنسية.
يُرجع النقّاد سرّ الشعبية الخاطفة والكبيرة لبرجسون، إلى أنه دافع عن الآمال التي كانت تخفق في قلوب الإنسانية، عندما وجد الناس من يوطّد في قلوبهم الإيمان بالله والخلود، دون أن يفقدوا ثقتهم في الفلسفة.
تزامن تواجد برجسون مع عصرٍ انتشر فيه المذهب التلفيقي والمنهج الجدلي والمنهج التحليلي، مع تولّد ثلاث تيارات: المذهب النقدي الجديد الذي يأخذ بتصوّريّة كانط ونسبية المعرفة، والمذهب العقلي الجديد المدافع عن الروحانية من خلال الواقع والتجربة، والمذهب المعتني بالكشف عن ماهية التجربة الباطنة منح يث هي تجربة مباشرة، وهو المذهب الذي يمثله برجسون.
وقد وصفه ويل ديورانت قائلاً: “إن برجسون أعظم الفلاسفة المعاصرين. لقد كنا نفكر قبل برجسون بأن العالم رواية تمّ صنعها وتحدّد مصيرها، لا نملك من أمرها زمامًا ولا مبادرة، وأن جهودنا تذهب عبثًا. ولكننا بعده أخذنا نرى العالم كمسرح ومادة أنشأناهما بقوانا. لقد كنا قبله أسنان عجلات لآلة واسعة لا حياة فيها، ولكننا الآن نستطيع إن أردنا أن نساهم في كتابة رواية الخلق”.
حصل هنري برجسون على جائزة نوبل في الأدب عام 1927م، وتوفي في 4 يناير عام 1941م، بالعاصمة الفرنسية باريس.
طبيعة مذهب برجسون الفلسفي
تتميّز فلسفة برجسون بتوسّطها بين الفلسفات جمعاء، ويولّف بينها في انسجام تام لا يظهر فيه الاختلاف ولا التعارض، وكان هذا هو الجديد الذي قدّمه: أنه نظّم كل المذاهب الفلسفية المختلفة.
في فلسفة برجسون لا يوجد مذهب مغلق مستمر معه، وإنما هو مذهب متفتّح، والتجربة الفلسفية عنده ليست إلا محاولة قد تخطئ وقد تصيب. فالمذهب المغلق من شأنه: استنباط البسيط من الركّب، والعام من الخاص، والضروري من الممكن. كانت غاية برجسون أن يكوّن فلسفةً تسير تقدّم ولا تخضع للجدل القائم بين المدارس الفلسفية، ويكون بإمكانها التوصّل إلى حلول للمشكلات الفلسفية، مع التخلّص من التصوّرات المصطنعة المعتادة في صياغة هذه المشكلات.
الفلسفة والعلم لدى بيرجسون
كلٌ من الفلسفة والعلم يقتنص نصف الواقع، بالتالي يتصف كل منهما بالوضعية. تتميّز الوضعية لدى برجسون بأنها لا تضيق من شمول التجربة، فللتجربة الميتافيزيقية قيمتها التي تعادل قيمة التجربة العلمية. حيث الرؤية تماثل الحسّ في قوة الإدراك وقوة اليقين.
يُفضي مفهوم الوضعية لدى برجسون، إلى إيجاد علاقة بين الفلسفة والعلم، وتتحدّد هذه العلاقة في المستوى الأنطولوجي، تفاديًا للوقوع في التناقض.
بالنسبة لبرجسون، فإن وظيفة الفيلسوف وممارسته في المجال الفلسفي، من الصعب أن تنتهي عند نقطة محددة لأن الفيلسوف دائم التقدّم على خطوط التجربة، والتجربة هي نقطة التقابل بين مجموعة من التصوّرات، بالتالي يصعب وضع تعريف واضح مميز لأي تصوّر من هذه التصورات لأن التعريف قابل للتعديل بشكل ضروري. هذه العملية من شأنها أن تقرّب الفيلسوف من اليقين دون الوصول النهائي إليه.
الفلسفة والدين عند برجسون
يفصل برجسون بين الفلسفة والدين، باعتبار أنّ لكل منهما موضوعًا خاصًا ومنهجًا خاصًا. وقد عالج برجسون فكرة الخلط بين الفلسفة والدين من طريق غير مباشر، حيث اعتبر أن التصوّف امتدادًا للفلسفة وليس امتدادًا للدين. فالدين يختلف عن الفلسفة في الموضوع وفي طريق الكسب، حيث إن مفهوم الدين أنه عقيدة محددة بتصوّرات متحجّرة، وأنه عقيدة موحاة، بينما الفلسفة رؤية قائمة على التجربة.
الوجود والزمان عند برجسون
الوجود ديمومة، والديمومة زمان. لم يكن هذا الربط بين الوجود والزمان لم يكن معروفًا قبل برجسون. كان المستقرّ قبل ذلك أنّ الوجود ثابت وهو ذو ماهية، أما الحركة والزمان فهي ظلال هاربة لا ندركها. أما بعد برجسون فقد وجد عدد من الفلسفات المعاصرة التي تتصف بأنها مذاهب زمانية، خصوصًا فلسفة هايدجر، وإن كان هايدجر لا يؤكد هذا الربط بين الوجود والزمان، معتبرًا أن الزمان هو الأفق الذي نستطيع أن ندرك الوجود ابتداءً منه.
يعتبر برجسون أن الزمان والمكان من نوع واحد، وهذا يُفضي بدوره إلى اعتبار الفلسفة والعلم من نوع واحد أيضًا، بينما لا يجتمع هذان ولا هذان. ويبدو في هذا نوعٌ من التضارب أو التضادّ.
فلسفة السيكولوجيا لدى برجسون
كانت رسالة برجسون حول المعطيات المباشرة للشعور في الزمان والحرية. تضمّنت تصويرًا لمجريات الشعور والطاقة النفسية والكشف عن المخبآت الكامة وراء الإحساسات والانفعالات والعواطف. السيكولوجيا لدى برجسون ليس موضوعها الإنسان من حيث هو كائن يفعل ويرغب ويريد ويحسّ في بيئة خارجية، وإنما موضوعها هو النفس ذاتها في ينابيعها الأصلية قبل أن تنصبّ في القوالب الاجتماعية بتلقائية وحرية.
معالجة المشكلات عند برجسون
من خصائص الفكر الفرنسي عامةً أنه يبدأ بدراسة مشكلة معينة بشكل مخصوص، تمهيدًا للانتقال من بعدها إلى مشكلة أخرى، دون إخضاع هذا الانتقال لمنظومة تصوّرات جاهزة تصدّر الحلول للفيلسوف إزاء ما يتناوله من مشكلات. وبالنسبة لبرجسون، فقد تمرّد على هذه المنظومة التي درج الناس على استعمالها دون عنايتهم بمعرفة مدى مطابقتها للواقع.
كيف كانت إذن طريقة برجسون في في فهم المشكلات الفلسفية؟ بدأ الأمر مع برجسون من رصد العلاقة بين ما هي جسمي وما هو نفسي، وحاول صياغة العلاقة بين النشاط النفسي والنشاط الدماغي، وتوصّل إلى أنّ الذاكرة هي حلقة الوصل بينهما. واختصر الذاكرة نفسَها إلى الذاكرة اللفظية وما يطرأ عليها من أمراض. وقادته دراسة هذا الأمر لمدة خمس سنوات، إلى القول باستحالة تركّز الذاكرة في الدماغ.
وهكذا، كان برجسون ينفذ بشكل مباشر إلى الباطن، من أجل إدراك ما فيه من عمق وجدّ وأصالة، نفاذًا بروح الصداقة والتعاطف والمحبّة.
مؤلفات هنري برجسون
لم يكن برجسون غزير الإنتاج في التأليف، ولم تتجاوز مؤلفاته أكثر من عشرة كتب فقط، هي:
- منتخبات من لوكراسيسو، باريس 1884م
- محاولة في معطيات الوجدان البديهية، فرنسا 1889م.
- المادة والذاكرة، محاولة في العلاقات بين الجسد والروح، 1896م.
- الضحك، 1900م.
- التطوّر الخلاق، 1907م.
- الفلسفة مجموعة لاروس، 1915م.
- الطاقة الروحية، 1919م.
- ديمومة ومعيّة، لمناسبة نظرية أينشتاين، 1922م.
- ينبوعا الأفكار والدين، 1932م.
- الفكر المتحرك، 1934م.
مصادر
- هنري برجسون، د. مصطفى غالب، دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر، 1998م.
- هنري برجسون فيلسوف المذهب المادّي، الشيخ كامل عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993م.