من البديهي أن تكون أول المواضيع التي يطلع عليها أي قاريء أو دارس لعلم معين هو تعريف هذا العلم، وقديمًا أبدع العرب في وضع عشر مباديء لأي فن من الفنون أو علم من العلوم، يمكن من خلالها رسم صورة لهذا العلم، وكانت أول هذه المباديء العشري هي “الحد” أي تعريف العلم.
مقدمة
يُعد علم العلاقات الدولية أحد فروع العلوم السياسية، والذي شأنه كشأن سائر العلوم الاجتماعية يهتم بدراسة أحد أشكال التفاعلات البشرية وهي العلاقات بين الدول وبعضها البعض، غير أن هناك عدة مدارس وطرق في تعريف هذا العلم.
هل العلاقات الدولية هي العلاقات القائمة بين الدول وبعضها فقط على المستوى الرسمي فقط؟ أم تشمل التفاعلات غير الرسمية (الشعبية)؟ هل نشاطات الشركات المتعددة الجنسيات والحركات الاجتماعية التي تدافع عن قضايا عالمية في دول مختلفة يمكن أن ندرجه داخل نطاق علم العلاقات الدولية؟ هل تقتصر الممارسات المكونة للعلاقات الدولية على القضايا السياسية فقط أم أنها تشمل التفاعلات الثقافية والاقتصادية وغيرها، هذا ما سنحاول أن نجيب عنه في السطور التالية، عبر سرد تاريخ نشأة علم العلاقات الدولية أولًا، والطرق التي يمكن من خلالها تعريف علم العلاقات الدولية ثانيًا
علم العلاقات الدولية: النشأة والتطور
من الناحية الأكاديمية فعلم العلاقات الدولية لم يمض على ظهوره أكثر من قرن وبضع سنوات، فأول كرسي في تخصص العلاقات الدولية تم إنشاؤه في كلية ويلز الجامعية في أبيريسويث عام 1919[1]، قبل أن ينتشر في عدد من الجامعات الأوربية والأمريكية، وصار من وقتها علمًا له قواعد منهجية ثابتة، واعترفت منظمة اليونيسكو عام 1948 بالعلاقات الدولية كأحد الفروع الرئيسية المندرجة تحت علم السياسة، بجانب كل من النظرية السياسية والنظم السياسية والإدارة العامة، هذا من الناحية الأكاديمية.
أما من الناحية التاريخية فقد حذر كونفوشيوس الحكام في الصين القديمة من الدخول في حروب ضد بعضهم البعض، لأنها تجلب الدمار والخراب قبل الميلاد بخمس قرون تقريبا، وأوصت التعاليم البوذية بضرورة نبذ الحرب وتجنب العنف، وامتلأت كتابات الفلاسفة والمؤرخين بالعبر والدوروس وتقديم النصائح للملوك والأمراء في إدارتهم للعلاقات الخارجية[2].
أما عن التاريخ الإسلامي فقد وجد علاقات دبلوماسية بين الدولة الأموية وغيرها، ودخلت في معاهدات للصلح، كان أغلبها بهدف إضعاف خصمها الاستراتيجي وقتها وهي الدولة البيزنطية[3]، ومع توالي العصور وقيام وسقوط الدول الإسلامية لم تتوقف العلاقات مع غيرها من الدول سلمًا وحربًا، وقامت علاقات اقتصادية وثقافية بين دول العالم الإسلامي وغيرها من الدول، وعلى الصعيد الآخر فالرؤية الغربية التي تتبناها معظم الدوائر الأكاديمية الغربية أن العلاقات الدولية ارتبطت بنشأة الدولة القومية وفقًا لمعاهدة وستفاليا 1648 والتي أوقفت الحروب الطاحنة التي شهدتها القارة الأوربية قبلها.
لماذا تعددت تعريفات العلاقات الدولية ؟
كما ذكرنا في بداية الحديث فإن أول خطوة في دراسة علم ما هو تعريف هذا العلم، وبخصوص العلاقات الدولية فثمة اختلاف ضخم في وضع تعريف محل اتفاق بين الباحثين، وعلى الرغم من مضي كل هذه العقود على ظهور علم العلاقات الدولية كمادة تدريس في الجامعات إلا أنه إلى الآن لم يستقر تعريفه، بل على العكس زادت الاختلافات حول هذا التعريف.
فيما يلي نعرض لثلاث زوايا مختلفة من الممكن النظر إليها لتعريف علم العلاقات الدولية[4]:
تعريف العلاقات الدولية من خلال الفواعل
أحد طرق تعريف العلاقات الدولية هو تعريفها من خلال الأطراف (الفاعلين) المشاركين فيها، وهنا يُطرح تساؤل مهم؛ هل تنحصر العلاقات الدولية على العلاقات بين الدول؟ أم تشمل أيضًا العلاقات الناشئة بين مواطني تلك الدول؟
هناك من يرى أن الفرد هو “وحدة التحليل” فسبيكمان على سبيل المثال يرى أنه يمكن تعريف العلاقات الدولية أنها “العلاقات بين أفراد ينتمون إلى دول مختلفة، والسلوك الدولي هو السلوك الاجتماعي لأشخاص أو مجموعات تستهدف أو تتأثر بوجود سلوك أفراد أو جماعات ينتمون إلى دول أخرى”، إذن وفق هذا التعريف فالتركيز يكون على الأدوار التي يقوم بها الأفراد.
على الجانب الأخر فهناك عدد كبير من الباحثين والمفكرين تبنوا وجهة النظر القائلة أن الدولة هي وحدة التحليل الأساسية مثل هانز مورجانثو وريمون آرون، فالأخير يعرف العلاقات الدولية أنها “العلاقات بين الوحدات السياسية المستقلة الموجودة في العالم، وأن خصوصية هذه العلاقات تنبع من حقيقة أنها تتناول علاقات بين وحدات سياسية تدعي كل منها بأن الحق في جانبها، وبأنها صاحبة الرأي الوحيد في قرار اللجوء إلى القتال من عدمه”
الرأي الثالث ينظر إلى العلاقات الدولية من منظور أوسع، فيعتبر أن وحدة التحليل الأساسية هي النظام الدولي، وبالتالي فهو يهتم بكافة ما يحدث في هذا النسق من تفاعلات من ناحية، والاهتمام بالمجتمع الدولي كوحدة واحدة من ناحية أخرى، وبالتالي فالعلاقات الدولية وفق هذا المنطق تعني “العلم الذي يدرس المجتمع الدولي الديناميكي والجامد”
إذن فقد صار لدينا ثلاثة تعريفات لعلم العلاقات الدولية لمن أراد أن يُعرفها من خلال الأطراف الفاعلة فيها، من خلال الأفراد، ومن خلال الدول، ومن خلال النسق الدولي.
تعريف العلاقات الدولية من خلال ماهيتها
التساؤل المطروح هنا هو عندما نسمع كلمة العلاقات الدولية، هل المقصود العلاقات والتفاعلات السياسية فحسب، أم سائر أنواع التفاعلات والعلاقات مثل العلاقات الاقتصادية والثقافية والتجارية، وهناك اتجاهان يرى الأول أن العلاقات الدولية تعني بالأساس العلاقات السياسية بين الدول، في حين يرى الاتجاه الأخر أن العلاقات الدولية تشمل كافة التفاعلات سياسية كانت أو اقتصادية أو ثقافية.
تعريف العلاقات الدولية من خلال الهدف المرجو من دراستها
المنظور الثالث لتعريف علم العلاقات الدولية يركز على الهدف من دراسة العلاقات الدولية وقضاياها، هل هو هدف نظري أم عملي؟
هناك من ركز على الأهداف النظرية لدراسة العلاقات الدولية، وأن الهدف من دراستها هو “بحث وتشخيص العوامل الرئيسية المحركة للسياسة الخارجية على أن تدرس بشكل منظم”، ويقدم الدكتور محمد طه بدوي تعريفًا لعلم العلاقات الدولية أنه “العلم الذي يُعنى بواقع العلاقات الدولية واستقرائها بالملاحظة والتجريب أو المقارنة من أجل التفسير والتوقع”
والفريق الأخر يرى أن الهدف من دراسة العلاقات الدولية وبحث ظواهرها وتفاعلاتها المختلفة هو هدف عملي تطبيقي، وبناء عليه فقد كان أحد الأهداف الرئيسية لدراسة العلاقات الدولية بشكل علمي ومنهجي هو التعرف على أسباب اندلاع الحرب والسياسات المثلى لمنعها للحفاظ على السلم والأمن الدولي.
أي التعريفات أدق ؟
مما سبق يتبين أن هناك طرق متعددة لتعريف علم العلاقات الدولية، وكل طريقة قد تنتج أكثر من تعريف، وبالتالي وعلى الرغم أن الوصول إلى تعريف وحيد ومحدد لأي علم من العلوم هو مسألة أولية وضرورية إلا أنه صار أمرًا صعبًا بل مُعقدًا فيما يخص علم العلاقات الدولية، والحقيقة أن صعوبة الوصول إلى تعريف مرتبط في الحقيقة بتعقد الظواهر الدولية -التي تكون مع بعضها البعض علم العلاقات الدولية- تعقدًا شديدًا، ومن ثم فقد صار تعريف علم العلاقات الدولية أمرًا نسبيًا لا يمكن حصره في تعريف وحيد.
[1] حمزة المصطفى، هل العلاقات الدولية علم قائم بذاته؟ دراسة مقارنة بين أطروحات الفصل/ الارتباط بين العلاقات الدولية وعلم السياسة، مجلة سياسات عربية، العدد 25، مارس 2017، صـ 95، انظر الرابط:
[2] مروة فكري، مدخل إلى العلاقات الدولية: أزمة العولمة وآفاق العالمية، دار الكتاب المصري، صـ50
[3] المصدر السابق، صـ 51
[4] محمد الطاهر عديلة، تطور الحقل النظري للعلاقات الدولية: دراسة في المنطلقات والأسس، جامعة باتنة 2015، ص ص 66-68.