لماذا علينا أن نتعرّف على العلوم الاجتماعية
لماذا علينا أن نتعرّف على العلوم الاجتماعية

إذا تحاورت مع شخصٍ من دولة أو ثقافة أو مجتمع آخر من أي مكان حول العالم، فليس من المتوقع أن تتساءلا عن أهمية دراسة الهندسة أو الفيزياء أو الكيمياء أو الطب، لأن أهميتها وجدواها واضحة وحاضرة لا تحتاج إلى تأكيد. لكنك قد تتساءل معه عن جدوى وأهمية أمور أخرى مثل: دراسة تاريخ الحضارات وصراعها، ونهوض المجتمعات وانهيارها، أو عن تطور أوروبا في العصر الحديث، أو ما الجدوى من دراسة جغرافية دول أمريكا اللاتينية، أو أهمية دراسة تطور اللغة الصينية، والفارق بين علاقة الدولة بالمجتمع في روسيا عن الولايات المتحدة الأمريكية أو غير ذلك من الأسئلة. كل هذه الأسئلة تظهر أهميتها الفارقة والمصيرية أحيانًا، وتتوافر إجاباتها داخل نطاق علوم تُسمى العلوم الاجتماعية Social Science، فما هي العلوم الاجتماعية؟ وكيف تطورت؟ وما هي أبرز التخصصات العلمية المندرجة تحتها؟

ما هي العلوم الاجتماعية Social Science

العلوم الاجتماعية هي مجموعة من التخصصات العلمية المعنية بدارسة وفهم الإنسان والمجتمعات البشرية[1]. تقدم العلوم الاجتماعية عددًا من الأدوات والمناهج وطرق البحث من أجل الإجابة على تساؤلات متعددة حول الإنسان والمجتمعات، تبدأ من كيفية عمل العقل البشري ولا تتوقف عند محاولة فهم كيفية تفاعل المجتمعات الإنسانية. بتعبير آخر، العلوم الاجتماعية هي الدراسات التي تستهدف الإلمام الشامل الذي يصف ويفسّر كافة الظواهر الإنسانية.

توفر العلوم الاجتماعية الإجابة على تساؤلات متعددة حول الإنسان والمجتمعات
مجموعة من البشر يتواصلون اجتماعيا

يساوى البعض بين مصطلحي العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية فيجعلهما بمعنى واحد، ويفرق آخرون بينهما فيرى أن العلوم الإنسانية هي الآداب والفنون كالموسيقى والنحت وغير ذلك، بخلاف العلوم الاجتماعية التي عرفناها بالأعلى. وهناك من يرى أن مصطلح العلوم الإنسانية هو الأنسب[2] للتعبير عن دراسة الظواهر المتعلقة بالإنسان في مقابل العلوم الطبيعية التي تهتم بدراسة ظواهر الطبيعية المادية كالفيزياء والأحياء وغيرهما.

لماذا العلوم الاجتماعية؟

إذا كانت العلوم الطبيعية تهتم بدراسة وبحث وتفسير الظواهر الطبيعية والتنبؤ بها، فالعلوم الاجتماعية أو الإنسانية تسعى إلى دراسة وتفسير مختلف الظواهر البشرية، أي أن مركزها الإنسان وتأثيره في الكون وسائر ظواهر الاجتماع البشري.

ومن هنا تأتي أهمية العلوم الاجتماعية؛ فهي تساعدنا على إيجاد حلول وبدائل إزاء كافة أنواع المشكلات التي تواجهها المجتمعات من أجل تشكيل مستقبلات أفضل، وكذلك ترشدنا إلى الاستخدام الأمثل للموارد المادية المتاحة، والبحث عن سياسات أفضل للحفاظ على الصحة العامة، ثم وبشكل عام تساعدنا في السعي إلى الحفاظ على أمن الإنسان والمجتمعات.

تاريخ العلوم الاجتماعية

برزت العلوم الاجتماعية بمفهومها المعاصر في عصر التنوير في أوربا في ظل سياق ثورات ثلاث[3]: ثورة سياسية (تمثّلت في الثورة الفرنسية)،  وثورة اقتصادية (تمثّلت في الثورة الصناعية) وثورة فكرية (تمثّلت في انتصار العلم والعقلانية والمدرسة الوضعية). 

تعدّ علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا هي طليعة العلوم الاجتماعية التي تبلورت كعلوم منفصلة لها أدواتها ومناهجها المستقلة[4]، فسعى علم الاجتماع لتقديم دراسة شاملة للمجتمع تتعلّق بالجانب الاقتصادي والسياسي والعلاقات بين الأفراد والجماعات. أما الانثروبولوجيا فقد قدمت دراسات وتحليلات متعلقة بالمناطق النائية والمجتمعات البدائية، وإن كان هذا في بدايته جاء حرصًا من الأنثروبولوجيين على خدمة سياسات الدول الأوربية الاستعمارية مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا التي احتلت دول العالم الثالث، بغرض تأمين السيطرة الأوربية على تلك الدول.

تبلورت العلوم الاجتماعية كعلوم منفصلة لها أدواتها ومناهجها المستقلة
مكتبة مليئة بالكتب

مراحل تطور العلوم الاجتماعية في الغرب

مثل أي مُنتَج بشري في العلوم والفنون والفِكر، أسهمت بعض التحولات التاريخية في تطوّر العلوم الاجتماعية، يمكن إجمالاً كالتالي[5]:

أولاً: في أواخر القرن 18 وأوائل القرن 19 حدثت تحولات حادة في الخطابات، حوّلت الفلسفة الأخلاقية والسياسية إلى تخصصات منفصلة ذات مواضيع أكثر تحديدًا. كانت السمة الرئيسية في هذا التحول هو تكوين مجموعة من المفاهيم الأساسية الجديدة لوصف ودراسة المجتمعات البشرية.

ثانيًا: في أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20، وفي سياق العديد من التساؤلات حول القضايا الاجتماعية وفي ظل عمليات الإصلاح المؤسسي والإداري التي جرت على قدم وساق وقتها، صارت العلوم الاجتماعية تُدرس كتخصصات جامعية مستقلة وبمنهجية واضحة متدرجة.

ثالثًا: في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، شهدت هذه التخصصات الاجتماعية عملية ترسيخ من الناحية الفكرية والمؤسسية. وفي خضم ذلك تمت صياغة برامج بحثية تم تدريسها لعقود قادمة.

رابعًا: اتسمت العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية، بالسعي لإنشاء انضباط علمي يمكن تعميمه دوليًا مع التأكيد على الناحية التخصصية. وأضحت فروع العلوم الاجتماعية أيضًا عرضة بشكل متزايد لمطالب لإثبات صلتها ومدى تأثيرها على الخطط والسياسات التي يجري تنفيذها على مستوى المؤسسات والحكومات.

أخيرًا، أصبحت تخصصات العلوم الاجتماعية في أيامنا هذه أكثر رسوخًا من الناحية المؤسسية في الجامعات والهيئات الأكاديمية والمراكز البحثية من أي وقت مضى، ورافق ذلك إعادة النظر في منطلاقاتها الفكرية والعلمية، وظهرت اهتمامات متجددة بالنقاش حول العلاقات بين الفروع المعرفية المختلفة من ناحية، وصلاتها بالإنسان وبالمجتمعات من ناحية أخرى.

أهم فروع العلوم الاجتماعية

الأنثروبولوجيا (علم الأناسة) Anthropology

تهتم الأنثروبولوجيا بدراسة البشر في عدد من الجوانب، بداية من علم الأحياء وتاريخ تطور الإنسان، وصولاً إلى سمات المجتمعات والثقافات التي تميز الإنسان بشكل حاسم عن سائر الحيوانات. ونظرًا لتشعب موضوعاتها وقضاياها وأهمية ما تتناوله، أصبحت الأنثروبولوجيا – خاصة منذ منتصف القرن العشرين- مجموعة من الفروع الأكثر تخصصًا، مثل الأنثروبولوجيا الثقافية، الأنثروبولوجيا الفيزيائية وغيرها[6].

تهتم الأنثروبولوجيا بدراسة علم الأحياء وتاريخ تطور الإنسان
تهتم الأنثروبولوجيا بدراسة علم الأحياء وتاريخ تطور الإنسان

علم الاجتماع Sociology

يدرس علم الاجتماع المجتمعات البشرية وتفاعلاتها مع نفسها ومع بعضها البعض. وذلك عبر فحص ديناميكيات الأجزاء المكونة للمجتمعات مثل المؤسسات والمجتمعات والسكان والجنس أو العرق أو الفئات العمرية. أيضًا، يدرس علم الاجتماع الحالة الاجتماعية أو التقسيمات الطبقية، والحركات الاجتماعية، والتغيير الاجتماعي أيًا كان حجمه أو اتجاهه، فضلاً عن الاضطرابات الاجتماعية التي قد تنشأ في شكل جرائم أو انحرافات أو تمرّدات أو ثورات[7].

القانون Law

يرتبط القانون بضبط الممارسات والعادات عبر مجموعة من القواعد، التي تكتسب شرعيتها من قبول المجتمع للقواعد والاعتراف بها، ومن ثمّ تشرف السلطة الحاكمة على تنفيذ تلك القواعد[8].

العلوم السياسية Political Science

تهتم العلوم السياسية بالدراسة المنهجية لطرق الحكم وأنماطه، وذلك من خلال مناهج البحث العلمي. تسعى العلوم الاجتماعية لفهم الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، ومع ذلك فإن تخصص العلوم السياسية الآن أصبح أوسع بكثير من تلك القضايا، حيث توسع ليشمل دراسة جميع العوامل الاجتماعية والثقافية والنفسية التي تؤثر بشكل متبادل على عمل الحكام والمحكومين[9].

الاقتصاد Economics

يسعى علم الاقتصاد إلى وصف وتحليل كلٍ من إنتاج الثروة وتوزيعها واستهلاكها. إنه يفحص ذلك الجزء من العمل الفردي والاجتماعي الأكثر ارتباطًا بتحصيل واستهلاك المتطلبات المادية للرفاهية. وعلم الاقتصاد شأنه كشأن نظيره علم السياسة؛ فقد ازدادت دوائر اهتماماته ليشمل قضايا أوسع على مستوى الأفراد والكيانات، وعلى المستوى القومي الداخلي وعلى المستوى الدوليّ الخارجي أيضًا[10].

التاريخ History

التاريخ هو التخصص المعني بدراسة التحقيب (نسبة إلى الحقبة من الزمان)، معتمدًا على بحث نقدي للمصادر المادية التاريخية، وعادة ما يجتهد المؤرخون في أن يقدّموا تفسيرًا لأسباب وقوعها.

الجغرافيا Geography

تهتم الجغرافيا بدراسة البيئات والأماكن والمساحات المتنوعة المكونة لسطح الأرض وتفاعلاتها مع بعضها. إنه يسعى للإجابة على أسئلة يأتي على رأسها: لماذا تبقى الأشياء كما هي؟ تحظى الجغرافيا بميزة الانضباط الأكاديمي المتجذر منذ الممارسة القديمة لها وحتى العصر الحديث، من حيث الاهتمام بخصائص الأماكن والمواقع. ينقسم علم الجغرافيا إلى قسمين: جغرافيا طبيعية أي الظواهر التي لم يتدخل فيها الإنسان[11]؛ والجغرافيا البشرية أي الظواهر التي نتجت عن تدخل الإنسان.

تجيب الجغرافيا عن سؤال لماذا تبقى الأشياء كما هي؟
نمودج للكرة الأرضية

علم الآثار Archaeology

يهتم علم الآثار بدراسة كل ما تبقى من آثار لحياة الإنسان ونشاطه في الماضي، وتشمل هذه الآثار القطع الأثرية التي ربما دفنها الإنسان منذ آلاف السنين وإلى الآن، كما تشكل كل ما استعمله من أدوات بسيطة أو معقدة، وكل ما صنعه من مبانٍ وإنشاءات مختلفة الأشكال والأنماط؛ من المنازل والمعابد والمقابر إلى القصور والكاتدرائيات والأديرة والأهرامات، وتعد الاستكشافات الأثرية مصدرًا رئيسيًا للمعرفة بالثقافة القديمة المنقرضة لما قبل التاريخ [12].

اللسانيات (علم اللغة) Linguistics

تهتم اللسانيات بدراسة طبيعة اللغة والتواصل الإنساني، وتسعى لدراسة كل لغة على حدة من ناحية، ودراسة الخصائص المشتركة بين مختلف اللغات من ناحية أخرى[13]. هناك تخصصات فرعية داخل العلم نفسه، بعضهم قسمها إلى[14]: اللسانيات العامة واللسانيات الوصفية، واللسانيات التاريخية، واللسانيات النظرية والتطبيقية.

من هو مؤسس العلوم الاجتماعية؟

العلوم الاجتماعية بصورتها الحالية، هي علوم حديثة نسبية في أغلبها، تشكّلت عبر ممارسات عملية وتراكمات معرفية وإسهامات علمية عبر القرون. كما أن تقسيم العلوم الاجتماعية وفق تصنيفاتها الحالية، لم يكن موجودًا من قبل. فالحال أنّ ما كان عِلمًا واحدًا في الماضي، صار الآن عدّة علوم مستقلة عن بعضها. بل وربّما تلاقح عِلمان مع بعضهما فأنتجا فرعًا علميًا ثالثًا وهكذا.

هذه المقدّمة لابدّ من للإجابة عن السؤال حول أبرز مؤسسي علم الاجتماع. لأنه على حالته هذه – ووفقًا لهذه المقدّمة- لا يُعدّ سؤالاً دقيقًا. إذ لا يوجد واحدٌ من الأعلام أو الفلاسفة أو الباحثين أو المفكّرين يمكن أن نجزم بأنه مَن أوجدَ وحده علمًا من العلوم الاجتماعية من العدم.

لكن، من ناحية أخرى، هناك أسماءٌ قديمًا وحديثًا لا يمكن تجاهلها، منها عبد الرحمن بن خلدون صاحب كتاب المقدمة، والذي يصفه البعض بأنه مؤسس علم العمران، أو أوجست كونت، وإميل دوركايم، أو كارل ماركس، وماكس فايبر، والقائمة تطول ولا تنتهي عبر الأزمنة وعبر الأمكنة أيضًا.

هوامش ومصادر

[2] يمنى طريف الخولي، مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلها،

[3] مصطفى أيت خرواش، دراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية وجدل العولمة، مقال منشور على الموقع الإلكتروني لمركز نهوض للدراسات والنشر.

[4] إيليا زريق، قضايا في تطور العلوم الاجتماعية في العالم العربي، مجلة عمران، ع 31، صـ64، انظر الرابط:

[5]B.Wittroc, Disciplines, History of, in the Social Science,   

[6]Anthropology, Encyclopedia Britannica website, 

[7] Sociology ,Encyclopedia Britannica website, 

[8] Law, Encyclopedia Britannica website

[9] Political science,Encyclopedia Britannica website, 

[10] Economics, , Encyclopedia Britannica website, 

[11] geography , Encyclopedia Britannica website, 

[12] archaeology , Encyclopedia Britannica website, 

[13] What is linguistics and why study it?, 

[14] محمد محمد يونس علي، مدخل إلى اللسانيات، دار الكتاب الجديد، صـ13