في الفيلم الوثائقي “كلب تشرشل الأسود”، استعراض موجزٌ سريع لسيرة رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل منذ ولادته وحتى وفاته. حاول الفيلم تتبّع محطات الاكتئاب الثلاثة أو الأربعة في حياته، ذلك الاكتئاب الذي أسماه تشرشل بـ”الكلب الأسود”، والذي كان كلّما هاجمه ضاريًا، تعافى منه وصار أقوى وأمضَى، لينهض من جديد محرزًا في حياته مجدًا جديدًا. فهل كان وينستون تشرشل مصابًا بلاكتئاب حقًا؟ وهل هو اكتئاب هوسي يصل إلى مرحلة الاضطراب ثنائي القطب كما اقترح بعض المختصين؟
كلب تشرشل الأسود ينبح
في مارس 1915م، في خضمّ أحداث الحرب العالمية الأولى، وقعت كارثة مضيق الدردنيل، التي خلّفت 150 ألف قتيل من قوات الحلفاء، و250 ألف مصابٍ، في كارثة عُدّت هي الأفدح لبريطانيا على مرّ تاريخها العسكري. لم يجد السياسيون البريطانيون حينها سوى وينستون تشرشل لإلقاء المسئولية عليه، وتحمّل هو المسئولية وتخلى عن مسئولياته، ليدخل تجربة الاكتئاب الأولى.
دخل وينستون تشرشل في حالة الاكتئاب الذي أسماه بـ”الكلب الأسود”، اقتداءً بصموئيل جونسون، الذي كان أول من أطلق على الاكتئاب هذا الاسم. عانى تشرشل من الإحساس القاتم بأنه لم يعد يرى لنفسه أيّ مستقبل، وغرق في حالةٍ من الحزن والتدخين بشراهة وشرب الخمر، ولجأ إلى ممارسة هواية الرسم.
بحسب الفيلم الوثائقي، فقد عاودته الحالة ذاتها بعدما خسر في الانتخابات، بالرغم من خروجه من الحرب العالمية الثانية منتصرًا؛ فانغمس مجددًا في ذلك الإحساس القاتم بالحزن والرداءة النفسية، وشرب الخمر والتدخين الشّره والرسم.
لم تكن هذه هي نوبات الاكتئاب والحزن الوحيدة التي مرّ بها تشرشل في حياته الطويلة المفعمة بزخم التجارب والخطر المتجدد؛ بدرجة دعت الكثيرين إلى اعتبار هذا الحزن المتكرر عرضًا لمرضٍ عقليٍ، بدءًا من احتمال كونه تغيّرات مزاجية متكرّرة، وصولاً إلى اعتباره اضطرابَ ثنائيّ القطب. فهل كان وينستون تشرشل كذلك بالفعل؟
ما الذي كان يجري مع وينستون تشرشل حقًا؟
بعيدًا عن الفيلم الذي لا يقدّم إجابةً شافيةً عن هذا السؤال، فإننا أمام شخصٍ شغوفٍ متقلّب المزاج، وعاطفيٍ بشكل غير متوازن، لكنه في الوقت ذاته منفتح بشكل استثنائي على مشاعره الهائلة، ولديه حسٌ عالٍ بالخطر بشكل يتجاوز أقرانه بفارقٍ واضح.
وإذا أضفنا إلى هذا بعض التفاصيل، مثل كونه يتجنّب الوقوف بالقرب من حوافّ الشرفات وأرصفة القطارات ومنصّات السفن، خوفًا من فكرةٍ انتحاريةٍ خاطفةٍ قد تسيطر عليه، ويتسبّب “عمل لا يستغرق ثانية واحدة في إنهاء كل شيء” كما يقول.
وفي مراحل من حياته – مرتين في الثلاثينات كمثال – سيطر اليأس عليه إلى درجة إصابته بالشلل الذي أقعده في سريره بضعة أشهر، ولم يكن لديه سوى القليل من الطاقة والدافعية، وعانى من فقدان الشهية وتدنّي الاهتمامات بشكل عامٍ، وقلّة التركيز.
وفي مقابل كل هذا، وخصوصًا في الأوقات التي لا يكون فيها كما سبق: كان تشرشل يتمتع بمستويات عالية من الطاقة والفاعلية، ولا ينام إلا عددًا قليلاً من الساعات، يتكلّم بلا انقطاع منتجًا دوامةً لا تنتهي من الأفكار الجديدة، ويملي عددًا هائلاً من الكتب. ثم يعود مرةً إلى شهورٍ من عدم الحديث والخواء الذهني من الأفكار وفقدان الطاقة وعدم الرغبة في الكلام.
فما الذي تدلّ عليه هذه الثنائية الدوّامية المربكة؟
هل كان وينستون تشرشل مصابًا باضطراب ثنائي القطب؟
تبدو هذه الثنائية أقرب ما تكون إلى أعراض الاضطراب الوجداني ثنائي القطب؛ لكن ليس هذا ما اتفّقت عليه آراء الذين تناولوا سيرة وينستون تشرشل، الذين تراوحت مؤهلاتهم بين مختصين في علم النفس لم يكونوا على اطلاع كافٍ بتفاصيل حالة تشرشل، أو مطّلعين بشكلٍ دقيقٍ على تفاصيل حالاته لكنهم ليسوا مختصين في علم النفس بما يؤهلهم لتشخيص حالته بشكل صحيح.
فهناك فريق يرى أنّ فترات الحزن هذه هي جوانب متأصلة في التجربة الإنسانية وفي الخبرة النفسية؛ خصوصًا في حالة شخصٍ مثل تشرشل الذي عاش حياةً متخمة وملهمة، وتمتّع بشخصية هائلة في حياته الشخصية والأسرية والسياسية. لكن لا وجود هنا لمرضٍ عقلي منهَك. وعلى الأرجح لا يبدو توصيف “الكلب الأسود” أكثر من مجرد استعارة استخدمها تشرشل، أو أسطورة لا أكثر.
ويؤكد هذا الفريق استحالة أن يكون تشرشل مصابًا بالاضطراب ثنائي القطب، الذي هو مرض عقلي شديد الإعاقة. بدون دواء، يجد أصحابه الفوضوية في حياتهم، مع صعوبة في الحفاظ على العلاقات أو العمل، مع عدم القدرة على التركيز، والافتقار إلى الطاقة لحشد أفكارهم. بينما في مقابل كل ذلك: ألّف تشرشل خمسين كتابًا، ورسم 500 لوحة، وأدار تربيةً أسريّةً لأسرته المكونة من خمسة أفراد بأسلوب معيشة من الدرجة الأولى.
بينما يرى فريق ثانٍ أنّ تشرشل كان مصابًا على الأقل بنوعٍ من الاكتئاب الشديد، ويدعمون كلامهم بما ذكره اللورد موران، طبيب تشرشل، من أنه وصف له عقاقير الأمفيتامينات والباربتيورات، لتساعده على النوم والتعامل مع نوبات الاكتئاب التي كان يتعرّض لها منذ عام 1940م.
وهناك فريق ثالث يؤكّد على أنّ الأمر لا يعدو أن يكون تشرشل مصابًا منذ طفولته بأعراض فرط الحركة وتشتت الانتباه، وأنّ هذه الأعراض الاكتئابية المتقطّعة إنما هي من تأثير إفراطه في شرب الخمر، لا أكثر.
لكن فريقًا رابعًا يذهب إلى الجزم بكون وينستون تشرشل مصابًا بالاضطراب الوجداني ثنائي القطب، مؤكدين أنّ نوبات الهوس المرتبطة بهذا الاضطراب تعزّز الإبداع والمرونة في مواجهة الصدمات، في الوقت الذي تعزز فيه نوبات الاكتئاب من الواقعية التعاطف، وكلها مواصفات اجتمعت في تشرشل، الذي كان قائدًا مبدعًا مرنًا واقعيًا متعاطفًا، وهذا النوع من الاضطرابات يدفع المصابين به إلى إظهار أعظم قيادة.
على كلٍ، وأيًا كانت حقيقة التشخيص الذي ينطبق على حالة ونستون تشرشل، فإن ابنته الليدي ماري سواميس تصرّ على أن الأمور التي مرّ بها والدها كفيلة بإحباط أي شخص، وأنّ الاكتئاب يكون الملاذ بعد انتكاسات المعارك المدمّرة؛ ومع ذلك كان أبوها قادرًا على التخفيف من وطأة هذا السواد عبر استغراقه في العمل والرسم، في وجود زوجةٍ مخلصة. وفي كل الأحوال، لم يؤثر هذا بشكلٍ خطير على أدائه كقائد حرب ورجل دولة.