في عام 1895م، كتب ألفريد نوبل وصيته التي تقضي بتخصيص أرباح رأس ماله مشاريعه لجائزة تُمنَح باسمه. وبحسب ما جاء في نصّ وصية ألفريد نوبل، يتمّ تخصيص “جزء يُمنح للشخص الذي أنجز أهم اكتشاف أو تطوير في ميدان الكيمياء”، وأن تمنح الأكاديمية السويدية للعلوم جوائز الفيزياء والكيمياء.
في عام 2020م، قرّرت الأكاديمية السويدية للعلوم أن تمنح عالمة الميكروبيولوجيا الفرنسية “إيمانويل شاربنتييه”، جائزة نوبل في الكيمياء، على إنجازاتها في مجال التحرير الجيني عبر تقنية كريسبر CRISPR-Cas9)). فمن هي إيمانويل شاربانتييه؟ وما هي تقنية كريسبر CRISPR-Cas9))؟
إيمانويل شاربنتييه
إيمانويل عالمة فرنسية في الأحياء الدقيقة والوراثة والكيمياء الحيوية، ولدت عام 1968م، بفرنسا، ونشأت بجنوب باريس، حيث عملت والدتها في الطب النفسي، بينما كان والدها مسئولاً عن تخطيط المساحات الخضراء في المدينة.
شغف شاربنتييه بدراسة البكتيريا
ظهر الشغف الشديد للدراسة لدى إيمانويل منذ طفولتها، ومنذ كان عمرها 12 عامًا، تشكّل عندها طموحٌ بالعمل في معهد باستير، وهو المكان الذي حصلت فيه على الدكتوراة لاحقًا بالفعل.
كان علم الأحياء، مع تعقيده وعلاقته المباشرة بالبشر، هو المجال الذي أثار شغف إيمانويل أكثر من غيره. فركّزت على الكيمياء الحيوية في البداية، وسرعان ما احتلّت البكتيريا الاهتمام الرئيسي في حياتها كباحثة. فجاءت أطروحتها للدكتوراة عن الآليات التي تؤدي إلى تطوير مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية. وكان واضحًا لها حينها بالفعل أن عدد مسببات الأمراض متعددة المقاومة سيزداد بسرعة.
درست إيمانويل شاربنتييه الكيمياء الحيوية وعلم الأحياء الدقيقة وعلم الوراثة في جامعة بيير وماري كوري (جامعة السوربون الآن)، في باريس، وحصلت على درجة الدكتوراة في علم الأحياء الدقيقة عن أبحاثها التي أجريت في معهد باستير، باريس، فرنسا. ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة، وواصلت عملها المكثف في جامعة روكفلر، والمركز الطبي لجامعة نيويورك ومعهد سكيربل للطب الجزيئي الحيوي (جميعها في نيويورك) وفي مستشفى سانت جود لأبحاث الأطفال (في ممفيس، تينيسي).
بعد ست سنوات من العمل في مرحلة ما بعد الدكتوراه في الولايات المتحدة، أتيحت لها الفرصة لتأسيس مجموعتها البحثية الخاصة عادت إيمانويل إلى أوروبا لتؤسس مجموعتها البحثية الخاصة كأستاذ مساعد وأستاذ مشارك في مختبرات ماكس إف بيروتز (الآن مختبرات ماكس بيروتز) في جامعة فيينا في النمسا حيث درست في مجال علم الأحياء الدقيقة.
بداية تعارف شاربنتييه مع كريسبر
في عام 2009، انتقلت شاربنتييه من فيينا إلى جامعة أوميو في السويد لتعمل أستاذًا مشاركًا في مختبر طب العدوى الجزيئية بالسويد، في خطوة أثارت دهشة واستنكار زملائها ومعارفها، وهناك توصلت إلى فكرة جذرية تتمثل في الجمع بين CRISPR و RNA أثناء تواجدها على متن الطائرة أثناء تنقلاتها الأولية بين الموقعين.
ومن هناك، عملت مجموعة شاربنتييه في أوميو بالسويد مع مجموعة جينيفر دودنا في بيركلي، كاليفورنيا لدمج جزيئي RNA في جزيء واحد. عملت هذه الخطوة على تبسيط تطبيق تقنية CRISPR-Cas9.
في عام 2011، تمكنت شاربنتييه من وصف التقنية الجديدة في الطبيعة، ونشرت في 2012 ورقة بحثية في مجلة العلوم Science))، توضح اكتشافها، متوقعةً أن اكتشافها يمكن أن يفتح طرقًا جديدة لاستهداف الجينات وعلاج الاضطرابات الوراثية البشرية. وحظيت هذه الورقة بتغطية موسّعة متزايدة من جهات النشر العلمية والمؤسسات الأكاديمية المتنوّعة.
يُعتبر اكتشاف شاربنتييه أحد أكثر قصص النجاح العلمية شهرة، والبطل الرئيسي فيها هو جزء من الجهاز المناعي للبكتيريا ويعرف باسم CRISPR-Cas9. عندما تهاجم الفيروسات بكتيريا، تقطع الإنزيمات قطعة من الحمض النووي الفيروسي وتدمجها في مكان محدد للغاية في جينوم البكتيريا: تسلسل كريسبر. تقوم الخلية بعد ذلك بنسخ هذا التسلسل إلى جزيء RNA، وهو CRISPR-RNA. يقوم البروتين Cas9 بعد ذلك بقطع جينوم الفيروسات الغازية، مما يؤدي إلى إعاقة مسببات الأمراض.
بين عامي 2013 و 2015، رأست إيمانويل قسم التنظيم في بيولوجيا العدوى في مركز هيلمهولتز لأبحاث العدوى، في براونشفايغ، وأستاذًا بكلية الطب في هانوفر في ألمانيا. في عام 2013، حصلت على درجة أستاذية ألكسندر فون هومبولت، والتي شغلت بها في عامي 2014 و 2015.
في أوائل أكتوبر 2015، أصبحت إيمانويل شاربنتييه مديرة في معهد ماكس بلانك لبيولوجيا العدوى في برلين، ووضعت نصب عينيها هدفها الرئيسي متمثلاً في اكتساب فهم أفضل للكيمياء الحيوية وخصوصية وكفاءة النظام، وتقوية مجال علم الأحياء الدقيقة في المعهد، وجذب الباحثين المتميزين إلى هذا التخصص البيولوجي، الذي ترى أنه تخصص له مستقبل عظيم.
شاربنتييه من الفن إلى الأبحاث
تستمتع إيمانويل شاربنتييه في أوقات فراغها، بالفن والموسيقى والرقص. فهي تعزف على البيانو وتمارس الباليه والرقص الحديث لعدة سنوات، الذي تعتبره وهو تمرينًا جيدًا مفيدًا في أمور ليس أقلها الانضباط والقوة الإبداعية. كما تقول هي نفسها: “كان للفن تأثير كبير على مسيرتي العلمية: يجب أن تكون صارمًا، ولكن عليك أيضًا أن تكون قادرًا على السماح لنفسك بالمضيّ قدمًا”. وهو ما ينعكس على أدائها البحثي عبر ترك منطقة الراحة الخاصة بها باستمرار، والتدقيق في عملها وتعديله، وتوصي طلابها عادةً بأن يفعلوا المثل.
جوائز وأوسمة حصلت عليها شاربنتييه
حصلت إيمانويل شاربنتييه على العديد من الجوائز والأوسمة الدولية المرموقة، إلى جانب كونها عضوًا منتخبًا في الأكاديميات العلمية الوطنية والدولية، كما حصلت على العديد من الدكتوراة والأستاذية الفخرية في عدد من الجامعات والأكاديميات الدولية.
ومن بين الجوائز والأسمة التي حصلت عليها:
– جائزة مخترع العام (مؤسسة تعليم مالكي الملكية الفكرية).
– جائزة “التحليلات البيوكيميائية” (من الجمعية الألمانية للكيمياء السريرية وطب المختبرات).
– جائزة التكنولوجيا العالمية للتكنولوجيا الحيوية.
– جائزة إرنست يونغ للطب.
– جائزة لويس جانيت في الطب.
– جائزة الدكتور بول يانسن لأبحاث الطب الحيوي.
– جائزة هارفي في العلوم والتكنولوجيا.
– وسام الاستحقاق الوطني الفرنسي.
كما جاءت في المركز الخامس ضمن قائمة Vanity Fair لأكثر 50 فرنسيًا تأثيرًا حول العالم، والمركز الخامس ضمن قائمة مجلة Time لأفضل 100 شخصية عام 2016، ودخلت ضمن قائمة فورين بوليسي لأهم مائة من كبار المفكرين العالميين والمبتكرين.
ما هي تقنية كريسبر (CRISPR-Cas9) في التحرير الجيني؟
توصّف CRISPR تسلسل الجينوم في البكتيريا، اعتمادًا على إنزيم يُسمى Cas9، يمكنه أن يقطع الحمض النووي. وجدت شاربنتييه أنه في حالات العدوى الفيروسية تقوم البكتيريا بقطع تسلسل الجينوم الفيروسي وإدخالها في تسلسل كريسبر. يمكن للبكتيريا استخدام CRISPR-RNA الناتج وجزيء RNA إضافي لتحديد الجينوم الفيروسي إذا هاجم مرة أخرى. وهو ما يمكنها من قطع التسلسل، وإعاقة مسببات الأمراض. بهذه الطريقة، يوفر نظام CRISPR-Cas9 لجهاز المناعة البكتيري نوعًا من الذاكرة.
وبحسب ما ذكرته هايدي ليدفورد في تحقيق لها بمجلة نيتشر، “يحتاج الباحثون إلى طلب جزيء الحمض النووي الريبي فقط، أمّا بقية المكونات، فيمكن شراؤها بصورة جاهزة”. الأمر الذي يُظهر أبرز ميزات كريسبر باعتبارها رخيصة التكلفة، وسهلة الاستعمال، وهو ما جعلها “تجتاح مختبَرات العالم كالإعصار”.
خطورة تقنية كريسبر إلى جانب ذلك، أنها تتيح للباحثين تغيير الحمض النووي لأيّ كائن حي بسرعة فائقة، بما في ذلك البشر. ويعمل العديد من العلماء حول العالم بإلقاء نظرة فاحصة على CRISPR-Cas9 بغرض تطويرها بشكل أكبر، لكنهم يستخدمونها بشكل أساسي كأداة لدراسة الجينات؛ نظرًا لكونها أكثر دقة وكفاءة وفعالية من حيث التكلفة من الطرق السابقة.
وحتى الآن، نجحت جميع التجارب التي شملت الخلايا النباتية والحيوانية والبشرية. وبالتالي، فإن تقنية CRISPR-Cas9 لديها القدرة على مجموعة متنوعة للغاية من التطبيقات مثل: تربية النباتات وتربية فئران المختبر المعدلة وراثيًا، وصولاً إلى توفير علاجات للعديد من الأمراض. كما يمكن للأطباء استخدامه لتصحيح الطفرات وعلاج الأمراض الوراثية، فضلاً عن أنه يتم استخدامه بالفعل في أبحاث فيروس نقص المناعة البشرية والملاريا.
الإشكاليات الأخلاقية لتقنية كريسبر
على الرغم من أن تقنية CRISPR-Cas9 أكثر دقة بكثير من التقنيات الأخرى، إلا أنها لا تزال ترتكب أخطاءً وتقطع الجينوم أحيانًا في المكان الخطأ.
يضاف إلى ذلك القضايا الأخلاقية التي يمكن أن يثيرها استخدام تقنية كريسبرCRISPR-Cas9 ، فعلى سبيل المثال قام باحثون صينيون بتعديل الجينات في الخلايا الجذعية الجنينية البشرية، ومع ذا لم تتمكن الأجنة من البقاء على قيد الحياة، ما يعني أن المجتمع وصانعي السياسات بحاجة ماسة إلى إملاء ما هو مسموح به وما هو غير مسموح به من هذه التجارب؛ ولذم لتفادي إساءة استخدام الإمكانات الهائلة لمقص الحمض النووي لإنشاء أطفال مصممين جينيًا بشكل محدّد.
وهو ما تؤكده إيمانويل شاربنتييه: “يمكن أن تقدم تقنية CRISPR-Cas9 فوائد ضخمة للبشرية، ولكننا بالطبع نحتاج إلى التعامل معها بمسؤولية. إن التدخلات في السلالة الجينية البشرية، التي من شأنها أن تؤثر على جينوم الأجيال القادمة، هي أمر أرفض القيام به أنا ومعظم زملائي”.
المصادر
– تقنية “كريسبر”.. طفرة ثورية في الهندسة الوراثية. على الرابط: https://arabicedition.nature.com/journal/2015/08/522020a
– Emmanuelle Charpentier: An artist in gene editing، على الرابط: https://www.mpg.de/10729312/emmanuelle-charpentier
– الموقع الرسمي لإيمانويل شاربنتييه، على الاربط: https://www.emmanuelle-charpentier-pr.org/.