عادةً ما يُذكر اسم بابلو إسكوبار، إمبراطور الكوكايين الكولومبي، في التأريخ للحرب على المخدرات. لكن اسمه يُستدعى في سياقٍ آخر مختلف، وهو سياق التأريخ للحرب على الإرهاب. يعتبر بابلو إسكوبار هو المنتج الحقيقي لعمليات السيارات المفخخة في النصف الغربي من الكرة الأرضية. بدأ إسكوبار حياته لصًا للسيارات، وعمل في التهريب، ثم صار لاحقًا أحد سادة تجارة الكوكايين، وأكثر المجرمين ثراءً في تاريخ العالم في ثمانينات القرن العشرين.
بابلو إسكوبار الشعبي والسياسي
أعاد بابلو إسكوبار توزيع بعض أرباحه من إدمان متعاطي الكوكايين في أمريكا الشمالية، ووظّفها في بناء ملاعب كرة القدم والوحدات السكنية في عشوائيات مدينة مدلين. وفي مقابل هذا، خطب ودّ العصبة الحاكمة في كولومبيا عبر إطلاق أتباعه من القتلة المحترفين لاغتيال أعضاء اليسار الثوريين، وكل من يشتبه في تعاطفه معهم.
بعدما تم انتخاب إسكوبار عضوًا في الكونجرس الكولومبي، صار هدفًا رئيسيًا للحرب الجديدة التي شنّها جورج بوش الأب، الذي كان نائبًا للرئيس الأمريكي. وتحت ضغط هذه الحرب، أرسل الرئيس الكولومبي بليساريو بتانكور قوات الجيش للإغارة على معامل تصنيع الكوكايين التابعة لإسكوبار في الغابات الكولومبية، وسمح للولايات المتحدة الأمريكية بالاشتراك في العمليات الميدانية ضد إمبراطور الكوكايين داخل كولومبيا، وبدأ في تسليم أتباع إسكوبار إلى الولايات المتحدة.
إسكوبار الإرهابي والحرب القذرة الشاملة
توسّع الأمر إلى حرب قذرة شاملة، اشتركت فيها قوة دلتا الأمريكية، وفرقة السيلز البحرية الأمريكية، وعملاء إدارة قوانين المخدرات الأمريكية (DEA)، وكتائب لوس بييسي (كتائب الإعدام التابعة للشرطة الكولومبية).. طاردوا فيها رؤساء كارتلات المخدرات الكولومبية وأتباعهم.
جاء ردّ إسكوبار على هذه الحرب، متمثلاً في دوامة من الأفعال التي جسّدت نقلةً نوعيّة تم التأريخ بها في الحرب على الإرهاب، باعتبارها نمطًا من أكثر الممارسات الدموية التي استمرت عِقدًا كاملاً في النصف الغربي من الكرة الأرضية. كان الهدف المعلَن لإسكوبار من هذه الحرب التأديبية الدموية أن يجعل أعداءه بدءًا من رجال الشرطة العاديين، وحتى رئيس الجمهورية، يخشون غضب كارتل مدلين أكثر من خشيتهم غضب واشنطن.
بدأت هذه الممارسات عام 1984م، باغتيال وزير العدل الكولومبي رودريجو لارا بونيلا، تلتها هجمات عنيفة ضارية ضد العُصبة الحاكمة التي حمّلها إسكوبار مسئولية خيانته وبيع البلاد إلى العملاء الأمريكان. وانضمّ إلى إسكوبار في هذه الحرب زملاءٌ له من كبار تجار المخدرات في كولومبيا، ضمن تنظيم أسموه “المطلوبين للقبض عليهم”.
كان لدى إسكوبار مخرونٌ هائل من المواد شديدة الانفجار، استخدمها في صناعة قنابل السيارات، لتنفيذ عملياته ضد قوات (DEA)، والمؤسسات الكولومبية. من ذلك عملية التفجير التي تمت خارج سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في بوجوتا، عام 1984م، التي كانت رسالة واضحة لعملاء (DEA) أن إسكوبار سيطاردهم في كل مكان.
ومن ناحية أخرى، أرسل إسكوبار محاميه إلى إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، عارضًا عليهم مقايضة معلومات يقدّمها عن رجال العصابات الشيوعية ومنظمات ثورية محظورة، في مقابل العفو عن جرائمه في تجارة المخدرات؛ لكن الردّ الأمريكي جاء بتنفيذ موجة جديدة من الهجمات الأمنية ضد إسكوبار.
الأعوام الدموية لإسكوبار
دخل على خط المواجهة لاعبون جدد، وهم قيادات كارتل كالي، وبتحريض من المخابرات المركزية الأمريكية، استغلوا الفرصة لتفجير مجمّع إسكوبار السكني في مدلين، بتفجير سيارة مفخّخة كاد يقتل عائلة إسكوبار، في يناير 1989م.
وجاء الردّ من إسكوبار بضراوة، باستخدام السيارات المفخخة أيضًا، ليتمّ تفجير سلاسل من المتاجر والصيدليات التي يملكها رؤساء كارتل كالي، واغتيال أفراد بارزين من الفصائل الحاكمة والقيادات الحكومية. من بينهم الجنرال مازا ماركيز، رئيس البوليس الكولومبي السري، الذي نجا من إحدى هذه العمليات (مايو 1989م) بأعجوبة، وخلّفت أكثر من 50 قتيلاً.
في يوليو، جرى استهداف حاكم ولاية أنتيوكيا، أنطونيو روالدان بتانكور، عبر تفجير سيارة مفخخة في مدلين، وذلك ردًا على محاولة فاشلة لمرتزقة بريطانيين لاغتيال إسكوبار. وفي الشهر التالي تم اغتيال المرشح الرئاسي لويس كارلوس جالان، لأنه سبق وفصل إسكوبار من الحزب الليبرالي الكولومبي.
بعدها بأشهر، تم تفجير طائرة على متنها 110 شخصًا، بغرض استهداف خليفة المرشح الرئاسي المقتول. ثم جرى تفجير مقرّ صحيفتين، الأولى إل سبكتادور في بوجوتا، والثانية صحيفة يومية في بيكارامانجا.
في ديسمبر، تم تفجير شاحنة تحمل نصف طن من الديناميت، خارج المقر الرئيسي لمصلحة الشرطة السرية الكولومبية في بوجوتا في أثناء ساعة الذروة الصباحية، وصفت بأنها أشبه بانفجار قنبلة ذرية صغيرة، وقتل قرابة 50 شخصًا، وأصيب قرابة ألف شخص، ربعهم في حالة خطِرة، مع دمار وتلفيات كبرى لحقت 1500 منزل ومبنى. وكان الغرض من هذا التفجير، الضغط على الرئيس الكولومبي ليسمح باجراء استفتاء شعبي على تسليم المطلوبين إلى أمريكا.
لاحقًا، أعلن سكوبار أنه سيمنح مكافأة قدرها 4200 دولار عن كل شرطي يتم قتله؛ لتقع 42 حادثة اغتيال ناجحة لضباط الشرطة حتى كادوا ينقرضوا من مدينة مدلين، بل وصل مجموع ضباط الشرطة القتلى في عام 1991 إلى 457 قتيل. فضلاً عن حصيلة 26 قتيلاً من قوات نخبة البوليس الفيدرالية، و100 جريح، جرّاء تدمير قوافل لقواتهم.
في مايو 1991م، تم استهداف جماهير المتسوقين المدنيين في عيد الأم، عبر تفجير سيارتين بقنبلتين متزامنتين، مما أسفر عن مقتل 25 شخصًا وإصابة 150، ثم سيارة ثالثة في مساء نفس اليوم، قتلت 6 أشخاص. وفي نهاية الشهر جرى تفجير سيارة قتلت 12 شخصًا.
في الشهر التالي، تم استهداف مركز للشرطة بواسطة سيارة تحمل 330 رطلاً من المتفجرات، وقتلت 12 شخصًا، بينهم أطفال، ورجال شرطة، وعضو في مجلس الشيوخ الفيدرالي. الأمر الذي أجبر الرئيس الكولومبي على عقد صفقة مع إسكوبار ورفاقه المطلوبين للعدالة، لتفادي تسليمهم إلى الولايات المتحدة، عبر احتجازهم في سجنٍ فاخر أقامه إسكوبار بمواصفاته الخاصة خارج مدينة مدلين، توافرت فيه الخمر والنساء والأسلحة الوفيرة.
في العام التالي اضطر الرئيس الكولومبي للرضوخ لضغوط جورج بوش الأب، وأرسل كتيبة كاملة من الجيش لتنقل إسكوبار إلى سجن عادي تابع للحكومة، إلا أنه نجح في الهرب منهم بسهولة.
إسكوبار وكتيبة الإعدام الكولومبية
طوال الفترة التي تلت هروب إسكوبار، تبادل المواقف الدموية مع خصومه في فرقة لويس بيبيس. هذه الفرقة كانت كتيبة إعدام نخبوية، تشكّلت من ضباط البوليس السري وأعداء إسكوبار المحليين. وكانت إستراتيجيتهم تشمل قتل البنية الأساسية السرية من ذوي الياقات البيضاء في منظمة إسكوبار، واستهداف مبيّضي أمواله، ومصرفييه، ومحاميه، وعائلته الممتدة.
تحوّلت دموية إسكوبار إلى مستويات عشوائية وبشاعة غير مسبوقة. من ذلك عملية نفذها أتباعه في مكتبة مزدحمة بالآباء والأطفال، وقتلت منهم 20 وأصابت 60 شخصًا. وفي أبريل 1993م، هاجم أتباع إسكوبار مركزا تجاريًا راقيًا في بوجوتا، باستخدام 440 رطلاً من المواد شديدة الانفجار، داخل سيارة فان مسروقة.
على إثر هذه العمليات الجنونية، وجّهت فرقة لويس بيبيس ضربات قاصمة إلى عائلة إسكوبار وجيرانه، واستهدفوا مزرعة أم إسكوبار، وأحد منازله الريفية، والمباني التي تقطن بها أسرة إسكوبار.
امتدّت المطاردات الأمنية لإسكوبار لأكثر من عدّة أشهر، وانتهى الأمر – وفق الرواية الأمنية- في اللحظة التي كان يُجري فيها إسكوبار مكالمة هاتفية مع ابنه، وتمكنت القوات الأمنية من رصده، وأطلقت النار عليه، وتمكنت من قتله. بينما تذكر الرواية الأخرى على لسان ابن بابلو إسكوبار، أنّ والده عندما حوصِر أطلق النار على نفسه وانتحر، وفق طريقةٍ كان والده قد أخبره بها، ونفّذها بدقة.