شهدت حياته تقلّبات مأساوية، لا تقلّ عن مأساوية مسرحياته وكتاباته. أعلن الحرب على الكاثوليك والبروتستانت، واشتهر بقلب “عدو الدين”. بينما في المقابل، وصف الإلحاد بأنه خطر ومنافٍ للعقل، ومع ذلك لا زال يعتبره الكثيرون أحدَ أبرز المسئولين عن انتشار الإلحاد في زمنه. فيما يلي نتعرّف على الأديب الفرنسي المثير للجدل فولتير، وأبرز محطاته الحياتية والفكرية.
حياة فولتير
اسمه الحقيقي فرنسوا ماري أرويه، واشتهر باسم مسيو دي فولتير نسبةً إلى أرضٍ صغيرة كانت تملكها والدته. ولد فولتير في شاتنيه قرب باريس، في 16 فبراير 1694م، ونظرًا لضعف بنيته وصحّته تأخّر تعميده في كنيسة سانت اندريه ديزار إلى 22 نوفمبر من العام ذاته.
ألحقته أسرته البرجوازية بكلية لويس لو جران، على أمل أن يلتحق بسلك القضاء بعد تخرّجه، وبالفعل فور أن تخرّج من الكلية عام 1713م،حاول الانخراط في سلك المحاماة إلا أن المهنة لم تلائمه بالمرّة، فتفرّغ لهوايته الأكبر وهي الكتابة ونظم الشعر، وساعده في مسيرته عرّابه الأب دي شاتودان، حيث أدخله إلى المجتمع الأدبي.
في عامه الـ23 تعرّض فولتير لتجربة الحبس قرابة عام في سجن الباستيل، بسبب قصائده اللاذعة غير الموقّعة باسمه، التي وقعت إحداها في يد الشرطة، ورجّحوا نسبتها إليه، وبالتالي تم حبسه دون محاكمة. وفي هذا الحبس، انتهز فولتير الفرصة ووضع هيكل أول مؤلّفين من أهم مؤلفاته، وهما : مأساة أوديب، وملحمة المعاهدة / أو “لا هنرياد”.
بعد خروجه من السجن، عرضت مأساة أوديب، ولاقت نجاحًا كبيرًا، وفتحت أمام فولتير المزيد من أبواب الأوساط المثقفة. إلا أنه أصيب في 1724م بمرض الجدري، ومكث يتعافى في قصر ميزون، حتى أتمّ عافيته.
النفي إلى إنجلترا
في أغسطس 1726م، هاجر فولتير مرغمًا إلى إنجلترا، وذلك على إثر مشاجرات جرت بينه وبين شفالييه دي روهان، كان من نتائجها أن أودِع فولتير سجن الباستيل مجددًا بضعة أسابيع، ثم أُفرِج عنه شريطة أن يغادر فرنسا بأكلمها. ورغم كل المصاعب المادية، استقر فولتير في لندن حتى عام 1729م. وخلال تلك الفترة، أتقن مهارات اللغة الإنجليزية، ودرس عقائد نيوتين الطبيعية والفلسفية، ونظريات بيكون ولوك، وقرأ شكسبير بكثافة، وتأمّل في طبيعة النظام السياسي الإنجليزي.
في أواخر العام ذاته، 1729م، عاد فولتير إلى فرنسا متخفيًا، وفي العام التالي عُرضت مسرحيته “بروتوس”، وبعدها بعام عرض له “اريفيل” و”زايير”، وكان لها صدى جماهيري ونقدي عالٍ.
خلال العامين 1733 و1734م، أصدر فولتير كتابه “معبد الذوق” ثم “تاريخ شارل الثاني عشر”، وقد أحدث كلاهما ضجة واسعة وصنعا له عددًا كبيرًا من الأعداء والمعجبين على حدٍ سواء. وعلى التوازي من كل هذا، ركّز فولتير قدرًا كبيرًا من اهتمامه على تكوين ثروته الخاصة، مستخدمًا كل ما أمكنه من وسائل المضاربات التجارية دون تورّع.
في كنف مدام دي شاتليه
خلال العام 1734م، لجأ فولتير إلى الاعتكاف في قصر سيري، برفقة الماركيزة دي شاتليه، التي كانت واحدة من أبرز معجباته، ثم صارت خليلته فيما بعد. وقد ساعده هذا الأمر على تفادي مواجهة حالة الاستنكار والعداء التي تولّدت عن نشره لكتاب “الرسائل الفلسفية“، الذي رغم كونه نشره سرًا، إلا أنه سرعان ما ارتبط باسم فولتير، وحدث تصعيد في الأمر وصل لدرجة الحكم القضائي بحرق الكتاب وسجن صاحب المكتبة التي كانت تبيعه.
في كنف مدام دي شاتليه، تشارك فولتير معها اهتماماتها العلمية، وتميّزت تلك الفترة بإنتاجات فولتير ذات الوجهة الطبيعية أو ذات الصلة بالعلوم الطبيعية، فكتب على سبيل المثال “مبادئ فلسفة نيوتن”، وكتابا آخر عن آراء لايبنتز، وكتب أيضًا “المقالة عن العادات”.
لكن هذا لم يمنعه من ممارسة عمله الأثير في كتابة المسرحيات والأدب، فكتب مسرحيات “ألزير” و”ميروب” والابن الضال”، و”محب المجتمع”، و”عذراء اورليان”.
لاحقًا في عام 1748م، ستلتقي مدام دي شاتليه بشاعر شاب وتعجب به، وتحمل منه، وتتوفى على إثر هذا الحمل، وهو ما أثار اغتمام فولتير والشاعر الشاب، وزوج مدام شاتليه.
مع الملك فريدريك الثاني
بدأ الأمر بمراسلات بين فولتير وبين ملك بروسيا (ألمانيا حاليًا) فريدريك الثاني – الذي كان لا يزال أميرًا حينها-، وقد زاره فولتير بالفعل عام 1737م، وتمتّنت صداقتهما، وساعد هذا فولتير كثيرًا في الأوساط الأدبية والدبلوماسية.
بعد وفاة مادام شاتلييه، صار بإمكان فولتير أن يلتحق ببلاط الملك فريدريك الثاني، فسافر إلى برلين، واستقبل هناك استقبالا مشرّفًا، ورغم أن الأمر بدأ بحماس في مراحله الأولى، إلا أنه لم يلبث أن أخد وجهةً غير محمودة فيما بعد في 1753م، حيث اضطر فولتير إلى تدبير محاولة الهروب من تحت سيطرة الملك، تحت غطاء أنه مريض ويحتاج للاستشفاء في منطقة بلومبير، وخرج إليها عازمًا على عدم العودة إلى برلين مجددًا.
خلال المرحلة التالية من عمره، انشغل فولتير بإدارة وتشغيل أراضيه الواسعة، فقد كانت له أملاك في عدة مناطق ريفية، وعاش حياة النبلاء العظام. وإن لم يمنعه هذا أيضا من كتابة المسرحيات، والمؤلفات الأخرى التي غلب عليها الطابع التاريخي، والمراسلات الكثيرة بينه وبين الكثير من الأصدقاء الجميمين متنوّعي الاهتمامات والمناصب.
طبائع وخصال فولتير
انطوى فولتير على كثيرٍ من الخصال المتناقضة والطبائع غير المستحسنة. فكان يتصنّع – تحت غطاء السخرية والتهكّم- الإيمان بما لا يؤمن به، فيظهر بمظهر الكاثوليكي الخاضع للإيمان، ثم يعود ويهاجم الدين والكنيسة والإيمان. وقد وصف بأنه محبٌ للجدل، مولود للعراك.
وفي الوقت الذي يبدو فيه كاتبًا كبيرًا مدافعًا عن العدالة، يظهر في سلوكه كطفلٍ صغيرٍ خاضع لهواه ونزقه، حاقد على بعض الناس والأفكار ويعبّر عن حقده بقسوة متناهية، وفوق كل هذا فهو رجل أعمال جشع جدًا، ولا يتورّع عن بعض الأمور التي يتورّع عنها رجال الأعمال عادةً. كما أنه عصبّي غضوب متقلّب المزاج، وطموح جدًا لا يكفّ عن الحسد تجاه زملائه ومنافسيه.
أيضًا كان فولتير متملقًا بشكل زائد عن الحد، تجاه العظماء المتربعين على السلطة أو المقرّبين منها. كما كان ذا حيوية مستمرة، وصاحب نكتة، إلا أن أقواله وأفعاله لا يمكن أن نأخذها على محمل الجدّ دائمًا.
مبادئ وفلسفة فولتير
كانت لدى فولتير مبادئ أساسية، أطلق عليها معاصروه صفة “فلسفة فولتير”، إلا إنها ليست مبادئ أصيلة أو مبتكرة. فقد استعار فولتير آراءه ومحاجاجاته من أسلافٍ ومن معاصرين، مثل: سبينوزا وبايل ولوك ونيوتن، كما أنه بنى فلسفته في عجالة، على أسس لم تكن بالمتانة الكافية، ودون أن يلتزم بالدقة والأناة اللازمين للفلاسفة.
ورغم ذلك، فإن مبادئ فولتير وآراءه، كانت من بين الأكبر تأثيرًا في أذهان الناس في القرن الثامن عشر.
مبادئ فلوتير في الفكر الإنساني
تعامل فولتير بعدائية مع الديانة المسيحية والكنيسة والنصوص المقدّسة، كما رفض عددًا من الفلسفات المستقرة المؤثرة، من بينها فلسفة ديكارت التي رفضها فولتير بأكملها، وصعّد هجومه على المسيحيين والديكارتيين، والملحدين أيضًا.
- آمن فولتير بأن الإنسان لا يعرف شيئًا عن العالم إلا بالتجربة، وأي ادّعاء بمعرفة أي شيء عنه مسبقًا، هو جنون محض.
- العقل حين تقوده وتدعمه التجربة، يتيح لنا إثبات عدد صغير من المبادئ الجوهرية، إثباتا يقينيًا أو شبه يقيني.
- الإقرار بوجود الله، وبوجود قيمة مطلقة لمنزومة بعينها لفهم الأخلاق.
- في مراسلاته مع الأمير فريديريك الثاني، كان فولتير يحاول أن ينقذ مبدأ حرية الإرادة التقليدي، ولكن هذا أدّى به في النهاية إلى اعتناق الجبرية.
مبادئ فولتير في التاريخ الإنساني
يرى فولتير أن البشر لا ينحدرون من أرومة واحدة، بل هناك أجناس مختلفة من البشر. ورفض آراء جان جاك روسو في الإنسان البدائي.
أقوال واقتباسات فولتير
- ثمة ثلاثة أشياء تؤثر على فكر البشر: المناخ، ونوع الحكم، والدين. هذه هي الوسيلة الوحيدة لتفسير لغز هذا العالم.
- الكذب ليس ذنبًا إلا حين يضرّ شخصًا ما. أما حيت يفيد الإنسانية فإنه أكبر الفضائل قاطبةً.
- اُعبد الله، وكُن رجلاً صالحًا.
- ليس في رأي الكائن الأكبر (الإله) شيء اسمه شر؛ فليس عنده إلا سير الآلة الكبيرة التي تحركها القوانين الأزلية دون توقف.
- إنني لا أقول جازمًا بأنّ لديّ البراهين ضد روحانية الإنسان وخلوده، ولكن كل الاحتمالات تقف ضدهما.
- أنا حر حين أستطيع أن أفعل ما أريد. ولكني ملزم بأن أريد ما أريد. أي أنني لا أستطيع أن أريد دون سبب. وكل ما عدا ذلك مستحيل.
وفاة فولتير
في عام 1778م، لبّى فولتير الدعوة الملحّة لحضور عرض مسرحيته “إيرين” في باريس، ولكنه أصيب بالبرد أثناء هذه الزيارة، وتوفي في 20 مارس. رفض الإكليروس الباريسي دفنه فولتير وفق الطقوس المسيحية، فتدخّل بعض معارفه، ودفن في دير الأب دي سيليير، وبعدها بثلاثة عشر عامًا نقلت رفاته إلى البانتيون، ليدفن جوار رفات جان جاك روسو.
مصدر
- فولتير: حياته- آثاره- فلسفته، أندريه كريسّون، ترجمة د. صباح محيي الدين، منشورات عويدات، بيروت وباريس، 1984م.