اللحظة التي حصل فيها نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الأدب عام 1988، كانت تأريخًا فارقًا في تاريخ الأدب والفكر العربي الحديث. ليس فقط لأن الرجل هو أول أديب عربي يحصل على هذه الجائزة على الإطلاق، وإنما لأنه منذ هذه اللحظة، انفتح الباب على مصراعيه لترجمة الأدب والفكر العربي الحديث إلى اللغات الأجنبية، سواءً كانت شرقية أو أوربية، لدرجة يمكن معها الجزم بأن ما كان مترجمًا قبل هذا التاريخ، لا يُقارن بما تمّ بعده. فيما يلي نتعرّف على نجيب محفوظ الفيلسوف والروائي والسيناريست.
مسيرة حياة نجيب محفوظ
في 11 ديسمبر 1911، ولد نجيب محفوظ في حارة بيت القاضي بحيّ الجمالية في القاهرة القديمة، وتمّت تسميته على اسم طبيب التوليد الشهير حينها “نجيب محفوظ”. نشأ نجيب في عائلة متدينة وطنية محافظة، وكان محبًا للسينما في مرحلة مبكرة من طفولته، وتعلّق كثيرًا بمشاهدة أفلام شارلي شابن، وأفلام رعاة البقر. انتقلت أسرته من حيّ الجمالية إلى حيّ العباسية الذي بقي فيه ولم يغادره إلا بعدما تزوّج في الخمسينات.
التحق نجيب محفوظ في طفولته بالكُتّاب، ثم درس في مدرسة الحسينية الابتدائية، ثم درس الثانوية في مدرسة فؤاد الأول وحصل على شهادة البكالوريا. وفي تلك المراحل اهتمّ محفوظ بالمطالعات الأدبية، فقرأ سنكلير وجونسون وميلتون توب، وواظب على قراءة مترجمات الأهرام الروائية، وكتب التراث العربي القديم النثرية والشعرية، وغيرها.
بدأ محفوظ بتجربة كتابة الشعر الموزون، ثم اتجه إلى كتابة القصة القصيرة في مرحلة الثانوية، ثم انتقل في عام 1932 إلى كتابة المقال، ونشرت له مقالات فلسفية في “المجلة الجديدة”، التي نشر فيها ترجمته لكتاب جيمس بيلي عن مصر القديمة، وفي العام ذاته نشر أولى قصصه القصيرة بمجلة “السياسة”.
في العام التالي، التحق محفوظ بمعهد الموسيقى العربية، ثم تخرج في كلية الآداب قسم الفلسفة، وكان ترتيبه الثاني على الدفعة. وكان من المفترض أن يكمل محفوظ مساره في السلك الأكاديمي من خلال رسالة الماجستير، ولكنه توقف في منتصف الطريق، وقرّر الاتجاه إلى الأدب. ووسّع مطالعاته في الإنتاجات الأدبية الأوربية الحديثة بأنواعها، من خلال أسماء مثل: كافكا وجيمس جويس وبروست وتشيكوف وتولستوي وسارتر وكامي وأناتول فرانس وألدوس هكسلي وهيمنجواي وفوكنر.
نجيب محفوظ والأدب
في عام 1938، نشر أول مجموعاته القصصية بعنوان “همس الجنون”، وفي العام التالي نشر روايته الأولى “عبث الأقدار”، وعُيّن سكرتيرًا برلمانيًا لوزير الأوقاف حتى عام 1950. ثم عُيّن رقيبًا على الأفلام في مصلحة الفنون عام 1953، وفي العام التالي تعيّن مديرًا للرقابة الفنية، وتزوّج من زوجته “عطية الله”.
في أربعينات القرن العشرين، حصل نجيب محفوظ على عدد من الجوائز عن بعض رواياته، ليتوقف في الخمسينات عن الكتابة عندما استشرف أن المجتمع القديم الذي ينقده يوشك على الزوال، ثم عاد في 1957 إلى كتابة الرواية ونشر روايته “أولاد حارتنا” التي أثارت جدلاً واسعًا حينها.
في عِقد الستينات، تنقّل محفوظ بين عدد من الوظائف، فعُيّن رئيسًا للجنة القراءة بالمؤسسة العامة للسينما والتلفزيون، ثم عضوًا في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، ثم مستشارًا لوزير الثقافة ثروت عكاشة.
وفي عام 1988، حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب، متفوقًا على الإيطالي ألبرتو مورافيا والبرطاني جراهام جرين، واللبناني ميخائيل نعيمة، وفي العام ذاته منحه الرئيس حسني مبارك قلادة النيل العظمي، وهي الوسام المصري الأرفع. وفي العام التالي، حصل على الدكتوراة الفخرية في الآداب من جامعة القاهرة.
في عام 2006م، توفي نجيب محفوظ على إثر مشاكل صحية مزمنة؛ تاركًا رصيدًا هائلاً من الإنتاج الروائي والقصصي والسينمائي.
نجيب محفوظ والفلسفة
عانى نجيب محفوظ صراعًا داخليًا شديدًا بين نزوعه إلى الفلسفة، وبين الإغواء الطاغي للرواية، وبلغت هذه الأزمة ذروتها أثناء تحضيره لرسالة الماجستير التي كانت عن “مفهوم الجمال في الفلسفة الإسلامية”، تحت إشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق، ونتج عن ذلك أن قرّر نجيب قطع العمل على رسالة الماجستير، والاتجاه كليّةً إلى الأدب.
في بداياته كتب نجيب محفوظ مقالات في الفلسفة، تعتبر هي المادة الخام للتفلسف عنده، وتشكّل خبرة التعاطي مع الفلسفة، التي سيسكبها بعد ذلك في قالب أوّلي من خلال أعماله الروائية، على لسان أبطال رواياته، وخصوصًا الثلاثية، وذلك بعدما هجر الدراسة الأكاديمية باتجاه الفلسفة، ومنها إلى حيث استقر مقامه في الأدب. وهو الأمر الذي دعا أساتذة الفلسفة إلى التصريح بأن “الفلسفة قد خسرت أحد أبنائها الموهوبين بتحوّل نجيب محفوظ إلى الأدب، غير أن ما كسبته الرواية قد عوّضنا بلا شك، أضعافًا مضاعفة”.
وهذا التحوّل من الفلسفة إلى الأدب، شهِد إخصابًا بالأسئلة الكونية الكبرى نتيجةً للقلق الروحي الذي كان يعانيه محفوظ في المرحلة السابقة، ومن هنا كان الحَمل الفكري لنجيب محفوظ خارج رحم الفلسفة، لكنه كان وَضعًا في رحاب الأدب، وإن كان البعض يعتبره إجهاضًا في ذاته.
نجيب محفوظ والسينما
كتب نجيب محفوظ للسينما 18 سيناريو روائيًا طويلاً، بعد أن أقنعه المخرج الراحل صلاح أبو سيف بدخول مجال كتابة السيناريو، وعلّمه فنّيات كتابة السيناريو، بل وأخرج له 10 من سيناريوهاته الأصلية، كان أولها فيلم “عنتر وعبلة” في عام 1948م. كل السيناريوهات التي كتبها محفوظ لم يكن فيها اقتباسًا عن رواياته، وبهذا يعتبر نجيب محفوظ هو الثالث في قائمة الكتّاب الذين حصلوا على جائزة نوبل في الأدب، وقدّموا سيناريوهات أصلية للسينما. القائمة تضم الروائي البريطاني هارولد بنتر والكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز.
من ناحية أخرى، يأتي نجيب محفوظ على رأس قائمة الروائيين الأكثر اقتباسًا من أعمالهم في السينما المصريّة، برصيد يتجاوز 40 فيلمًا متفاوتة المستوى، كان الأول منها في عام 1960، وهو فيلم “بداية ونهاية” الذي أخرجه صلاح أبو سيف.
نجيب محفوظ وفرادة الإنتاج الأدبي
من بين أهمّ أمارات المبدعين الكبار على اختلاف مجالاتهم، غزارة الإنتاجية الإبداعية التي تنطوي بالأساس على السلاسة والطلاقة الفكرية واللغوية. هذا الملمح كان حاضرًا بقوة في إنتاج نجيب محفوظ، الذي وصل إلى 55 كتابًا، تنوّعت بين الروايات والمجموعات القصصية والسيرة الذاتية، خلال الفترة ما بين عام 1938 إلى عام 2004.
ميزة أخرى تميّز بها نجيب محفوظ إلى أنه كان يقدّم نماذج جديدة من المجتمع لم تقدّمها الرواية العربية من قبل، ومن أبرز الأمثلة على ذلك نموذج صانع العاهات في رواية “زقاق المدق”. وباستثناء “أصداء السيرة الذاتية” التي تعدّ أدبًا ما بعد حداثيًا، فإن كل روايات محفوظ حداثية.
مصادر
- الأصوليات، د. محمد صُفار، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، 2016م.
- نجيب محفوظ فيلسوفًا: مجموعة منتقاة من مقالاته الفلسفية، اختيار وتقديم: أحمد عبد الحليم عطية، القاهرة، 2011م.
- المؤلفات الكاملة لنجيب محفوظ، مكتبة لبنان، بيروت، 1990م.
- نجيب محفوظ الروائي بين المثالية والواقع، د. محمد الجوادي، القاهرة، 2003م.