يعدّ نعوم تشومسكي، عالم اللغويات الذي لا يشقّ له غبار، والناقد الاجتماعي الدءوب، واحدًا من أكثر شخصيات القرن العشرين تحديًا وإلهامًا وإثارةً للجدل أيضًا. تكاد تكون خلاصة شبه نهائية حول تشومسكي؛ وهي أنّ الرجل له شخصيتان: شخصية عالم الرياضيات، وشخصية الفيلسوف السياسي والناقد الاجتماعي الذي يوجه انتقادات عنيفة لكل أنواع الظلم الاجتماعي الموجود في العالم. في هذا المقال نستعرض معالم كل جانب من شخصيته.
هكذا تشكّل نعوم تشومسكي
ولد الفيلسوف وعالم اللغويات والمنظّر السياسي الأمريكي أفرام ناعوم تشومسكي، في 7 ديسمبر 1928م في مدينة فلادلفيا بولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية. التحق بجامعة بنسلفانيا وهناك تابه دروسه في علم النفس والرياضيات والفلسفة واللغويات، ثم حاز الدكتوراة في 1955م. حصل على منصب باحث في المختبر الإلكتروني بمعهد ماستشوستس التكنولوجي حيث درّس اللغتين الفرنسية والألمانية للطلاب المتخصصين في مجال العلوم. وفي عام 1955 تعيّن أستاذًا للغويات في المعهد.
في عام 1969م نشر نعوم تشومسكي أول كتاب سياسي له بعنوان “القوة الأمريكية والمانداريون الجدد”، وذلك بعد مرور أربعة أعوام على تنظيمه للجنة من المواطنين العاديين وإعلانه رفضهم دفع الضرائب احتجاجًا على الحرب الأمريكية في فيتنام.
الذين تأثر بهم تشومسكي
تمثّل فلسفة تشومسكي الاجتماعية تراثًا عريضًا من الفكر المؤيد للتحرر في الفكر والإرادة. فقد تأثر نعوم تشومسكي بخبير علم التربية “وليم فون همبولت” إلى ردجة جعلته واحدًا من الشخصيات الملهمة له. كان همبولت ناقدًا صعب المراس لنظام الحكم الاستبدادي المطلق، كما كان من أعمق المنظّرين في مجال اللغويات العامة، ومن أوائل المناصرين للقيم التي ينطوي عليها مذهب حرية الإرداة.
أيضًا تأثّر تشومسكي يالفيلسوف والناقد الاجتماعي وعالم النفس “جون ديوي”، الذي كان رائدًا لحركة إنشاء المدارس المتقدمة في أساليب التعليم، وكان ناقدًا نشطًا للسياسات الأمريكية الداخلية والخارجية، وللاستغلال الحاصل للمهاجرينوالأقليات المختلفة، وظل مهاجمًا للدور الذي لعبته مراكز القزى في السياسة الأمريكية.
ومن الذين تأثّر بهم تشومسكي على مستوىً محدّد وفاعل بشكل مفاجئ، الفيلسوف والاقتصادي الأسكتلندي “آدم سميث” الذي لمع نجمه في عصر التنوير. كان آدم سميث قد انتقد النزعة التجارية والنزعة الاستعمارية باعتبارهما ضارتين أشد الضرر بصالح البشر في العموم، على الرغم من كونهما على درجة كبيرة من النفع للتجار والصنّاع الذي كانوا بمثابة مهندسي سياسة الدولة وفق مصالحهم وأهدافهم.
تشومسكي عالم اللغويات
يعتقد تشومسكي أن هناك ملكة لغوية فطرية في الذهن البشري، وأحد جوانب تلك الموهبة النظرية يتألف من مجموعة من المبادئ التي تشترك فيها اللغات جميعًا، وهي التي أطلق عليها اسم “النحو العالمي الشامل”. فاللغة تعبر عن الجانب الإنساني فينا، ونستخدمها لنسبر أغوار ذواتنا فضلاً عن ذوات الآخرين، ولنتعامل مع مجريات الأمور في عالمنا وواقعنا، ومع ما قد نصادفه من أعمال ذات معنى أو دلالة.
المعرفة باللغة
ماذا تعني المعرفة باللغة؟ إنها قدرة واستعداد نفسي فطري. وكيف يتم اكتساب اللغة؟ عادة ما تصدر إجابتان عن هذا السؤال: الأولى أنها مجرد أمر يمكن ممارسته، والثانية أنها تتم عن طريق التعلّم الشرطي وتكوين العادات وكذلك آليات التعلم العامّة مثل الاستقراء والاستنباط. يعقّب تشومسكي بأنّ الإجابتين خطأ. فتعلّم اللغة ليس شيئًا نفعله، وإنما هو شيء يحدث لنا.
النحو العالمي الشامل
النحو العالمي ليس “نحوًا” بالمعنى الحرفي، وإنما هو نظرية تحاول ان تتعامل مع الأسئلة التي تتصدى للطبيعة العامة للغة. يذهب تشومسكي إي أنه في سبيل هذا لابدّ من إيجاد الحدود والقيود التي تعمل اللغة داخل إطارها. هناك قواعد تعمل اللغة من خلالها وتمثل أساسات لها؛ القواعد الدلالية التي تساعد على استنباط المعاني، والقواعد الفونولوجية (الصوتية) التي تمثّل الأنماط الصوتية، وقواعد التراكيب النحوية التي تعنى بترتيب الكلمات.
عند التعامل مع أي نظام لغوي، فإننا ننظره إليه باعتباره متفردًا وماديًا بشكل مستقلّ. وهنا لابدّ منوتوصيفه بأقصى قدر ممكن من الاستفاضة والشمولية والأناقة. ومن خلال تفصيل علم أصواته الكلامية، وعلم الصرف، والتراكيب النحوية الخاصة به، ثم توثيق الصلة بيشن الكل والوظيفة؛ سوف تظهر المبادئ اللغوية العامة (أو العالمية) بكل شديد الوضوح.
تتموضع هذه النظرية في إطار حقيقة بديهية عن الطبيعة البشرية مفادها أن: قدراتنا على تنظيم خبرات الواقع التي يتم فهمها وإدراكها عن طريق العقل، هي قدرات ثابتة ومتبلورة. وهذا يعني أن النحو العالمي يسمح لنا بطرح وإثارة بعض الأسئلة المهمة حول إمكانية إدراك بعض النظريات بوضوح ونبذ بعضها الأخرى حتى وإن كانت مدعومة بقرائن متاحة.
تشومسكي الفيلسوف السياسي
هو في هذا الدور اخطر كثيرًا من عالم اللغويات؛ فهو يهاجم سياسة بلاده “الولايات المتحدة الأمريكية” التي يعتبرها ظالمة ومتميزة في العالم كله، ويبدأ بنقدها في جقل الاقتصاد معارضًا بقوة ما أسماه “المبدأ القذر” الذي يرفعه أولئك الذين نصّبوا أنفسهم سادةً على العالم، المتمثل في “كل شيء لنا ولا شيء للآخرين”.
يهتم تشومسكي بكشف ما يجري تعتيمه إعلاميًا، وما يجري التلاعب به سياسيًا وأمنيًا، مع التركيز على ما يعتبره جرائم أمريكية ف فيتنام وكمبوديا والسلفادور وتيمور الشرقية بأندونيسيا ونيكاراجوا وغيرها الكثير، قاصدًا أن يفضح ما في النموذج الديمقراطي الأمريكي من شرور وسيئات.
تشومسكي الناقد الاجتماعي
اشتهر تشومسكي باعتباره ناقدًا دءوبًا للظلم الاجتماعي في كافة مظاهره وأشكاله. تتركّز فلسفته الاجتماعية على:
- الكيفية التي تفرض بها مؤسسات القوى تحكّماتها وسيطرتها على المجتمعات وجماهير العامة.
- الكيفية اتي باع بها المثقفون ضمائرهم، وخانوا مجتمعاتهم المحلية، وآثروا أن يكونوا أذنابًا يخدموا سلطة الدولة.
وقد أدى النقد الاجتماعي الحاد الذي وجهه تشومسكي ضد السياسات الخارجية الأمريكية إلى كشف العنف المحيط بكافة أنحاء العالم نتيجة السياسة الإمبريالية للولايات المتحدة الأمريكية، بحسب وصف تشومسكي. كما فنّد التلفيق والاختلاق الكامنين في مفهوم الذات الذي روّجت له الولايات المتحدة الأمريكية وروّجت له، باعتبارها الدولة حسنة النية متأصّلة الخيرية. أيضًا كشف تشومسكي عمليات ووقائع تزييف الواقع والتلاعب بمجرياته.
تشومسكي بين الريادية اللغوية والنقد السياسي
يصرّ تشومسكي على دحض وجهة النظر القائلة بضرورة وجود صلة لازمة بين اللغويات والآراء والمواقف الاجتماعية. يعلّق تشومسكي “أنت لست بحاجة إلى تدريب لغوي متخصص في مجال اللغويات حتى يكون بمقدورك أن تشجب ذلك التأييد الي تقدّمه البلاد لأولئك الذين يرتكبون أعمالاً وحشية في مكانٍ من الأماكن”. ويعقّب بأنه لا ينبغي أن نولي كثير اهتمام بهوية المتحدّثين أو مؤهلاتهم أو خلفياتهم الثقافية، بقدر ما ينبغي أن نهتمّ بإجابة سؤال: هل ما يقولونه صحيح أم غير صحيح؟
وفي المقابل، يبقى هنا ملمح يشكّل صلةً أساسية بين اللغة التي تفصح عن ماهية الأشياء، وبين الحرية البشرية التي تعني الكيفية التي يتم بها استخدام هذه اللغة.
مصادر
- نعوم تشومسكي: اللغة والسياسة، جون ماهر وجودي جروفز، ترجمة محيي الدين مزيد، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003م.
البنية العميقة بين عبد القاهر الجرجاني ونعوم تشومسكي، مدني محمد، جامعة الجزائر، 2005م.