شارع المعزّ لدين الله الفاطيمي، واحدٌ من أهم شوارع القاهرة إن لم يكن أعظمها على الإطلاق؛ فمنذ إنشاء القاهرة كمدينة ملَكية، وشارع المعز هو الشارع الملَكي الأشهر فيها، ولا تكاد تقطع فيه بضع عشرات من الأمتار حتى تجد أثرًا شامخا يتكلم بلسان عصر من العصور. إنه يحكي بداية القاهرة الحقيقية، ويشهد مولدها، ويمتد به الزمان شاهدًا قويًا على عظمتها وتراثها وثرائها.
يقع شارع المعز في حيّ الجمالية الذي يصدق عليه ما قاله نجيب محفوظ “إنك تخرج منه لترجع إليه، كأن هناك خيوطًا غير مرئية تشدّك إليه، وحين تعود إليه تنسى نفسك. هذا الحي هو مصر، تفوح منه رائحة التاريخ لتملأ أنفك، وتظل أنت تستنشقها دون ملل”.
لشارع المعز شخصية تاريخية مميزة ومتفردة. فما بين سطوة فاطمية، وأصالة أيوبية، وشموخ مملوكي، وفن عثمانية، ودهشة عصرية، يحتضنها كلها شارع المعز.. الذي يبدو وكأن من أراد أن يعظّمه التاريخ من حكام مصر في عصورها الإسلامية المختلفة، حرص على أن يترك لنفسه في شارع المعز أثرًا يذكره به التاريخ.
في البدء كانت القاهرة ثم كان شارع المعز
القاهرة “مدينة المدن وحاضرة الدنيا وتاج البرية”، كما وصفها ابن خلدون، وقال عنها الرحالة الفارسي الناصري خسرو “لو وصفتُ ما فيها من آثار السعادة والثروة لكذّبني الفرس”. اكتمل إنشاء المدينة الملَكية الأولى في مصر الإسلامية عام 969م/ 358هـ، بعد أن استغرق بناؤها 3 سنوات، وذلك في عهد جوهر الصقلي، وكأي مدينة عريقة فقد بُنِي حولها سور مربع الشكل من الطوب اللبن يبلغ طول ضلعه 1500 ياردة، عرف بـ”سور جوهر الصقلي”.
في عام 990م/ 380هـ، ابتدأ العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله في بناء جامع خارج حدود القاهرة القديمة، وبعدها بـ23 عاما أكمله وأتمه ابنه الخليفة الحاكم بأمر الله في 1013م/ 403هـ، وسماه باسمه “جامع الحاكم بأمر الله”، والذي يعتبر ثاني مساجد القاهرة اتساعًا بعد مسجد ابن طولون.
في عهد الخليفة الفاطمي “المستنصر بالله” شبت في مصر وأقاليمها فتنة تخريبية؛ فاضطر الخليفة لاستدعاء أمير جيوشه الأمير “بدر الدين الجمالي” الذي تمكن من القضاء عليها. بعدها مباشرة وفي عام 1087م/ 480هـ، بنى أمير الجيوش حول القاهرة القديمة سور القاهرة الشمالي، والذي يمثل توسعة للسور القديم الذي بناه “جوهر الصقلي”؛ إذ تخطى حدود جامع الحاكم بأمر الله. وضم هذا السور بابي “النصر” و”الفتوح”، وشملت التوسعة نقلا لموضع باب الفتوح إلى موضعه الذي عليه الآن، إذ كانت تخرج منه الجيوش المصرية إلى فتوحاتها ومعاركها، ولذا سمي من حينها باسم باب الفتوح.
استكمالا لتوسعة الأمير بدر الدين الجمالي لسور القاهرة، فقد نقل باب زويلة إلى موضعه الذي هو فيه الآن في الجزء الجنوبي من السور، وذلك عام 1092م/ 485هـ، وينسب باب زويلة إلى قبيلة “زويلة” المغربية التي أقامت بالقرب من الباب. وقد كان الباب مخصصًا لتنفيذ الكثير من حالات الإعدام، أو لتعليق رءوس المنفذ فيهم حكم الإعدام.
ما بين باب الفتوح في الشمال، وباب زويلة في الجنوب، يمتد شارع عريق بطول 1500 متر، يمثل قلب القاهرة القديمة، يُعرف منذ قرون عديدة باسمه الذي لا زال يحتفظ به إلى اليوم؛ شارع المعز لدين الله الفاطمي.
قديمًا، وقبل دخول الإسلام مصر، كان هناك موضعٌ لدير مسيحي يتضمّن بئرًا عرفت بـ”بئر العظام”. في عهد الدولة الفاطمية وتحديدًا في عام 1125م/ 519هـ، أنشأ الخليفة الفاطمي “الآمر بأحكام الله” فوق هذا الموضع “جامع الأقمر”، الذي كان الأول من نوعه في مصر؛ إذ روعي في تصميمه التوفيق بين اتجاه القبلة واتجاه الطريق. وبعد مرور 280 عامًا على إنشائه، قام الملك الظاهر بيبرس بتجديده، ولذا يعد الجامع الأقمر من الآثار القليلة التي ما زالت باقية من عهد الدولة الفاطمية، هو وأخويه الجامع الأزهر والجامع الأنوَر.
شارع المعز والحكام الأيوبيين
مع ابتداء عهد الدولة الأيوبية بتولّي صلاح الدين الأيوبي حكم مصر، حدث تطور معماري كبير في القاهرة لم يلبث أن هدأ بوفاة صلاح الدين. إلى أن كان حكم السلطان الكامل محمد بن العادل بن أيوب. ففي عام 1225م/ 622هـ اختار موضع القصر الغربي الفاطمي في شارع المعز، ليقيم عليه مدرسة حملت اسمه، المدرسة الكاملية، وكانت الأولى من نوعها في مصر لتدريس الحديث النبوي والثانية في العالم الإسلامي. ورغم تهدم معظم المدرسة حتى كادت تضيع معالمها، إلا أن المجلس الأعلى المصري للآثار بذل جهودًا كبيرة كي تظهر على ما هي عليه الآن من الداخل أو الخارج.
ولم تكد تمضي 20 سنة، حتى قرّر آخر ملوك الدولة الأيوبية بمصر، الملك الصالح نجم الدين أيوب أن يحذو حذو أبيه الملك الكامل. ففي عام 1243م/ 641هـ اختار الملك الصالح موضع القصر الشرقي الفاطمي في شارع المعز لدين الله، لينشئ مكانه مدرسةً هي الأولى في مصر لتدريس المذاهب الأربعة، وأرفقها بمسجدٍ حمل اسمه؛ مسجد ومدرسة الصالح أيوب. وقد اندثر كلاهما ولم يتبق إلا القليل من أطلال المدرسة. بعدها بـ7 أعوام وبعد موت الملك الصالح أثناء معركة المنصورة الشهيرة، أقامت شجرة الدر في عام 1250م/ 648هـ قبة الصالح بجوار المدرسة التي بناها زوجها الراحل في شارع المعزّ.
شارع المعزّ والحكّام المماليك البحرية
في عصر دولة المماليك البحرية في مصر، ظلّت شخصية شارع المعزّ التاريخية حاضرة في أذهان ووجدان حكّامها. ففي عام 122م/ 660هـ، قام الملك الظاهر بيبرس البندقداري ثاني حكام المماليك، بشراء موقع في شارع المعز ليقيم عليه مدرسة من أجلّ مدارس القاهرة؛ “المدرسة الظاهرية”، والتي تخضع الآن لعناية المجلس الأعلى للآثار بعد أن تهدّم معظمها وصارت جزئين يمر بينهما شارع بيت القاضي.
وامتدادًا للحضور القويّ لشارع المعز في دولة المماليك، قرر الملك المنصور قلاوون الألفي، بعد أن تولّى حكم مصر، أن يؤدي لله نذره الأعظم بأن يبني بمصر بيمارستان. وقع اختياره على شارع المعزّ، فأنشأ به جامعا ضخمًا، في عام 1284م/ 683هـ، عدّه المؤرخون من مفاخر مدن الشرق في القرون الوسطى، وضمّنه بيمارستان كبيرًا كان بمثابة جامعة للطب تدريسًا وعلاجًا. البيمارستان هو “مستشفى عام لمعالجة جميع الأمراض”؛ أما الآن فقد أنشئ بجانبه مستشفى قلاوون التخصصي للرمد.
بعد مرور 10 أعوام واجه الملك الناصر محمد بن قلاوون انقلابًا من أحد مماليك أبيه، “العادل كتبغا المنصوري” فخلعه من الحكم، ووضع أساسًا لمسجد بجوار جامع المنصور قلاوون بشارع المعز، في محاولة لتخليد اسمه بأثر هو الآخر عبر التاريخ في شارع المعز. غير أنه بعدها بـ 5 أعوام قام الناصر محمد بن قلاوون بانقلاب مضاد استرد به حكم مصر، وأمر بإكمال المسجد في 1304م/ 703هـ، وانتزع لنفسه شرفا تاريخيًا بنسبة المسجد إليه؛ “مسجد ومدرسة الناصر محمد بن قلاوون”.
يحوي المسجد بابًا رخاميًا قوطيًا، كان لأحد كنائس عكّا الشهيرة فأحضره له أخوه خليل بن قلاوون ليتم تركيبه في المسجد، كعادة المماليك في ذاك العصر، إذ كانوا ينقلون أبواب القلاع والحصون والكنائس المفتوحة في معاركهم إلى ميادين القاهرة ومساجدها.
لم يسلَم واحدٌ آخر من أمراء المماليك من سِحر شارع المعز وجاذبيته التاريخية الطاغية؛ فقرر أن يقتطع لنفسه عنوة موقعًا واسعًا يطل على شارع المعز، ليبني عليه لنفسه قصرًا عظيمًا، يضمن به أن يقترن ذكره في التاريخ بذكر شارع المعز؛ “قصر الأمير بشتاك”. بدأ الأمير بشتاك إنشاء قصره في 1324م/ 735هـ واستغرق بناؤه 15 عامًا. وصف المقريزي هذا القصر بأنه من أعظم أبنية القاهرة؛ فقد كان ارتفاعه 40 ذراعًا، ويَنظر من أعلاه إلى بانوراما للقاهرة والقلعة والنيل والحدائق. والقصر الآن يقع تحت يد المجلس الأعلى للآثار وقد تقرّر ترميمه قبل أعوام.
شارع المعزّ والحكام المماليك البرحية
بقدوم أول ملوك الترك البرجية (الجراكسة) وأكثرهم محبة في قلوب المصريين إلى سدة الحكم في مصر، السلطان الظاهر برقوق، لم يفُته أن يبني لنفسه أثرًا يحمل اسمه في شارع المعز لدين الله، “مسجد السلطان برقوق”، وكان ذلك في عام 1384م/ 786هـ، واستغرق بناؤه عامين، وأرفقه بمدرسة شرعية.
في القرن الذي يليه، آلَ مُلك مصر إلى واحدٍ من مماليك الظاهر برقوق، وصفه دي لابورت في موسوعة وصف مصر بأنه “مثال الحاكم المتكامل”، السلطان المؤيد شيخ المحمودي، الذي أنشأ جامع السطان المؤيد شيخ عام 1415م/ 818هـ بجوار باب زويلة على يسار الداخل منه. كان مكان المسجد قديمًا سجنٌ من أشنع السجون وأقبحها منظرًا، وكان المؤيد قد نذر إن ولاه الله حكم مصر أن يبني مكان هذا السجن الذي شهد فيه أياما قاسية جامعًا عظيمًا؛ وقد كان. فأزاله المؤيد شيخ، وبنى مكانه جامعه، واختار برجي باب زويلة لإقامة منارتي الجامع عليهما، وجعل واجهة الجامع الجنوبية تقوم بدور السور في سور القاهرة الجنوبي، وانتهى من تشييده في 1420م/ 822هـ.
بعدها بأعوام خمسة، أنشأ ثامن الملوك الجراكسة في شارع المعز لدين الله، مسجدًا سماه باسمه؛ مسجد السلطان الأشرف برسباي. ففي عام 1425م/ 829هـ قام الملك الأشرف برسباي الدقماقي، أحد مماليك الظاهر برقوق، بشراء العديد من المحلات التجارية من أصحابها وتعويضهم عنها وترضيتهم، ليبني مكانها مسجده، وألحق به مدرسة وسبيلاً، يحتلون موقعا متميزًا في شارع المعز، حيث تقع المجموعة على تقاطع شارع المعز مع شارع جوهر القائد. جديرٌ بالذكر هنا أن السبيلَ فنٌ معماريٌ أبدعه المماليك وظهر لأول مرة في عصرهم، وصار من أهم فنون العمارة الإسلامية الخيرية.
في عام 1456م/ 861هـ، اختار ملك مصر حينها، الملك الأشرف أبو النصر إينال العلائي الناصري، موقعًا بشارع المعز لينشئ فيه حمامًا يحمل اسمه، “حمّام إينال”، وهو أحد حمّامين اثنين ضمهما شارع المعز. الحمّام بصفة عامة يمثل وحدة معمارية بيزنطية ورومانية الأصل، وقد أولى علماء الحملة الفرنسية الحمامات المصرية اهتماما ملحوظا، فيما يزعم الرحالة الفرنسي دي فوجاني بأنه لا تتميز الحمامات بأية سمة معمارية خاصة، وأن التخطيط الداخلي موحّد في كل مكان.
في أواخر عصور المماليك الجراكسة في مصر، أنشأ السلطان الجركسي الأشرف قنصوة الغوري سلسلة من الإنشاءات التي حملت اسمه، واختار لها شارع المعز لدين الله الفاطمي، و لو لم يكن للسلطان الغوري في تاريخه سواها لكانت كافية. ففي عام 1503م / 909هـ أنشأ السلطان قنصوة الغوري منزلا به مقعد مخصص للرجال، وجعل واجهته على الطراز القبطي الفريد من نوعه بين المقاعد في العمائر الإسلامية. بعدها بعام بني الغوري كما كانت عادة المماليك قبة حملت اسمه لتكون مدفنا له بعد وفاته؛ إلا أن القدر لم يسعفه في تحقيق ذلك، إذ قُتل وفقدت جثته في معركة مَرج دابق مع العثمانيين.
ولم يمض عام آخر على إنشاء القبة، حتى كان السلطان الغوري قد انتهى من إنشاء مسجد بديع الصنع ومدرسة ضمّهما معا وسمّاهما باسمه، “مسجد ومدرسة الغوري”. وأخيرًا، وفي أواخر عام 1505م/ 911هـ أنشأ السلطان الغوري سبيلا وكتابا، سماه باسمه وضمّه إلى مجموعته الفريدة، ويُعدّ سبيل الغوري هو الوحيد الباقي من الآثار الإسلامية مكتملا بجميع أجزائه دون نقصان.
شارع المعزّ في عهد العثمانيين
انطفأت شمس المماليك وغابت عن مصر إلى الأبد، تاركة لنا من الآثار في شارع المعز وغيره، ما يخبرنا عن شموخهم وفنونهم المعمارية. ودخلت القاهرة تحت سلطة الحكم العثماني. لم تكد تمضي 20 عامًا من الحكم العثماني على مصر، حتى أضيف إلى ملامح شخصية شارع المعز التاريخية ملمح عثماني. ففي عام 1535م/ 942هـ أنشأ الوالي العثماني لمصر، “خسرو باشا”، سبيلاً في شارع المعز، اختار له موقعًا مميزًا وسمّاه باسمه، في مواجهة مجموعة قلاوون وبجوار قبة الصالح أيوب. وقد أضيف إلى السبيل دور آخر لتعليم يتامي وأطفال فقراء المصريين القرآن الكريم وعلوما أخرى.
ورغم مرور قرابة 200 عامٍ بعدها، فقد ظل فيها شارع المعز بلا أي إضافات عثمانية، باستثناء المنزل الذي أنشأه الحاج مصطفى جعفر كبير أعيان تجار البن بوكالة ذي الفقار كتخدا، في حارة الدرب الأصفر المتفرعة من شارع المعز بجوار بيت السحيمي، وتم ذلك في عام 1713م/ 1125هـ.
وفي عام 1735م/ 1148هـ قام الأمير أحمد بن عمر الخربوطلي بهدم جامع الظافر الفاطمي، وأعاد بناءه من جديد، وقد غلب على الجامع تسميته بـ”جامع الفكهاني” لأنه كانت تباع أمامه الفاكهة وخاصة في المحلات الموقوفة للصرف على خدمته.
حتى كان عام 1744م/ 1157هـ، ظهرت في شارع المعز بصمة عثمانية مميزة على يد الأمير عبد الرحمن كتخدا، وذلك من خلال عملين؛ الأول السبيل والكتاب الذي أنشأه وسماه باسمه، والذي نلاحظ فيه التطوير الذي أدخله العثمانيون في عمارة الأسبلة، إذ عدّوها من أهم مرافق الرعاية الاجتماعية التي كفلتها الدول الاسلامية، فكان السلاطين والأمراء يأمرون مهندسيهم ببناء أسبلة تحمل أسماءهم، ومنها هذا السبيل؛ “سبيل وكتاب عبد الرحمن كتخدا”. والثاني “سبيل وكتاب ومسجد الشيخ على المطهر”، الذي أنشأه الأمير عبد الرحمن كتخدا في نفس العام عند تقاطع شارع المعز مع شارع جوهر القائد.
وقبيل عام 1785م، أنشأ القاضي عبد الرحيم البيساني بشارع المعز، حمامًا مزدوجًا به قسمان للرجال وللنساء، عُرِف بـ”حمام السكرية”.
شهد عام 1796م/ 1211هـ اكتمال ضم أجزاء بيت يعد مثالا فريدًا للبيوت الأرستقراطية في مصر في القرن السابع عشر، “بيت السحيمي” الكائن في حارة الدرب الأصفر الشهيرة المتفرعة من شارع المعز، والذي استغرق ضمّ أجزائه ما يقرُب من قرن ونصف، وسُمّي ببيت السحيمي نسبة إلى آخر مالكيه قبل أن تشتريه الحكومة المصرية وتسجله كأثر إسلامي.
وفي العام ذاته، أنشأت الست نفيسة البيضا، زوجة مراد بك الكبير، وكالةً كبيرةً تطل على شارع المعز، حملت اسمها، وبجوار الوكالة أنشأت سبيلاً عُرِف بـ”سبيل الست نفيسة البيضا”.
شارع المعزّ في الدولة المصرية الحديثة
دخلت مصر عصر الدولة الحديثة بتولي محمد على باشا للحكم فيها، وتطويره وتحديثه لشتى مظاهر وميادين الحياة. اختار محمد على شارع المعز لدين الفاطمي كي ينشئ فيه سبيلين كصدقات جارية على روحي اثنين من أبنائه. السبيل الأول هو “سبيل محمد على بالعقادين”، الذي أنشأه صدقة على روح ابنه أحمد باشا الشهير بـ “طوسون” عام 1820م/ 1236هـ. أما السبيل الثاني فهو “سبيل محمد علي بالنحاسين”، الذي أنشاه محمد علي بعد السبيل الأول بثماني سنوات صدقة على روح ابنه إسماعيل باشا الذي مات محروقا ببلاد السودان في أثناء حروب محمد علي في السودان. والسبيل يظهر إبداع الفنان القديم ومهارته في عمارة الأسبلة خصيصًا. وفوق هذا السبيل أنشئ كُتّابٌ لتعليم فقراء المصريين، وفيما بعد تحول السبيل إلى “مدرسة النحاسين الأميرية”.
بحلول عام 1839م/ 1255هـ، شهد شارع المعز لدين الله إنشاء آخر أثر فيه؛ حيث قرّر أحد الأمراء من خاصة محمد علي، وهو الأمير الكبير “سليمان أغا السلحدار”، إدراجَ اسمه في ذاكرة التاريخ؛ فاختار موقع دار العلم القديمة التي أنشأها الحاكم بأمر الله الفاطمي في شارع المعز، ليقيم عليها مسجدًا يحمل اسمه، وأرفقه سبيلاً وكتّابا، ليُعرَف بـ”مسجد وسبيل وكتّاب سليمان أغا السلحدار”، الذي باتَ آخرَ سطر أثري في السجل الساطع لأعظم شوارع القاهرة القديمة.
أخيرًا، سيظلّ شارع المعز لدين الله الفاطمي، قلبَ القاهرة النابض دائمًا وأبدًا، وأكثرَ شوارعها ثراءً روحيًا وماديًا. فقد تجمّعت له من فنون العصور وأحداث التاريخ مالا يضاهيه فيها شارع في العالم إلا في القاهرة نفسها. وإذا كان هناك من الشوارع الآن ما يخطف الألباب والعقول في أوروبا أو أمريكا أو اليابان، فإن شارع المعز يظلّ يتميز عنها بقدرته على أن يخطف الروح، ليشعرك بأنك عدت بآلة الزمن مئات السنين، أو أنك ظللت على قيد الحياة لأكثر من 1000 عام. إنك تخرج من الشارع وأنت في حالة اكتفاءٍ دنيويٍ تامٍ، وكأنك قد عدت فجأة إلى هذا العصر الحاضر، إلى عمرك الحقيقي. لا زال لهذا الشارع، شارع المعز لدين الله الفاطمي، سحرٌ لا يقاوم.
مصادر للاستزادة
– العبرة والافتخار بما في القاهرة من آثار، الجزء الأول: شارع المعز لدين الله، محمد الفرّة، دار الصديقين للنشر والتوزيع، القاهرة، 2007م.