تحظى شخصية “ذو القرنين” باهتمام كثيرٍ من الباحثين على اختلاف توجهاتهم ولغاتهم ودياناتهم، وتنوّعت الآراء التاريخية والتفسيرية التي توصّلوا إليها في محاولتهم الإجابة على السؤال الملحّ: من هو ذو القرنين؟ وأي حقبةٍ عاش فيها؟ وكيف تمكّن من أن يطوف العالمَ القديم حتى وصل إلى أقصى مشرقه وإلى أقصى مغربه؟
من هو ذو القرنين؟
تتوافر أقوال كثيرة متنوّعة في محاولة الإجابة عن سؤال: من هو ذو القرنين ولماذا سُمّي بهذا الاسم؟
يرى المقريزي أنّ ذا القرنين ملكٌ عربيّ مذكور بكثرة في أشعار العرب، وأنّ اسمه “الصعب بن ذي مراثد بن الحارث الرائش من بني يعرب بن قحطان، وأنه كان ملكًا من ملوك حمير.
ويرى محمد رشيد رضا أن “ذو القرنين” كنية من كُنى ملوك اليمن العرب المعروفين باسم “الأذواء”، مثل “ذو يزن” و”ذو نواس” وذو الكلاع”. وبالنسبة لذو القرنين فأنه مختلفٌ في نبوته، إلا أنه كان في زمنٍ بعيد كانت أحوال العمران مختلفة؛ فقد طاف مشارق الأرض ومغاربها بوسائل طبيعية كانت معتادةً في عصره. ويرى أنّ الراجح أنه كان قبل زمان الإسكندر المقدوني بآلاف السنين لدرجة أن انطمس أثر عمران ذلك الزمان.
ويرى شبلي النعماني، أن ذا القرنين هو “دارا الكبير” ملك الفرس في القرن الخامس قبل الميلاد، وأن يأجوج ومأجوج من قبائل الإسكيت التترية التي كانت تقيم في الشرق من جبال القوقاز، وأن السّدّ الذي بناه هو السدّ المعروف بسدّ دربند القريب من مدينة دربند الواقعهة غربي بحر قزوين.
بينما يرى أبو الكلام آزاد أن ذا القرنين هو الملك “كورش” ملك الفرس في القرن السادس قبل الميلاد، وقد حكم قبل “دارا الكبير”، وقوّض مملكة بابل الكلدانية، وأذِن لليهود المسبيّين في مملكة بابل بالعودة إلى فلسطين وتجديد أورشليم “بيت المقدس” ومعبدها سنة 583 قبل الميلاد. وأنّ السدّ كان بين طرفي جبل من جبال القوقاز بين مدينتي “ويلادي كيوكز” و”تفليس”، ويعرف باسم مضيق كورش، وهو لا يزال موجودًا بمكوناته من الحديد والنحاس، وأن يأجوج ومأجوج هم قبائل منغولية كانت تعيث فسادًا في البلاد، فبنى قورش السدّ لمنعهم.
وقيل إنّ ذا القرنين كان من نتاج تزاوجٍ بين الملائكة والإنس، وأن أباه أهبطَ إلى الأرض، فسُلِخ جناحه، وأعيد في صورة ولد آدم، فنكح امرأةً من الآدميات، وأنجب منها “ذا القرنين”.
ومحصلة النصوص والنقول المذكورة عن ذي القرنين، أنه كان كان رجلاً طوّافًا صالحًا حكيمًا، وأنّ الناس جعلوه ملكًا عليهم لذلك، وأنّ مُلكه وصل ما بين أقصى الشرق حتى أقصى الغرب.
لماذا سُمّي ذو القرنين بهذا الاسم
قيل: لأنه صاحب قرني الشمس؛ أي الذي ملَك معمورة البشر من طرفها الذي تطلع عنده الشمس، حتى طرفها الآخر حيث تغرب الشمس. وقيل: لأنه طاف قرني الدنيا (أي: شرقها وغربها)، وملك ما بينهما.
وقيل: لأنه انقرض في زمانه قرنان من الناس. وقيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين. وقيل: كان يلبس تاجًا له قرنان. وقيل: كان له قرنان (أي ضفيرتان).
وقيل: لأنه رأى في المنام كأنه صعد الفضاء فتعلّق بطرفي الشمس وقرنيها وجانبيها، فسُمّي لهذه السبب بذي القرنين.
كيف تمكّن ذو القرنين في الأرض
يذكر القرآن في قصة ذي القرنين في سورة الكهف “إنّا مكّنا له في الأرض”. وتنوّعت الأقوال في محاولة تفسير معنى وصورة هذا التمكين في الأرض. فيرى البعض أنه تمكين في الدين، وأعلى التمكين في الدين هو مقام النبوة. ويرى البعض أن التمكين هو التمهيد من الله بتيسير وتسهيل الأسباب المؤدية إلى تحقيق المراد. ويرى آخرون أن المقصود أن الله مكّنه من التصرف في الأرض كيف يشاء، فآتاه من كلّ شيءٍ علمًا وقدرةً وأدواتٍ ولغاتٍ يتوصّل بها إلى كل ما يريد في كل أقطار الأرض. وقيل إن المعنى أن الله مكّنه من معالم الأرض ومنازلها وتضاريسها وآثارها.
مسيرة ذو القرنين إلى المغرب والمشرق
يرى بعض المؤرخين المسلمين المعاصرين أنّ مسار رحلة ذو القرنين يشير إلى أنه سار إلى منتهى بلاد المغرب الأقصى في إفريقيا، وتذهب بعض الأقوال إلى أنه تجاوزها إلى بلاد الأندلس قديمًا، ومنها امتطى متون السفن مقتحمًا بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) متوجهًا إلى المغرب الأقصى (الأمريكتين)، ووفقًا لهذا القول يمكن اعتبار ذو القرنين هو أول من اكتشف الأمريكتين، بل وتخطاهما حتى جزر هاواي حيث وجد أن لا شيء وراء ذلك سوى مياه المحيط، حيث كانت تبدو الشمس أثناء غروبها وكأنها تغرب في قلب الماء، وهو المنظر الذي وصفه القرآن بالعين الحمئة.
ما هي العين الحمئة؟
لما وصل ذو القرنين إلى أقصى نقطة في غرب الأرض، كان ما شاهده من غروب الشمس وكأنها تغرب غاطسة في موضعٍ عينٍ أو فوّهةٍ طينية ملتهبة. وهو ما ذكره القرآن بقوله ” حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ”.
وفي تلك البقعة التي هي آخر مكان وصله ذو القرنين من هذه الجهة، وجد أقوامًا عراة من الثياب، لباسهم جلود الصيد، وطعامهم ما يطرحه لهم البحر، ولم يكونوا يدينوا بديانة، وألهم الله “ذو القرنين” – أو أوحي إلى نبيّ كان برفقته ليخبره- أن يختار بين أحد أمرين: أن يعذّبهم إن أصروا على عدم الالتزام بأمره والدخول في ديانته، أو أن يتعامل معهم بطريقة حسنة.
واستغرقت رحلة عودة ذي القرنين من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق 12 عامًا، حتى بلغ موضعًا في الجنوب الشرقي، يبدو كأن الشمس تطلع منه على معمورة الأرض. وهناك عثر على أقوامٍ يسكنون الصحراء لا بيوت لهم ولا شيء يستترون به من حرّ الشمس، وقيل إنهم كانوا إذا اشتدّ عليهم حرّ الشمس يلوذون بسراديب حفروها تحت الأرض، تكاد تشبه القبور.
ثم ارتحل ذو القرنين متخذًّا طريقًا ثالثًا، باتجاه الشمال هذه المرة، حتى وصل إلى بلاد بحر قزوين، ومنها سار إلى تركستان الشمالية، ومنها إلى تركستان الشرقية، وهناك وجد جبلين منيعين في أقصى الشّمال (جنوبي تركستان الشرقية)، من ضمن سلسلة جبال متصلة ممتدة من وسط الصين وحتى الشّمال، ومن وراء هذين الجبلين كانت تتواجد قبائل يأجوج ومأجوج.
قصة يأجوج ومأجوج
يأجوج ومأجوج قبيلتان من الترك، من نسل يافث بن نوح عليه السلام، وليس في القرآن الكريم ما يدل على أشكالهم وسماتهم الخلقية، واقتصر على أنهم من الأقوام المفسدين في الأرض، دون إشارة إلى وجود أمر خارق للعادة بشأنهم. تشير الكثير من الأقوال إلى أنهم كثيرو الجماع، وجماعهم سِفاح، وليس عندهم شريعة للنكاح، ويتكاثرون بشدّة.
كانوا أقوامًا أولي بأسٍ شديدٍ في الأرض، يشنون الغارات على مَن جاورهم، يغزونهم ويجتاحون ديارهم وخيراتهم، ويقتلون ويسبون.
هل سور الصين العظيم هو سدّ يأجوج ومأجوج؟
يذهب بعض المؤرخين إلى القول بأن سور الصين العظيم الذي يبلغ طوله 2600 كيلومترًا، هو السدّ الذي بناه ذو القرنين، وأنّ البنائين الذين ساعدوا في البناء كانوا من الصينيين، ولا ينافي هذا أن يُنسَب البناء إلى ملك الصين في ذلك الزمان حيث أنه كان بطلبٍ منه، وتم تشييده على مرأىً منه، وأنه استنجد بذي القرنين لما وصل، وتمكّن الصينيون بمعونة ومساعدة ذي القرنين من بناء هذا السدّ الهائل (سور الصين العظيم)، والفضل في ذلك يرجع إلى قوة ذي القرنين وشدة بأسه وعظيم سلطانه.
وتذكر دائرة المعارف الإنجليزية، أنّ سور الصين أنشئ عام 214 قبل الميلاد لصدّ برابرة الشمال، ويمتدّ متعرّجًا لمسافة 1500 ميل في الجبال والوديان وحول الأنهار.
بعثة الواثق بالله لاكتشاف سدّ يأجوج ومأجوج
يذكر المؤرخون أن الخليفة العباسي الواثق بالله، رأى في منامه أنّ سدّ يأجوج ومأجوج مفتوح، فارتعب، وأمر بانطلاق بعثة استكشافية ضمّت 50 رجلا، ومالا وزادًا وفيرًا، لأجل استكشاف موضع السدّ، وحالته الحالية.
مرّت هذه البعثة على مدار 63 يومًا، عبر الكثير من الممالك والبلدان، وأراضي سوداء ومدنًا خراب، والكثير من الحصون، حتى وصلوا إلى موضع السدّ حيث تراقبه وحدات من الفرسان، تعسكر في الحصون القريبة منه، وعادت البعثة بخبرٍ يطمئنه باستحكام انغلاق السدّ في موضعه.
متى ينهدم سد يأجوج ومأجوج؟
جاء في القرآن الكريم “فإذا جاء وعدُ ربي جعله دكّاء”، أي حينما يأتي الوقت الذي يقدّره الله تعالى فإن هذا السدّ سوف ينهدم مدكوكًا مستويًا باستواء الأرض. وتنوّعت الأقوال حول ذلك الوقت الذي سيحين فيه هذا الأمر، فقيل: عندما يحين قيام الساعة، وقيل عندما يحين وقت خروج يأجوج ومأجوج، وقيل: إن هذا الأمر لا يحدث دفعةً واحدة، وإنما يحدث تدريجيًا، ويكون خروج يأجوج ومأجوج للإفساد في الأرض تدريجيًا وعلى موجاتٍ أيضًا، وليس دفعةً واحدة.
ولكن جاء في الحديث النبويّ، أن انهدام السدّ وخروج يأجوج ومأجوج يكون في آخر الزمان، في المرحلة التي ينزل فيها نبي الله عيسى – عليه السلام- إلى الأرض ليملأها قِسطًا وعدلاً. فيوحي الله إليه أنه لا طاقة لأحد بقتال قبائل يأجوج ومأجوج. وهنا ينحاز عيسى عليه السلام ومن معه من مؤمني البشر إلى جبل الطور، ويبقون هناك حتى يقدّر الله هلاك يأجوج ومأجوج بطريقةٍ تشبه الوباء، فيموتون جميعًا دون استثناء.
مصادر
– ذو القرنين وسدّ الصين: من هو؟ وأين هو؟، محمد راغب الطباخ، دار غراس للنشر والتوزيع، الكويت، 2003م.
– أطلس تاريخ الأنبياء والرسل، سامي بن عبد الله المغلوث، مكتبة العبيكان، ط6، 2005م
– أطلس القرآن: أماكن- أقوام- أعلام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر، دمشق، ط2، 2000م.