الأديرة القبطية.. أقدم جامعات روحية على أرض مصر 3
الأديرة القبطية.. أقدم جامعات روحية على أرض مصر

بجانب نشاطها الديني والروحي، أصبحت الأديرة القبطية مؤسسات خدمية، تقدّم خدماتها للمجتمع، وبالأكثر للمسيحيين، حيث استفادت الأديرة في العصر الحديث من وجودها في الصحراء بعيدًا عن الصخب وأنشأت بعض المشروعات الخدمية التي تساهم في تنمية مهارات الرهبان ودعم جهادهم الروحي من جهة، وتوفير مستلزمات واحتياجات المواطنين والدفع بجهود التنمية في الكنيسة القبطية والمجتمع المصري بشكل عام من جهة أخرى.

وتعمل بعض الأديرة على تصنيع الأثاث المنزلي في ورش خاصة بذلك داخل الدير، إلى جانب الاستثمار في المنتجات الزراعية نتيجة استصلاح مساحات من الدير في النشاط الزراعي، حتى أن بعضها توسع في زراعة الفاكهة، ما سمح لها بتصدير منتج مصري عالي الجودة إلى الدول الأوربية، كما تحوي بعض الأديرة مناحل، ما يوفر إنتاجا مميزًا من العسل لهذه الأديرة.

ضف إلى ذلك إنشاء بعض الأديرة في مصر لورش نجارة لصناعة الأيقونات الخشبية، وبعضها للخراطة، وغيرها للإنتاج النباتي، كل ذلك ساهم ويساهم في دعم جهود التنمية في المناطق التي يقع فيها الدير والمحافظات القريبة منه، كذلك يسمح بتداول هذه المنتجات داخل الكنائس القبطية بشكل عام، ما يشكّل نوعًا من الروابط بين الكنائس المحلية والأديرة، ويشجع أيضا الكثيرين إلى زيارة الأديرة بين الحين والآخر.

وهنا نستكمل الحديث على الأديرة القبطية التي تشرف عليها الكنيسة، ونستعرض معًا تاريخا وظروف نشأتها وأهميتها التاريخية والسياحية.

دير الأنبا مكاريوس السكندري جبل القلالي البحيرة

يقع دير الأنبا مكاريوس السكندري بين مدينة دمنهور ومدينة السادات، بمحافظة البحيرة، ويرجع تاريخ نشأته إلى القرن الرابع الميلادي، حيث كانت تعرف هذه المنطقة بجبل القلالي، نظرًا لوجود عدد من الرهبان المتوحدين كل في “قلايته” وهي غرفة صغيرة في قلب الجبل يعيش فيها الراهب منفردا، فاهتم الأنبا مكاريوس برهبان هذه المنطقة وكان يرعاهم ويرشدهم، وشجّعهم على العيشة معًا في مكان واحد، متعبدين وناسكين.

قلالي أثرية بدير الأنبا مكاريوس السكندري بالبحيرة
قلالي أثرية بدير الأنبا مكاريوس السكندري بالبحيرة

قدّر أحد المؤرخين رهبان هذه المنطقة في القرن السادس بما يقرب من 3 آلاف راهب، وظلت عامرة بالرهبان حتى القرن الثامن، ثم اختفت منها الرهبنة، حتى عادت لها مجددًا في السنوات الأخيرة، وساهم بشدة في ذلك الأنبا باخوميوس، مطران البحيرة، الذي جاء كقائم مقام للبطريرك، ما بين وفاة البابا شنودة الثالث وتجليس البابا تواضروس الثاني.

لم يزر من رؤساء الكنيسة المصرية على مر التاريخ هذه المنطقة إلا البابا تواضروس الثاني، وحدث ذلك في فبراير 2018، بعد الاعتراف به رسميًا كأحد الأديرة العامرة في واحدة من جلسات المجمع المقدّس عام 2014، معربًا عن عودة الحياة الرهبانية في هذه المنطقة على أطلال الدير الأثري الذي بني في القرن الرابع.

حفائر أثرية بدير الأنبا مكاريوس السكندري بالبحيرة
حفائر أثرية بدير الأنبا مكاريوس السكندري بالبحيرة

لهذا الدير مكانة سياحية وأثرية كبيرة، حيث جاء بعثات أثرية من فرنسا وسويسرا خلال القرن العشرين، أكثر من مرة، للكشف والتنقيب على الآثار القبطية بهذه المنطقة، وذلك لشهرتها بالقلالي في القرون الأولى للرهبنة القبطية، بعض هذه البعثات جاء في الثلاثينات من القرن الماضي، وتحديدا عام 1932، وفي السيتينات عام 1966، وفي الثمانينات 1988.

دير الأنبا مكاريوس السكندري بالبحيرة
دير الأنبا مكاريوس السكندري بالبحيرة

مساحة هذا الدير تتجاوز 50 فدانًا، ويضم الآن مضيفة ومكتبة وسكنى للرهبان، وتم ضم مجموعة من الرهبان الجدد إلى هذا الدير، وتعمل الكنيسة القبطية على تدعيم الحياة الرهبانية في هذه المنطقة خلال السنوات المقبلة.

دير الأنبا شنودة رئيس المتوحدين الدير الأبيض سوهاج

يقع هذ الدير جنوب غرب محافظة سوهاج، واسمه الأصلي الدير الأبيض لبنائه من الحجر الجيري، وهو يشبه المعابد المصرية القديمة في شكله الخارجي، تأسس هذا الدير في نهايات القرن الرابع، على يد أب يسمى الراهب بيجول، مع مجموعة من الرهبان، واصطحب معه ابن أخته الطفل ويسمى شنودة، الذي دخل الدير وعمره 9 سنوات فقط، وقضى بالدير 30 عاما قبل وفاة خاله بيجول، فأصبح شنودة رئيسًا للدير، وعمّر الدير وأرشد رهبانه، حتى وفاته بعد عمر طويل تجاوز المائة عام، فسمي الدير باسمه.

للدير الأبيض مكانة أثرية كبيرة، فلها تصميم مختلف وفريد، يتسق مع العصر الذي بني فيه، ويشبه في عمارته الطراز البازيليكي، كذلك يتميز بأيقونات وزخارف تختلف عن غيرها، كما يشبه من الخارج المعابد المصرية القديمة.

الدير الأبيض بسوهاج
الدير الأبيض بسوهاج

كما يوجد بالقرب من الدير مغارة الأنبا شنودة، في حضن الجبل، ويزورها كل من يأتي إلى الدير، ويتضح من بعض الكتابات التاريخية أن الأنبا شنودة كان شخصية ذي ثقل، وله كتابات ومريدين في زمنه، ومحبًا للفقراء والبسطاء، وشجّع المسيحيين على حماية الكنيسة المصرية من الأفكار الغربية، وقدّره الأقباط في زمنه تقديرا كبيرًا، ما كان سبب في توافدهم على الدير، وهو ما حافظ على مكانة الدير في قلوب الأجيال المتعاقبة، حتى أيامنا هذه.

الآن يحوي الدير مائدة كبيرة يأكل فيها زوار الدير، بالإضافة إلى مستشفى صغير وقاعة للمحاضرات، وبعض المباني الملحقة بالدير لخدمة الزوار والسائحين، وزارها قداسة البابا تواضروس الثاني في يناينر 2020، ضمن زيارته الرعوية لكنائس وأديرة محافظة سوهاج.

دير الأنبا بيجول والأنبا بيشاي الدير الأحمر بسوهاج

بني هذا الدير في نهاية القرن الرابع، ويقع جنوب غرب سوهاج بالقرب من الدير الأبيض، حيث يبعد عنه 4 كليومترات فقط، وسمي باسم الأنبا بيشاي تلميذ الأنبا بيجول، الذي أرشده ليعيش راهبًا في هذه المنطقة، كما يسمى هذا المكان بالدير الأحمر، نسبة إلى لون الحجارة التي بني بها.

الدير الأحمر من أهم معالم العمارة البيزنطية، ويشبه كنيسة سان فيتالي في إيطاليا، وكاتدرائية آيا صوفيا في تركيا، كما يشبه كنيسة القيامة بمدينة القدس، وله أهمية تاريخية وأثرية كبيرة للغاية، ما دفع اليونسكو لوضعه على قائمة التراث العالمي كأول موقع أثري مصري يدخل هذه القائمة، وكان ذلك في عام 2012.

دير الأنبا بيجول المعروف بالدير الأحمر
دير الأنبا بيجول المعروف بالدير الأحمر

تُجرى عمليات ترميم بالدير بدعم من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ويشرف عليها مركز البحوث الأمريكي، ويتم التعاون في مشروع الترميم هذا مع وزارة الآثار المصرية، وقد زار الدير وزير الآثار المصري خالد العناني في أبريل عام 2019، مع ممثل لليونسكو وعدد من السفراء والملحقين الثقافيين، وتم اعتماد مبلغ 30 مليون جنيه لعمليات الترميم، كي يوضع الدير على خريطة المزارات السياحية العالمية.

الآن، يحوي الدير مجموعة من الكنائس الأثرية، والجداريات التي لا مثيل لها، بالإضافة إلى استراحات للزائرين والسائحين، مع وجود مكتبة ومضيفة ومجموعة من الورش الحرفية الخاصة بالدير، ومزرعة ملحقة بالدير ولها نفس اسمه.

مصادر

  • مجلة الكرازة، السنة الثانية والأربعون، عدد الجمعة 18 يوليو 2014.
  • تاريخ الرهبنة والديرية في مصر وآثارهما الإنسانية على العالم، د. رؤوف حبيب، مكتبة المحبة.
  • التربية عند آباء البرية، القس أثناسيوس فهمي جورج.
  • الأنبا صموئيل وبديع حبيب، الكنائس والأديرة القديمة بالوجه البحري والقاهرة وسيناء، معهد الدراسات القبطية.
  • الآثار القبطية في وادي النيل دراسة في الكنائس القديمة، سومرز كلارك، ترجمة: إبراهيم سلامة إبراهيم، الهيئة العامة للكتاب.
  • كتاب “الدير الأبيض”، للراهب ثاؤفيلس الشنودي، ومراجعة الأنبا متاؤس أسقف ورئيس دير السريان.